"نموت واقفين ولن نركع، ومثل ما حكيت: ما يبقى في الوادي إلا
حجارته، واحنا حجارته" آخر تغريدة كتبها
الطبيب الأسير ثم الشهيد عدنان البرش
بتاريخ 21 نوفمبر 2023 على منصة إكس، لقيت صدى كبيرا منذ اعتقاله وحتى استشهاده في
سجن عوفر الإسرائيلي، فعبارته التي استعادها الغزيون دليل قوي يؤكد تمسكه برسالته
الإنسانية ومداواة كل الجرحى تحت أشد الظروف.
في اليوم الثاني لشهر مايو لهذا العام الجاري، أعلن نادي الأسير
الفلسطيني عن استشهاد الطبيب الإنسان البرش، رغم أنه ارتقى شهيدا كما أعلن
الاحتلال الإسرائيلي في الـ 19 نيسان/ إبريل 2024 ، ما أثار غضب الفلسطينيين
والإنسانيين، فقد كانوا ينتظرون سماع خبر الإفراج عنه وقت الإعلان عن كشف الأسرى
المفرج عنهم من حين لآخر.
ارتبط صوت وصورة الطبيب الشهيد في أذهان متابعي الحرب على
غزة، فهو لم
يتوان منذ اليوم الأول للحرب عن فضح وحشية الاحتلال من خلال مداخلاته على القنوات
التلفزيونية، بعدما كان يسترق دقائق قليلة بين العمليات ومتابعة الجرحى من قسم
العظام بمستشفى الشفاء.
كل مداخلة تلفزيونية للطبيب البرش كانت رسالة للعالم حول أوضاع غزة،
ومن أبرز مداخلاته تلك التي بكى فيها بحرقة وقت نزوحه من مستشفى الشفاء هو
ومجموعة من الأطباء مجبرين من قبل جنود الاحتلال، وقتها أخبر مراسلة الجزيرة
قائلا: "والله يا أختي خرجنا من المستشفى بغصة، ولكن الحمد لله، أدينا الرسالة
وأجرنا على الله".
ولإيمانه بعمله الإنساني، وتطبيب جرحى الحرب، لم يستسلم البرش بعد
نزوحه من مستشفى الشفاء، بل استمر في علاج المصابين في مستشفى الإندونيسي حتى قصفه
الاحتلال، ما اضطره إلى النزوح للمرة الثالثة حيث مستشفى العودة، ومنها اعتقل بعد اقتحام
الجيش الإسرائيلي، ولم يعرف مصيره، إلى أن أعلن نادي الأسير الفلسطيني استشهاده،
ولا يزال الاحتلال يحتجز جثمانه.
وكما تعقيدات الحرب المستمرة منذ حوالي ثمانية شهور، حفر البرش
قصة
نجاح وبطولة سطرها عبر تنقله من مستشفى لآخر لمداواة الجرحى تحت وطأة القصف ونيران
الصواريخ، عالج بأبسط الوسائل المتاحة أعقد الحالات المرضية، وحقق نجاحا كبيرا،
فهذه ليست المرة الأولى التي يسطر البرش نجاحات مع الجرحى.
فصورة للطبيب البرش علقت في أذهان الناس وقت مسيرات العودة 2019،
تناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي لتحدث تفاعلا قويا، وذلك حين قرر أخذ قسط من
الراحة بمعطفه الأبيض الذي تخضب بالدماء بعدما أنجز حوالي 28 عملية جراحية بشكل
متواصل.
ما ورد كان اختصارا لحياة طبيب حمل أسمى معاني الإنسانية متنقلا بين
أقسام العظام في المستشفيات الغزية ليحقق نجاحات متميزة رغم الإمكانيات البسيطة،
وفي السطور التالية نستعرض تفاصيل حياة طبيب بات ملهما لأطباء العالم في الإنسانية.
ميلاده طبيب وخاتمته شهيد
شخصية الطبيب الإنسان الذي ذاع صيته في كل بقاع الأرض وقت الحرب
لتمسكه بعلاج مرضاه تحت أخطر الظروف، دليل على أن حياته ليست بعادية بل فيها
الكثير من الصبر والجد والاجتهاد حتى حصد مراتب عليا ميزته عن بقية أقرانه في مجال
الطب.
