الكتاب: نظرية عالم متعدد الأقطاب
الكاتب: ألكسندر دوغين، ترجمة د.ثائر زين الدين، د.فريد حاتم الشحف
الناشر: دار سؤال للنشر والتوزيع، واستفهام للنشر والتوزيع، بيروت
لبنان، الطبعة الأولى 2023.
(571 صفحة من القطع الكبير)
في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، تأسس النظام الدولي ثنائي
القطبية، بزعامة كل من الولايات المتحدة الأمريكية قائدة المعسكر الغربي الذي يمثل
النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي، والاتحاد السوفييتي الذي كان يمثل المعسكر
الاشتراكي، لكن إثر انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة
الاشتراكية في أوروبا الشرقية عام (1991) تمَّ تكريس انتصار النظام الرأسمالي
العالمي الليبرالي، فأصبحتْ "أمريكا" هي القوة الأكبر بلا منازعٍ في ظل
النظام الدولي أحادي القطبية، كما عملتْ علي ترويج نموذجها السياسي والاقتصادي
والثقافي في جميع أنحاء العالم فيما أصبح يعرف بالعولمة الرأسمالية الليبرالية
الأمريكية المتوحشة.
فكثر الحديث عن نهاية التاريخ وعصر الإيديولوجيات، وأنَّ مرحلة
جديدةَ بدأتْ، تتمَيَّزُ بالبراغماتية وغياب التعصب الأيديولوجي، وسيادة العقلانية
القانونية، وكان الانتشار الساحق لكتاب "نهاية التاريخ وخاتم البشر" The End of History and" last Man (1992) ""للياباني المتأمرك ـ كما يصفه البعض ـ
"فرانسيس فوكوياما" Francis Fukuyama ، دورٌ كبيرٌ في الترويج
للنظام الدولي الأمريكي.
وتتلخص أطروحة فوكوياما في أنَّ تحقيق الديمقراطية الليبرالية قد
أنهى مسار التاريخ وأكمله، وأنَّ الغرب الليبرالي يحتل القمة النهائية في الصرح
التاريخي العالمي، وذلك من حيث فهمه للتاريخ بوصفة عملية ديالكتيكية غائية. ومن
هنا يعتقد "فوكوياما" بأنَّ الديمقراطيةَ الليبراليةَ ستكون الحلقة
الأخيرة للأيديولوجيا الإنسانية، والشكل النهائي لأنظمة الحكم في العالم؛ وهي بهذا
تعتبر بمثابة نهاية للتاريخ باعتبار أنَّ الديمقراطية الليبرالية كنظام للحكم
خالية من التناقض الذي كان موجودًا في الأنظمة الأخرى.. وهكذا يغلق
"فوكوياما" باب التاريخ ويعلن نهايته الأبدية التي لن يظهر في أفقها أي
مؤشر جديد.
عندما تنبأ البروفيسور فرانسيس فوكوياما في أطروحته: (نهاية التاريخ)
في أواخر القرن الماضي، وقال إنَّ الديمقراطية الرأسمالية هي النموذج النهائي
للتطور البشري الإيديولوجي للإنسانية وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ، فإنَّه لم
يكن يدرك أنَّ هذا الطرح الإيديولوجي أيضًا لم ينطلق من رؤى واستقراءاتٍ عميقةٍ في
التاريخ والصيغ والنماذج البشرية، وأنَّه ربما سيفاجأ بما حدث للنظام المالي
الرأسمالي في الولايات المتحدة الذي اعتبره نهاية النهايات لكل الفلسفات والأفكار
الإنسانية، وأصبحت الاقتصاديات العالمية تعيش زوابعه السلبية وأثرها على الأمم في
عيشها واستقرارها، آخرها الأزمة المالية التي عصفت بالغرب في سنة 2008 وتداعياتها،
والأزمة العالمية الناجمة عن انتشار جائحة كوفيد 19، والإسقاطات المدمرة للحرب
الروسية في أوكرانيا 2022، بوصفها حربًا ضد النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده
الإمبريالية الأمريكية،، وذراعها اليمنى (الناتو)، وقد شكلتْ زلزالاً ضرب بنية
النظام الدولي الأمريكي أُحَادِي القطبية.
