نفتح
اليوم الملف الشامل عن فقه الاحتجاج، سواء على صعيد الأحكام ومناهج الاستدلال
الحاكمة لتحرير مناط المسائل السياسية الخاصة بالحريات، وكبح انفلات عناصر
الاستبداد والطغيان من جهة والعدو الصهيوني الغاشم في انفلات قواه الغاصبة في
الاحتلال والعدوان من جهة أخرى، أو على صعيد ما أسماه "ابن القيم" فقه
الحوادث الكلية، أو ما يمكن تسميته في لغة معاصرة أصول الفقه الحضاري الذي يستوعب
ويسكن داخله جزئيات الفقه الحكمي، ويرى أن فقه الاحتجاج هو من مكونات فقه الحضارة،
ومن العناصر المشكلة لرقابة الأمة على السلطة والسلطان أيا كانت هذه السلطة أو
السلطان، ومواجهة الطغيان أو سلطة احتلال غاشمة حرفتها الاستيطان والعدوان، سواء
اتخذ ذلك شكلا يتعلق بالإضراب، أو اتخذ شكلا يتعلق بالتظاهر، أو أي شكل يعبر عن
معاني الاحتجاج، التي تعتبر أحد تجليات معاني الجامعية والتزكية والعمران الذي يجب
أن تتربى عليه الأمة، وضمن عقلية كاشفة فارقة تؤسس لمعنى الفرقان بين خطاب الفتنة،
وخطاب الاحتجاج؛ بحسبان الأول مفككا، والثاني موحدا، بين دعاة الفتنة وطلاب العدل
والقيمة.
سنجد
أن ثمة رؤية بأن "فقه الاحتجاج" و"فقه الحرية" وغيرها من
قضايا ومسائل تأخرت في تأصيل الفقهاء المعاصرين. ونقصد هنا الفقه بالمعنى الفني
الحكمي أو الكلي الحضاري السنني. إن استخدام كلمة فقه في كثير من الأمور ليس على
اعتبار أنها تدخل ضمن ما يسمى بالفقه الحكمي أو الفقه الجزئي، ولكنه يتعلق بالفقه
بالمعنى الواسع، فالأمر يتعلق بالفقه كحالة حضارية متمددة، فاهمة لعميق المواقف
الإنسانية؛ فقه بالمعنى العمراني الشامل.
ونقصد
علاقة المقاومة وإسنادها بأصول الفقه الحضاري، هذا الأصل الذي يسير على قدمين: قدم
العمران في العالم والإنسانية، وقدم التربية والتزكية في الأمة المتعلقة بالحالة
المقاومة والجهادية، وإذا لم نحاول تطوير هذا النمط من التفكير والتنظير فسنظل
ننطلق ونقتصر في تلك المسائل على ما يسمى بالحكم الفقهي الجزئي، وهو على جلال
قدره، إلا أن الواجب التمييز بين افعل ولا تفعل في الأمور الجزئية، وبين افعل ولا
تفعل في الأمور الكلية، ومن ثم فإن تحويل الفقه الاحتجاجي إلى فتوى هذا حلال وهذا
حرام، تبسيط مخل؛ لأن المشكل حضاري والأمر ليس في الحل والحرمة فقط.
الفكرة
هنا في قدرة تربية الأجيال الآتية على أن تقدم فكرا وفقها ووعيا وسعيا تستطيع أن
تحدث به نهضة للأمة وإحياء، فنحن في فقهنا الحضاري لا نبين حكما، بل نرسي عمرانا. خذ
مثلا أناس أجهدوا أنفسهم بهل
المظاهرات شرعية أو غير شرعية؟ الإضراب حلال أم حرام؟
في حين أن كل شيء يعبر عن مواجهة ظلم بعينه يعد أصلا شرعيا موجها وهاديا، وبالتالي
الفقه الاحتجاجي هو فقه كلي من العناصر المهمة المشكلة لرقابة الأمة على السلطة
والسلطان والطغيان؛ وفعل الاحتلال والعدوان الظالم والقاهر.
فتاوى
الأمة لابد أن تصدر عن الأمة، وهي فتاوى تصدر عن الأمة في القضايا التأسيسية
والأساسية من الأحداث التي تطرأ عليها وتفرض نفسها عليها، مثل الحروب على ساحة
الأمة. وكل هذه الأمور لا تستوعب من خلال رؤية بسيطة، بل من خلال فقه كلي وفتاوى
أمة تستطيع المقاربة والتسديد في تلك المسائل من خلال إطار نظري مفسر وكاشف.