ولد الطبيب الشهيد يوم 17 سبتمبر/أيلول 1974، وقبل أن يتم عامه
الخمسين وبعد أكثر من أربعة أشهر من اعتقاله أثناء عمله مع مجموعة من الأطباء في
مستشفى العودة شمالي غزة، أعلن عن استشهاده يوم 19 أبريل/نيسان 2024.
طيلة فترة حياته تميز في قصة كفاحه العلمي والمهني، وقاوم المحتل كما
المقاوم الذي يحمل البندقية، عرض حياته للخطر مرات عدة، ولم يكترث لتهديدات
الاحتلال، حتى وقت اقتحام مستشفى الشفاء كان يرد على الضابط الإسرائيلي عبر الهاتف
بثبات انفعالي دون أن يهتز، ويخبره أنه سيواصل عمله ولن يتخلى عن مرضاه.
وحين اقتحم جنود الاحتلال مستشفى الشفاء ودمر ساحاته وبعضا من مبانيه
ومعداته الطبية باستهدافها بقذائف حارقة، ثم أجبر الطواقم الطبية والنازحين الرحيل
جنوبا بعدما اعتقل عشرات الشباب من الكوادر الطبية والنازحين.
رفض البرش النزوح جنوبا وسار مشيا على الأقدام لساعات حتى وصل مستشفى
الإندونيسي وباشر في مداواة الجرحى دون أن
يأخذ قسطا من الراحة، فهو يدرك جيدا أن المرضى بحاجته كما عائلته التي لاتزال في
الشمال رغم أنه فقد العشرات من أطفال ونساء عائلته المقربين.
اليوم زملاء الطبيب البرش يفتحون بيوت عزاء له سواء من لازمهم في
مقعد الدراسة بمدرسة الفالوجة فترة الإعدادية، أو الثانوية من مدرسة حليمة
السعدية، وكذلك زملاءه الأطباء العرب في الخارج الذين نعوه كثيرا ووقفوا كثيرا عند
تفاصيل تضحياته من أجل إغاثة مرضاه، فكان فصلا يدرس في مساق أخلاقيات مهنة الطب.
نال شهادة البكالوريوس في كلية الطب بجامعة يانش في رومانيا، ومن ثم
تخصص جراحة العظام والمفاصل، وحصل على البورد الأردني والبورد الفلسطيني، ثم نال
الزمالة البريطانية في جراحة الكسور المعقدة في لندن.
مهارة ودقة البرش في الجراحة جعلته ينال سمعة كبيرة في عموم فلسطين،
فتولى رئاسة قسم العظام بمستشفى الشفاء، وظل أحد أعمدته الطبية المرموقة، ومن هناك
من مستشفى الشفاء بدأت شهرته ويقبل عليه المئات من المرضى الذي فضلوا أن يجري لهم
عملية بدلا من العلاج في الخارج.
وكان البرش يشارك مرضاه في العلاج، حين كان يصف لهم السباحة علاجا
لالتهاب المفاصل، ودوما كان يفاجئهم في الصباح الباكر وهو يرتدي ملابس السباحة
مستعدا لمنافسته في عرض البحر.
وكما كان يولي عمله ومرضاه وقتا طويلا، إلا أنه كان محبا لعائلته
ويحاول نسيان ضغط العمل وهو وسطهم ويقضي وقته القليل برفقتهم في أمور يحبها، فهو
متابع للرياضة ويشجع الفرق المحلية والعربية والعالمية، عدا عن أنه رئيس الدائرة
الطبية للاتحاد الفلسطيني لكرة القدم.
كما كان يشارك صغاره في 2018 2019 مسيرات العودة السلمية والفعاليات الوطنية إيمانا بقضيته الفلسطينية وحقهم
في المشاركة.
الطبيب البرش الذي قضي حياته متنقلا بين أروقة قسم العظام في مستشفى
الشفاء، كان يحاول العيش كإنسان طبيعي؛ فقد كان يمارس هواياته التي تأخذه إلى
العالم الذي يحب عبر آلة البيانو التي يعزف عليها ما يحب من " فيروزيات
وكلثوميات" كما كان يقول.
كما وحصل على ماجستير علوم سياسية من جامعة الأزهر، ووقتها حين سأله
زملاءه لماذا أنت الطبيب تختار السياسة فكان رده وقتها بسيطا مقنعا:" أريد
معرفة العملية السياسية كيف تحدث كما أعرف تماما العملية الطبية"، مما جعله
متميزا في الحديث مع الصحافة العربية والدولية عند نقل الحقيقة وفضح جرائم
الاحتلال الإسرائيلي.