في عام 1974، أصدر فالرشتاين الجزء الأول من أطروحته الشهيرة: النظام
العالمي الجديد (The Modern World-System،1974،1980،1989) والتـي
وضع فيها عديد المقاربات النظرية؛ حيث يُؤَكِّدُ فالرشتاين بأنَّ من أهمِ هياكلِ
النظامِ العالميِّ الحاليِّ، "تراتبـية القوة "(Power Hierarchy) بين المركز والأطراف، حيث إنَّ المراكزَ القويةَ والغنيةَ تُهَيْمِنُ
وتَسْتَغِلُ ضعفَ وفقرَ الدول في الأطراف وتلعبُ التكنولوجيا دوراً رئيساً في
تحديد مستوى هل تكون الدولة مركزاً أم طرفاً، وأنَّ الإمبريالية بمعنى سيطرة دول
المراكز على دول الأطراف الضعيفة. لذلك فالهيمنة (Hegemony) تعنـي
وجود دولة في المراكز تسيطر مرحليا على البقية، والقوى المهيمنة، تعمل على إبقاء
توازنٍ للقوى وتفرض التجارة الحرة، مادام ذلك في مصلحتها، وأن الهيمنة مرحلية،
نتيجة لصراع الطبقات وانتشار عوائد التكنولوجيا.
لذلك يرى فالرشتاين أنَّ النظام العالمي يقترب الآن من نهايته، نظراً
لما يواجهه من أزماتٍ، حيث يواجه النظام العالمي الآن آثار أزمتين متزامنتين؛ وباء
كوفيد ـ 19، ثم الحرب الروسية ـ الأوكرانية واللتين تُعَدَّانِ من أقوى الأزمات
العالمية منذ الحرب العالمية الثانية والأشدَّ تأثيراً، فإنَّ كل المؤشرات
والإرهاصات على الساحة الدولية تُؤَشِّرُ لبزوغ فجر نظامٍ دوليٍّ جديدٍ مخالفٍ
لبداية النظام الدولي بمؤتمر فيينا عام 1815م عندما أبرمتْ إنجلترا وألمانيا
وروسيا والنمسا حلفًا يتيحُ لهم التدخل في شؤون الدول الأخرى، بينما تقول أدبيات
أخرى إنَّ تَدَاوُلَ المفهوم كان قبل ذلك
في ظل اتفاقيات ويستفاليا (1644 ـ 1648م) التي أنهتْ حرب الثلاثين سنة التـي مزقت
أوروبا وتصارعت فيها دولها، حيث التوجه نحو عالمٍ مُتَعَدِدِ الأقطابِ مع تراجع
للهيمنة الأمريكية لمصلحة كل من الصين وروسيا، خاصة الصين التـي أسست استراتيجيتها
للمنافسة في ترتيب النظام الدولي وفقاً لما يطلق عليه (استراتيجية الصعود السلمي)،
والتـي تعني الانتقال التدريجي إلى مرتبة لاعبٍ أساسيٍّ في العلاقات الدولية
ولكنَّ دون تهديد أمن واستقرار النظام الدولي، أو عبـر التسلل الناعم لمفاصل
النظام الدولي. وبدأتْ بتفعيل هذه الاستراتيجية على صعيد السياسة الخارجية الصينية
منذ أكتوبر عام 2003.
في هذا الكتاب الجديد المعنون على النحو التالي: "نظرية عالم
متعدد الأقطاب" يتألف من ثلاثة أقسامٍ، وحوالي ستةَ عشرَ فصلاً، والصادر عن
دار سؤال للنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، في نهاية عام 2023، للمفكر ألكسندر
جليفيتش دوغين، وهو فيلسوف سوفييتي وروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع ومترجم وشخصية
عامة، وهو مؤرخ وأستاذ جامعي وهو رئيس قسم علم الاجتماع للعلاقات الدولية في كلية
علم الاجتماع بجامعة موسكو الحكومية، وهو المستشار السياسي والعسكري للكرملين، وهو
زعيم الحركة الأوراسية الدولية، وفيلسوف القومية الروسية المتطرفة والذي يعتبره
البعض في الغرب "أخطر فيلسوف في العالم"، فقد ورد اسمه في قائمة
العقوبات الأمريكية عقب احتلال الروس لشبه جزيرة القرم.
