بُعيدَ استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للفيتو في
مجلس الأمن من أجل إجهاض مشروع قرار عربي، يطالب بمنح دولة
فلسطين عضوية كاملة، ذرف
المندوب الفلسطيني رياض منصور دموعا سخية، وهو يتحدث عن الواقع المأساوي في قطاع
غزة، وتوقف عن الحديث برهة من الزمن كي يلتقط أنفاسه بعدما غلبت عليه الدموع، ظنا
منه أنّ دموعا فلسطينية يمكن أن تجلب لنا دولة، أو يمكن أن تنتزع حقوقا مشروعة أو
استعطافا من المجتمع الدولي، أو يمكن أن تليق بحجم مأساة شعبنا الفلسطيني، إلّا
أن تلك الدموع سواء كانت صادقة أم كاذبة لهي ثاني أكبر هدية مجانية لخصومنا بعد
الفيتو الأمريكي، بل ربما تكون الأولى كذلك، وذلك حينما بدا الدبلوماسي الفلسطيني
منكسرا على منصة مليئة بالذئاب الشريكة في مذبحة غزة، لا حاجة فيها لدموع إضافية، بعدما وصل صراخُ المنكوبين في قطاع غزة إلى كوكب المريخ جوا وإلى مركز الجاذبية
أرضا.
ومن ثم، يمكن القول إنّ من أراد البكاء على كارثة
غزة بهذا الشكل، فعليه أن يُسلّم حقيبته الأممية لأصحابها الحقيقيين، ويغادر مع أول
طائرة مُقلعة إلى الشتات، ثم يجلس كما نجلس نحن أمام قناة الجزيرة، ويتابع عن كثب
مجريات المأساة هناك، ويبكي كيفما شاء ومتى شاء وأنّى شاء، ولن يحاسبه أحد على
الإطلاق، بل ربما يأخذ أجره من الله تعالى. أمّا مقعد فلسطين الأممي فهو يحتاج إلى
دبلوماسية مميّزة الأداء تتقن دورها جيدا، إذ كان الأَولى من تلك الدموع، كلمات
توبّخ الأمريكي على صنيعه بعبارات مُنتقاة بعناية، وتعبّر عن الإصرار الفلسطيني
على نيل العضوية الكاملة من خلال معاودة الكرّات والمرّات، وأن يكون المتحدث رابط
الجأش، فنانا في لغة الجسد، ناريّا في لغة العيون، أديبا في الوقتِ نفسه بألفاظه
المناسبة لذلك المقام، إلّا إذا كانت لغتنا العربية بخيلة علينا وما ذلك على لغة
الضاد بصحيح.
لقد سُرّ الإسرائيليون كثيرا بذلك المشهد؛ لأنهم يريدون للفلسطيني أن يبقى متسولا في مجلس الأمن كما هو متسوّل في مخيمات الشتات، بل ويزعجهم أيُّ مشهد يظهر فيه الفلسطيني لو مبتسما فقط
لقد سُرّ الإسرائيليون كثيرا بذلك المشهد؛ لأنهم
يريدون للفلسطيني أن يبقى متسولا في مجلس الأمن كما هو متسوّل في مخيمات الشتات،
بل ويزعجهم أيُّ مشهد يظهر فيه الفلسطيني لو مبتسما فقط، ويعزّ عليهم رؤيته وهو
يتفسح على شاطئ البحر كما حصل مؤخرا، حينما غصت حسابات إسرائيلية بالسخط والغيظ
لمجرد رؤيتهم مئات الفلسطينيين يتنفسون الصعداء على شاطئ البحر المتوسط عند مدينة
دير البلح وسط قطاع غزة، يلعبون.. يمرحون.. يلهون قليلا.. ينفذون استراحة محارب،
لتنهال تلك الحسابات بدعوات وقحة لاستمرار حرب الإبادة عليهم، بينما تناولت حسابات
أخرى مشاهد من شمال القطاع، تظهر فيها الأسواق مليئة بأصناف الخضراوات والفواكه
والطعام، لتعبث تلك الحسابات بالمحتوى وتقدّمه على أنه فكٌّ للحصار وانتهاء للمأساة،
وكأن هذا المجتمع الدولي الذي بكى له رياض منصور، يستكثر على الفلسطيني في غزة
جولة سباحة سريعة تحت هول القصف، أو حبة بطاطا، أو كيلو خيار، أو طبق رز، بل عليه
أن يموت جوعا في غزة، ويُدفَن بلا بواكي له على الإطلاق.
وهنا أتساءل: ماذا حققت دموعنا في مجلس الأمن سوى مزيد
من السخرية؟ هَب مثلا أن مندوب الاحتلال الإسرائيلي هو الذي بكى بعد هجمات 7 تشرين
الأول/ أكتوبر. كيف سوف نتعامل نحن الفلسطينيين مع تلك الدموع؟ وما هو الشعور
الذي سوف ينتابنا في هاتيك اللحظات؟ ولعلّ تلك الدموع التي ذرفها رياض منصور
تذكّرني بمشهد آخر مماثل قبل عقد من الزمن، عندما تناظر متحدث جيش الاحتلال أفيخاي
أدرعي مع متحدث حركة فتح أسامة القواسمي على إحدى الفضائيات، فانفعل القواسمي ثم
بكى بحرقة، وهو يتحدث عن مجازر الاحتلال وقتله الأطفال واستهتاره بحقوق شعبنا
وحياته، فما كان من أدرعي إلّا أن قابل تلك الدموع باستخفاف منقطع النظير
وابتسامة ماكرة؛ لأنه استحوذ على مشهد عزّ مثيله حينما رأى خصمه الفتحاوي باكيا
أمام غطرسته.