الخطاب
الاحتجاجي يقوم على مقاومة الظلم والظالم واقتضاء المظالم، وله أسباب كثيرة،
ويحاول أن يحفز الجماهير، ويؤكد ويستحضر وعيها وسعيها بالنسبة لمواجهة عناصر
الاستبداد داخل الأمة؛ لأن الاستبداد يخرب الأمة ويخرب أمرها؛ وكذا مواجهة
العدوان
على الأمة الذي يخرب العمران؛ وهو غير الفتنة التي يدعيه المخذلون عن الفعل الناهض
الجامع الدافع الرافع، فالعناصر التي تتعلق بالفتنة هي نوع من التفتيت والتشرذم
والتجزؤ داخل الأمة في إطار مصالح آنية وأنانية، حالة فتنة مضادة لتماسك الأمة. أما
الأمر الذي يتعلق بالاحتجاج فشيء آخر يختلف عن ذلك، والاحتجاج يحفز معنى جامعية
الأمة في هذا المقام، ومعنى عمرانها.
القضية
كما أسلفنا ليست افعل ولا تفعل فحسب، القضية افعل ولا تفعل تأثيرا ووعيا وسعيا، ولا
بد أن تضمن العناصر والشروط التي تحقق هذا التأثير وتلك الفاعلية؛ وكذلك الأمر
المتعلق بالآليات ليس هناك مقاصد إلا باعتبار أنها ترتبط بآليات ووسائل ومقدمات
الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وكل هذه العناصر الكلية إنما تؤكد أن
المقاصد لا الوسائل تشكل عنصرا مهما في التفكير في الفعل الحضاري. وكذلك القدرة على
تسكين الفقه الجزئي، والخطط الجزئية في المسائل الاستراتيجية.
كل
هذه الأمور نستطيع من خلالها أن نبني فقها حضاريا يتعلق بالاحتجاج والمقاومة
والاستبداد، ويتعلق بكل أنواع الفقه التي تحدث عناصر العمران، ومواجهة كل ما ينقضه
من عدوان من خارج أو طغيان من داخل. موضع التجديد يقوم على قاعدة ربط كل حكم
بسياقاته وبيئته، ومن ذلك كان الفصل النفيس الذي عقده الإمام ابن القيم في إعلام
الموقعين عندما تحدث عن تغير الفتوى بتغير الأماكن والأحوال، هذا التغير لا بد أن
يلحظه القائم على هذه المسألة، والقائم على التفكير في البناء الحضاري والعمراني.
يقدم
هذا المبدأ؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نسقا قياسيا مهما يمكن استخدامه
كأداة منهاجية في تحليل وتفسير وتقويم الواقع العربي المعاصر، بينما يحقق للحركة
السياسية أقصى فاعليتها في الواقع ضبطا وتقويما وتأثيرا. فمفهوم
"المعروف" أو "المنكر" إنما يشكل تعبيرا عن جوهر الأساس
القيمي لعملية التغيير، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعة أو الأمة، ذلك أن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤكد، كعهد المفاهيم الإسلامية السياسية، على
شمول المفهوم لكافة أنماط الحركة، فكما أنه واجب على الفرد فهو واجب على الجماعة
أن تمارسه. وهو مع كونه التزاما سياسيا بالأساس في أحد جوانبه، تتساند كافة جوانبه
الأخرى الاجتماعية والفكرية، إلى جانب شموله للحركة الحضارية في مجملها، وهو التزام
سياسي بالحركة داخل الأمة وحركة للمشاركة الفعالة ومقتضياتها. والمدخل الأساسي
للفهم الإسلامي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتأسس على هذه الآية: "وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". ذلك أن المهمة الملقاة على عاتق الأمة الإسلامية
عبرت عنها الآية بمصطلحين: أحدهما الدعوة إلى الخير، والآخر الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر. ومفهوم الدعوة إلى الخير والحق يشكل فهما ضابطا لمفهوم "المعروف"
و"المنكر"، من حيث لا يحددهما بشر وفق الهوى والرغبة، ولكنهما أمران مرتبطان
بالوصول إلى الخير والحق وتحقيق المصلحة ودفع المفسدة، كل ذلك في ضوء اعتبار الشرع.
إن
هذا الفهم الحضاري الشامل يصحح ما شاع في العقل العام الذي اقتصر شأن الأمر
بالمعروف والنهي عن النكر على جزئيات السلوكيات الفردية، دون المنكرات الجماعية أو
المنكر والمعروف السياسي أو المنكر العدواني على الأمة الواجب دفعه من كل طريق،
وإسناد المقاومة له بكل وسيلة أو أداة من تظاهرات وإضرابات، ومن قول وفعل مقاوم
وداعم.