لا يمكن على المستوى الفردي، لأي دولة عربية بل وعلى نطاق أوسع إسلامية، أن تدعي أنها بمفردها تشكل قطباً. لقد فهم ذلك جيداً القوميون العرب، وأيديولوجية البعث، وفي عهد عبد الناصر. وهذه ضرورة العالم متعدد الأقطاب.
يتألف هذا الكتاب من ثلاثة أقسام، في الأول ثمة افتراض وتأسيس
لمفهوم التعددية القطبية بالاستناد إلى اللغة والمصطلحات ونظرية العلاقات الدولية.
وتتطلب التعددية القطبية في الوقت نفسه نظرية أخرى تختلف عن جميع النظريات
الموجودة ـ الليبرالية، والواقعية، والماركسية، ومجموعة واسعة من نظريات ما بعد
الوضعية. ويمكن في الوقت نفسه، أن يكون لـ (نظرية عالم متعدد الأقطاب) علائقُ
مشتركة مع كل منها. لذلك، فإن وصف نظرية عالم متعدد الأقطاب، بمصطلحات نظريات
العلاقات الدولية سيعطي صورة أكثر اكتمالاً لجوهرها.
القسم الثاني مكرس للجغرافيا السياسية (الجيوسياسة) للعالم متعدد
الأقطاب. توصف هنا التعددية القطبية في نظام إحداثيات مختلف ـ جيوسياسي صارم هذه
المرة.
والقسم الثالث مكرس للجوانب الجغرافية والحضارية لما بعد الحداثة،
فهو يعالج الدولة - الحضارة التي تختلف عن الدولة ـ القومية بالمعنى البرجوازي.
إنها شيء أكبر. هي نتاج تكامل دول مختلفة تنتمي إلى حضارة مشتركة. إن توحيد
إمكانات شعوب أفريقيا كلها فيما بينها وأمريكا اللاتينية كلها، وكذلك أوروبا كلها،
وشمال شرق أوراسيا كلها، يمكن كلاً منها من اكتساب الإمكانات الكافية للعمل كقطب
كامل.
وهذا ينطبق بشكل مباشر على العالم العربي. لا يمكن على المستوى
الفردي، لأي دولة عربية بل وعلى نطاق أوسع إسلامية، أن تدعي أنها بمفردها تشكل
قطباً. لقد فهم ذلك جيداً القوميون العرب، وأيديولوجية البعث، وفي عهد عبد الناصر.
وهذه ضرورة العالم متعدد الأقطاب.
يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين: "عندما نتحدث عن عالم
متعدد الأقطاب اليوم، فمن الواضح أننا بحاجة إلى تجاوز حدود ليس المثنوية
الجيوسياسية نفسها، ولكن ما وراء حدود عزو المعنى النموذجي للبحر واليابسة إلى
وحدات سياسية معينة. وفي كل الأحوال تظل قوة البحر كما كانت في الحرب الباردة في
عالم ثنائي القطب. علاوة على ذلك، تُعدُّ هذه القوة البحرية نفسها، هي القوة
المهيمنة الوحيدة على نطاق عالمي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي".
لكن التعددية القطبية التي تحل محل القطبية الأحادية، وتتجلى بوضوح
اليوم في العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا، والتقارب بين روسيا والصين،
وهما قطبان صاعدان، لا تُعد هذه المرة استعادة لقوة اليابسة متمثلة بروسيا وحدها ـ
أي قلب أوراسيا البرية وفق الجغرافيا السياسية الكلاسيكية. هذا يتطلب منا ضرورة تقديم مفهوم "توزّع هارتلاند/ قلب الأرض".
ثمة هارتلاند روسي وأوراسي، لكنه لا يستطيع أن يثبت نفسه بمفرده
بوصفه قوة Land Power اليابسة.
من الواضح أنه من الممكن اليوم الحديث عن "هارتلاند صيني". فنلحظُ
أنَّ سياسة شي جين بينغ تهدف إلى تأكيد الصين كدولة ـ حضارة، والدفاع عن سيادتها
الكاملة، وهنا تتجلّى سياسة الصين باعتبارها حضارة اليابسة وكقارة، وليس كمنطقة
ساحلية في سياق الجغرافيا السياسية الكلاسيكية.
يمكن أن يمتد مفهوم هارتلاند إلى الهند القطب الرابع شبه الكامل.