وقد علّمنا التاريخ أن سطوره لا تحفظ إلّا أولئك الذين
يثبتون في مواقف يُتوقّع فيها التراجع أو الانكسار، وعُد بالذاكرة كثيرا إلى
الوراء عزيزي القارئ لنحو عقدين من الزمن، عندما اجتاح الغزاة الأمريكيون العراق
الشقيق والصديق، وألقوا القبض على الرئيس السابق صدام حسين، وما تبعَ ذلك من
مجريات طويلة لمسرحية محاكمته، وصولا إلى حبل المشنقة وإعدامه فجر عيد الأضحى
المبارك، ثم تسليم جثته إلى أقاربه ليدفنوها في مسقط رأسه تكريت. وهنا أسأل:
ماذا حفظَ التاريخ من كل هذه المجريات؟ وماذا قال الأمريكيون وغيرهم من الذين
تابعوا محاكمة صدام، أو الذين حضروا دقائق الإعلام لاحقا؟ وعمّ تحدثوا في مقابلاتهم
التلفزيونية مؤخرا، التي تناولت شخصية صدام في أصعب الأوقات؟
ورغم أن صدام ألقي القبض عليه في حفرة، وتعرض للضرب
المبرح في أثناء الاعتقال وسِيق إلى القفص سوقا بمشهد لا يليق برئيس دولة، إلّا أن
أولئك المتحدثين الذين ظهروا على الإعلام بعد عقدين من الزمن، لم يستحضروا إلا صدام
وهو ثابت المقام سواء في أثناء محاكمته أو في أثناء إعدامه، وأسبغوا عليه الكثير من
المدائح حول هذه النقطة تحديدا. وسواء اتفقنا مع الرجل أم اختلفنا معه، إلّا أن
أحدا لا يستطيع أن ينكر أنه كان ثابتا في لحظات الإعدام، ولم يستسلم لخصومه الذين
حاولوا سرقة مشهد ذليل لصدام على منصة الإعدام حينما توقعوا انهياره؛ لكنه فاجأهم
بعكس
توقعاتهم وظل متماسكا حتى اللحظات الأخيرة.
لا يمكن للدبلوماسية الفلسطينية أن تتحول إلى مجلس عزاء للنحيب والعويل، ولا يمكن لحيوانات تطلب الحماية (كما وصفنا رئيس السلطة محمود عباس) أن تحصل على حقّ ما، في مجلس الأمن، إلّا بإحدى حالتين: التساوق مع الإرادة الفلسطينية التي يجب أن تمثل أطياف الشعب الفلسطيني كافة بمختلف التوجهات، أو تسليم المقعد الأممي لأصحابه الحقيقيين، القادرين على جلب الدولة على مائدة الذئاب.
وواهم من يظن أن صدام لم يكن
خائفا في تلك اللحظات، فالموتُ مرعبٌ لنا جميعا، وصدام ليس استثناء، لدرجة أنه طلب
ارتداء معطف طويل تحسبا لارتجافه في أثناء الإعدام، فيرى خصومه ذلك ويسوّقونه حتى
قيام الساعة، ورغم أن صدام كان يعلم أنه ماض إلى غير رجعة، إلّا أنه آثر أن يخرج
من هذه الحياة بخيلا على خصومة لو بمشهد يتيم أو دمعة وحيدة.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإنني أستحضر هنا ردة فعل
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، حينما تلقى نبأ استشهاد كوكبة من
أبنائه وأحفاده بقصف إسرائيلي، استهدف سيارتهم في مخيم الشاطئ بمدينة غزة، فانتظر
الاحتلال منه انكسارا ودموعا يشفي بها غيظه وحقده جراء هزيمته العسكرية أمام كتائب
القسام، إلّا أن هنية أتقن فنّ التعامل مع الأعادي في لحظات صعبة، تفرض على الأب أن
ينهار عند فقده فلذات كبده، ولعلي أكاد أجزم أن هنية أمضى ليلته تلك باكيا على
أبنائه، بعيدا عن وسائل الإعلام، لكنه لقّن الإسرائيليين درسا قاسيا، دفعَ أنصار
المقاومة الفلسطينية من الرؤساء والوزراء والقادة والمُفتين، إلى المسارعة في
الاتصال به وتعزيته والإشادة بتصرفه في تلك اللحظات العصيبات.
ختاما.. لا يمكن للدبلوماسية الفلسطينية أن تتحول إلى
مجلس عزاء للنحيب والعويل، ولا يمكن لحيوانات تطلب الحماية (كما وصفنا رئيس السلطة
محمود عباس) أن تحصل على حقّ ما، في مجلس الأمن، إلّا بإحدى حالتين: التساوق مع
الإرادة الفلسطينية التي يجب أن تمثل أطياف الشعب الفلسطيني كافة بمختلف التوجهات،
أو تسليم المقعد الأممي لأصحابه الحقيقيين، القادرين على جلب الدولة على مائدة
الذئاب.