التظاهر (في مظاهرة أو تظاهرة) تعبير عن الرأي مجموعا بضغط
من أجل تحقيق مطلب كأحد أشكال المشاركة؛ والتظاهر كفعل سياسي جماعي وجمعي يعبر في
الحقيقة عن جوهر الوعي الجمعي، كما أنه يتطلب تنظيما وتحديدا للأولويات، وتلك من
السمات المهم تواجدها في أي مجتمع. وقد يكون هدف التظاهر التأييد أو الاحتجاج.
ومن هنا فإنه انطلاقا من كل تلك المقدمات فإن الاحتجاج
بأشكاله ومستوياته يعد أحد أهم الأشكال المعاصرة التي تعبر فيها الشعوب في الأمة
الغاضبة وتشاركها الإنسانية الراقية لمقاومة المنكر الطغياني في الداخل، وكذا
المنكر العدواني أو الاستيطاني المحتل، وإيذانا بتشكيل حركة المعروف حضاريا في
الأمة والإنسانية بتنظيم تلك القدرات الفاعلة في أوعية مختلفة؛ مثل المظاهرات
والإضرابات والاعتصامات وغيرها من أشكال احتجاجية مؤثرة وضاغطة؛ وكذا كل الأوعية الاتصالية
والتواصلية المستحدثة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تشكل حالة رأي عام ضاغط
ومساحة وساحة للتدافع الإنساني الشامل للتأكيد على قيم الحق والعدل والحرية
ومقاومة الظلم والطغيان والعدوان.
فماذا عن طوفان الأقصى وما أحدثته من آثار ومآلات على مستوى
الأمة الغاضبة والإنسانية الراقية المرتبطة ببقايا من أصول الفطرة الراسخة وتمسكها
بالقيم العالمية الحافظة لبني الإنسان والحامية لكل عمران من أي تخريب للإنسان
والكيان والأوطان والأكوان، ومن كل عدوان أو غصب أو احتلال استيطان أو فعل ظالم أو
طغيان، إنه قانون التدافع الماضي لتحقيق مقصد الإصلاح الشامل والكامل ومواجهة
الفساد والإفساد العاتي في الأرض.
ضمن هذه الرؤية وليس غيرها نرى تلك المظاهرات وغيرها من
الاحتجاجات
التي عمت المعمورة من مشارقها إلى مغاربها؛ في الأمة الغاضبة والإنسانية الراقية
لتنادي بالحرية لفلسطين، رافعة الأعلام الفلسطينية؛ فطفقت الأجهزة الرسمية
والحكومية تمنع المظاهرات وتجرم رفع العلم الفلسطيني؛ فلم تلتفت المظاهرات لهذا
الطغيان بل أكدت على ضرورة مواجهة العدوان؛ ووضعت القضية الفلسطينية في نصابها
ومقامها بعد تآمر دول وحكومات على تصفية القضية الفلسطينية باسم التسوية ضمن تواطؤ
عام من أجهزة دولية وسياسات غربية حكومية رسمية؛ وتحت دعوى معاداة السامية.
قالوا -ومنهم يهود- في العالم إننا نواجه الصهيونية
الاستيطانية؛ قالوا إن معاداة الصهيونية هي ذاتها معاداة السامية؛ وإذا قلنا وماذا
عن معاداة الإنسانية التي يمارسها الكيان الصهيوني واحتلاله الغاصب؟ قالوا من حقه
الدفاع عن النفس، رغم أنه في الأصل والبداية محتل غصب الأرض واستوطنها بغير سند
شرعي، بدعوى أنها أرض لليهود كشعب، وأن هذه الأرض في فلسطين بلا شعب؛ يا لها من
فرية كاذبة؛ فمن هذا الذي يحاربهم ويريدون إبادته جماعيا ضمن ممارسات عنصرية واضحة
وفاضحة؛ دفعت هذه المظاهرات القضية الفلسطينية الى الواجهة وكشفت الحضارة الغربية
وقيمها الزائفة والمنافقة والمراوغة والخادعة، وهذا التناغم المتواطئ والانسجام
المتآمر؟
يدعي هذا الكيان أنه يدافع عن الحضارة الغربية وأنه رأس
حربة لها؛ وانساق الغرب يروج عن مقاومة الإرهاب، قاصدا المقاومة، ومبررا للغصب
والاحتلال والعدوان؛ لتنضم شعبة العدوان مسندة ومدعمة لهذا الكيان المصطنع الذي
اصطنعه الغرب بشعبة الطغيان الدولي القائم على انتقائية المعايير ونقضها وهدمها
بشكل أصبح لا يخفى عن كل ذي عينين، ضمن انكشاف تلك السردية الغربية التي لم تعد
تنطلي على أحد. ويظل صوت الحق والعدل من الأمة الغاضبة والإنسانية الراقية في
تظاهراتها المستمرة عاليا "الحرية لفلسطين" دائما وأبدا.
twitter.com/Saif_abdelfatah