ثم يأتي بعد ذلك هارتلاند الإسلامي، قوّة اليابسة الإسلامية (نستطيع
أن نرى أمثلة على السيادة المتزايدة والمستقلة عن الغرب وحضارة البحر، في سياسات
الدول الإسلامية مثل إيران وتركيا، وباكستان وإندونيسيا، والمملكة العربية
السعودية، وسوريا، ومصر، إلخ.) وعليه فمن المهم جداً أن ينشر كتاب نظرية عالم
متعدد الأقطاب حالياً باللغة العربية كونه يمثل سلاحاً مفاهيمياً للمرحلة الأخيرة
من نضال العالم الإسلامي من أجل الاستقلال عن العمليات الاستعمارية وما بعد
الاستعمارية.
يمكننا الحديث عن توزع هارتلاند فيما يتعلق بأفريقيا، مع الأخذ في
الاعتبار (مشاريع عموم أفريقيا) وأمريكا اللاتينية ـ وتُعد البرازيل والأرجنتين
هما مفتاح الجزء الجنوبي من القارة الأمريكية، والمكسيك مفتاح أمريكا الوسطى.
يمكن نقل هذه الحالة إلى أوروبا القارية أيضاً، مع الأخذ بعين
الاعتبار تراجع دعاة العولمة المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة على وجه
التحديد.
من الواضح أنه من الممكن اليوم الحديث عن "هارتلاند صيني". فنلحظُ أنَّ سياسة شي جين بينغ تهدف إلى تأكيد الصين كدولة ـ حضارة، والدفاع عن سيادتها الكاملة، وهنا تتجلّى سياسة الصين باعتبارها حضارة اليابسة وكقارة، وليس كمنطقة ساحلية في سياق الجغرافيا السياسية الكلاسيكية.
وأخيراً، فإن الولايات المتحدة نفسها، وفي حال وصول الواقعيين
والوطنيين (مثل ترامب أو غيره من الجمهوريين) إلى السلطة، قد يتشكل تماماً
هارتلاند الأمريكي. عندما يحدث هذا سينتهي بناء عالم متعدد الأقطاب. نحن ما زلنا
في الوقت الحالي في الطور الأول. ومن هنا يأتي الصراع المتصاعد مع نخبة العولمة،
الممثلة بوضوح في إدارة جو بايدن، التي لا تريد أن تعترف طواعية بتوديع نموذج
أحادية القطب وهيمنته.
إن توزّع هارتلاند، هو ضرورة للنموذج الجيوسياسي الجديد، والجيوسياسة
متعددة الأقطاب.
في نظرية التعددية القطبية تترابط الحضارات فيما بينها باعتبارها
الهوية الثقافية للمجتمعات (غالباً ما ترتبط بالدين والتقاليد) والتوجه
الجيوسياسي، وكذلك عامل الفضاء الكبير. ومن هنا فإن النتيجة الرئيسة في نظرية عالم
متعدد الأقطاب هي ظهور فاعل جديد في العلاقات الدولية. يعرف هذا الفاعل العالم
الصيني جانغ فييفي بشكل دقيق على أنه "الدولة ـ الحضارة". وقد استخدم فلاديمير
بوتين هذا المصطلح في خطاباته، ودخلت النسخة الجديدة من المفهوم الروسي إلى
السياسة الخارجية.
إنني أتفهم تماماً مدى حساسية هذه القضية بالنسبة لكل دولة إسلامية.
لكن أفق التكامل الإسلامي، يجب أن يؤخذ في الاعتبار على أي حال - فهذا هو المفتاح
لأن تصبح قطباً متكاملاً" (ص 19-20 من المقدمة).
في تعريف مفهوم التعددية القطبية
لغاية الآن لا توجد نظرية كاملة ونهائية لعالم متعدد الأقطاب، من
وجهة نظر علمية بحتة. ولا يمكن العثور عليها بين النظريات والنماذج الكلاسيكية
للعلاقات الدولية. ومن العبث أيضاً، البحث عنها في أحدث نظريات ما بعد الوضعية.
إنَّها لم تتشكل بصورة نهائية، حتى في أكثر المجالات ارتباطاً بالأمر وأهمية؛ وهو
مجال الدراسات الجيوسياسية، حيث يُفهم بصراحة وفي كثير من الأحيان، ما يبقى خلف
الكواليس في العلاقات الدولية، أو ما يفسر بشكل متحيز كثيراً.
ومع ذلك تكثر الأعمال المكرسة للسياسة الخارجية، والسياسة العالمية،
والجغرافيا السياسية، ولا سيما تلك التي تتناول العلاقات الدولية، وتُعالج موضوع
التعددية القطبية. يحاول عدد متزايد من المؤلفين فهم التعددية القطبية ووصفها،
كنموذج، أو ظاهرة، أو سابقة، أو احتمال.
لامس مجموعة من الباحثين، هم اختصاصيو العلاقات الدولية بطريقة أو
بأخرى، موضوعات التعددية القطبية مثل ديفيد كامبف (في مقال بعنوان: "ظهور
عالم متعدد الأقطاب")، ومؤرخ جامعة ييل بول كينيدي (في كتاب بعنوان:
"صعود القوى العظمى وسقوطها")، والجيوسياسي ديل والتون (في كتاب:
"الجغرافيا السياسية والقوى العظمى في القرن الحادي والعشرين التعددية
القطبية والثورة في منظور استراتيجي")، والعالم السياسي الأمريكي ديليب هيرو
(في كتاب: "ما بعد الإمبراطورية. ولادة عالم متعدد الأقطاب")، وآخرون.
ولعل أكثر من اقترب ـ في دراسة هذا الموضوع ـ من فهم جوهر التعددية
القطبية هو المتخصص البريطاني في العلاقات الدولية: فابيو بيتيتو، الذي حاول بناء
نظام جاد ومسوغ، بديل جديد لعالم أحادي القطب على أساس مفاهيم كارل شميث القانونية
والفلسفية.
لقد ذكر صحفيون ورجال سياسة مؤثرون مراراً "النظام العالمي
متعدد الأقطاب"، في أحاديثهم ونصوصهم. فقد وصفت وزيرة الخارجية مادلين
أولبرايت، الولايات المتحدة في البداية بأنَّها "أمة لا غنى عنها"، وفي
2 فبراير عام 2000، قالت إنَّ الولايات المتحدة لا تريد "إنشاء عالم أحادي
القطب وفرضه"، وإنَّ التكامل الاقتصادي قد خلق بالفعل "عالماً محدداً،
يمكن حتى تسميته متعدد الأقطاب".
وفي 26 يناير /كانون الثاني عام 2007 كان ثمة حديث مباشر في افتتاحية
نيويورك تايمز عن "ظهور عالم متعدد الأقطاب" يضم في عداده الصين، التي
"تشغل الآن مقعداً موازياً إلى الطاولة، مع مراكز القوة الأخرى، مثل بروكسل
أو طوكيو". وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2008، يشير تقرير "الاتجاهات
العالمية لعام 2025" الصادر عن مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي، إلى ظهور
متوقع "لنظام عالمي متعدد الأقطاب" في غضون عقدين من الزمن.
نظر كثيرون منذ عام 2009، إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، على أنه
نذير "عصر متعدد الأقطاب"، معتقدين أنه سيعطي الأولوية في السياسة
الخارجية الأمريكية اليوم أكثر من أي وقت مضى للقيام بخطوة نحو بدء إعداد كامل لنظرية عالم متعدد الأقطاب، وفقاً للمتطلبات الأساسية للمنهج العلمي الأكاديمي.
لا تتوافق التعددية القطبية مع النموذج الوطني لتنظيم العالم، وفقاً
لمنطق نظام وستفاليا.
يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين: "يجب وقبل الشروع في بناء
نظرية عالم متعدد الأقطاب عن كثب، تحديد المنطقة المفاهيمية التي هي قيد الدراسة
بدقة. سننظر إلى القيام بذلك، في المفاهيم الأساسية ونحدد تلك الأشكال من البناء
العالمي المعولم، التي هي بالتأكيد ليست متعددة الأقطاب، وبالتالي ستكون التعددية
بالنسبة لها هي البديل".
في نظرية التعددية القطبية تترابط الحضارات فيما بينها باعتبارها الهوية الثقافية للمجتمعات (غالباً ما ترتبط بالدين والتقاليد) والتوجه الجيوسياسي، وكذلك عامل الفضاء الكبير.
"لنبدأ بنظام وستفاليا، الذي يعترف
بالسيادة المطلقة للدولة القومية، والذي بُنيَ على أساسه المجال القانوني للعلاقات
الدولية بأكمله. هذا النظام، الذي تبلور بعد عام 1648 (نهاية الحرب التي استمرت 30
عاماً في أوروبا)، ومر بمراحل كثيرة من تشكيله، وعكس بدرجة أو بأخرى، الواقع
الموضوعي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد ولد من رحم رفض مزاعم إمبراطوريات
العصور الوسطى بالعالمية و"الرسالة الإلهية"، وتوافق مع الإصلاحات البرجوازية في
المجتمعات الأوروبية واستند إلى الموقف القائل بأن الدولة القومية هي الوحيدة التي
تتمتع بأعلى سيادة، وخارجها لا يوجد مثيل آخر له الحق القانوني في التدخل في
السياسة الداخلية لهذه الدولة - بغض النظر عن الأهداف والمهمات (الدينية أو
السياسية أو غير ذلك) التي قد يسترشد بها. ومنذ منتصف القرن السابع عشر، حتى منتصف
القرن العشرين، حدد هذا المبدأ السياسة الأوروبية سلفاً، وبالتالي، نُقِلَ، مع بعض
التعديلات، إلى بقية دول العالم.
تعلق نظام وستفاليا في البداية بالدول الأوروبية فحسب، وعُدَّت
مستعمراتها تابعة لها فقط، ولم يكن لديها ما يكفي من السياسة والإمكانات
الاقتصادية من أجل المطالبة بالسيادة المستقلة. ومنذ بداية القرن العشرين امتد
ميثاق وستفاليا ليشمل المستعمرات السابقة، بعد انتهاء الاستعمار نفسه.
يفترض هذا النموذج الوستفالي المساواة القانونية الكاملة لجميع الدول
ذات السيادة، فيما بينها. وهناك في مثل هذا النموذج كثير من أقطاب صنع القرار في
السياسة الخارجية في العالم، بعدد الدول ذات السيادة. هذه القاعدة (كما هي مدونة)
وبشكل تلقائي لا تزال سارية، ويُبنى عليها القانون الدولي كله"(ص28).
من وجهة نظر ألكسندر دوغين يختلف العالم متعدد الأقطاب عن النظام
الوستفالي الكلاسيكي في أنه لا يعترف بدولة قومية منفصلة ذات سيادة قانونية
ورسمية، بأنها قطب كامل متكامل. هذا يعني أن عدد الأقطاب في عالم متعدد الأقطاب،
يجب أن يكون أقل بكثير من عدد الدول القومية المعترف بها (والأكثر من ذلك غير
المعترف بها). إن الغالبية العظمى من هذه الدول اليوم غير قادرة على ضمان أمنها،
أو ازدهارها بمفردها، في مواجهة صراع ممكن نظرياً مع الدولة المهيمنة (الدور الذي
تؤديه بالتأكيد في عالمنا الولايات المتحدة). وبالتالي، فهي تلك الغالبية من الدول
تعتمد سياسياً واقتصادياً على سلطة خارجية، وكونها تابعة، لا يمكنها أن تكون مراكز
لإرادة مستقلة، وذات سيادة حقيقية، في القضايا العالمية للنظام العالمي.
ويعتقد ألكسندر دوغين أنَّ التعددية القطبية ليست نظاماً للعلاقات
الدولية، يصر على اعتبار المساواة القانونية للدول القومية هي الحالة الفعلية
للأوضاع. إنها واجهة فحسب الصورة للعالم مختلفة تماماً، تستند إلى توازن حقيقي،
وليس اسميا للقوى والإمكانات الاستراتيجية. تعمل التعددية القطبية مع الوضع الذي لا
يوجد بحكم القانون، بقدر ما هو في الواقع، وتستند إلى بيان عدم المساواة الأساسية
بين الدول الوطنية، في النموذج الحديث والثابت تجريبياً للعالم. علاوة على ذلك،
فإن هيكل هذا التفاوت يتمثل في أن القوى الثانوية والثالثية، غير قادرة على الدفاع
عن سيادتها، في مواجهة تحد خارجي محتمل من قوة مهيمنة، في أي تكوين تكتلي عابر.
وبالتالي، فإن هذه السيادة هي اليوم وهم قانوني.
يتبع...