وبمجرد الإعلان عن استشهاد الطبيب وقبلها اعتقاله، انهالت عشرات
الشهادات من الغزيين على منصات التواصل الاجتماعي، يحكي أصحابها مواقفهم مع طبيب
لم يبخل عليهم بعلمه نصائحه حتى بعد تماثلهم للشفاء.
فما جرى مع البرش بشكل خاص هي عملية اغتيال متعمدة، تأتي في إطار
عملية استهداف ممنهجة للأطباء في غزة والمنظومة الصحيّة، ومنها العدوان الذي شنه
الاحتلال على مستشفى الشفاء بشكل خاص واستهداف طاقهما الطبيّ، وما تلا ذلك من
عملية تدمير كلية للمستشفى، وتحويله إلى مقبرة حيث استشهد واعتقل المئات فيه.
لم يكتف الاحتلال باعتقال البرش، بل واصل عمليته الممنهج للانتقام
منه بقصف بيوت عائلته بمنطقة جباليا البلد ليستشهد نحو 70 من أفراد أسرته وعمومته.
ظهور البرش عبر شاشات التلفزة استفز الاحتلال لاسيما لكشفه عن
الأسلحة التي تقذفها الطائرات الحربية في قتل الغزيين، وجعله في دائرة الاستهداف
منذ بداية الحرب حيث كانت تأتيه التهديدات بشكل مباشر على هاتفه، ثم قصف بيته وهو
محاصر في مستشفى الشفاء قبل الهدنة بيومين، وفي اليوم الأول من الهدنة ذهب وتفقد
ركام بيته ووقتها كان صابرا وهو يردد "سأبني أفضل منه، كلنا فداء فلسطين".
شهادات توثق استهدافه عن عمد
في قصص الشهداء دوما يشعرون بدنو الأجل، حيث يستذكر المقربون منهم
إشارات يلمحون بها وقت رحيلهم، يقول الطبيب حسام المدهون إنه اعتقل مع الشهيد
البرش قبل أن يطلق سراحه لاحقًا :"قبل اعتقالنا كان بجانبي الدكتور عدنان
البرش، وهمست له: يا دكتور ما بك مستعد؟، فأجابني: لقد نجوت في المرة الأولى لكن
إحساسي يشي بأني لن أفعلها هذه المرة، فلنزر الجرحى"
وأضاف المدهون في شهادته: "هذا الحديث كان بين جدران الدرج
(السلم) على اعتبار أنها منطقة آمنة من رصاص القناص، لقد مررنا بالفعل على الجرحى
وتابعنا أحوالهم، وبعدها بساعات تم اعتقالنا"، وختم: "لقد كان الطبيب
البرش أسدًا شامخًا".
وكان واضحا لعائلة البرش، استهداف الاحتلال لاعتقال واغتيال ابنهم
الطبيب "عدنان" فكما يخبر يتواصلون مع مراكز حقوق الإنسان والمحامين
للاطمئنان على الدكتور عدنان الذي انقطعت أخباره منذ لحظة اعتقاله، والخبر الوحيد
الذي تلقيناه كان 'خبره'".
ويقول: "كانت القوات الإسرائيلية تمنع أي شكل من أشكال التواصل
مع الدكتور عدنان، ولم يُسمح لنا حتى بإحضار المحامين إلى السجن.
ويتابع: "خمسة شهور من التعذيب، ولا نعلم عنه شيء، إلا من خلال
بعض الذين خرجوا من الاعتقال وقالوا إنه لم يبق من الأطباء في التحقيق، إلا
الدكتور عدنان".
ينهي الطبيب "منير" شهادته قائلا:" لو أخذ منه
المحققون ما يريدون، لكان قد أُطلق سراحه، لكن عدنان شخص عنيد في الحق وهذا هو
عهدنا به وبصموده".
ومن العبارات التي بقيت عالقة في عقول الغزيين حين أخبر الطبيب عدنان
عبر قناة الجزيرة في لقاء معه "احنا بائعين حالنا احموا أطفالنا" وما
قاله كان دليلا على حجم المجازر البشعة حيث التنكيل والتشويه في أجساد الصغار.
ويبدو واضحا أن ما دفع الاحتلال لقتل الطبيب البرش، هو أنه شاهد على
الأسلحة التي استخدمها الاحتلال في استهدافه للأطفال والمدنيين.
"نموت واقفين ولن نركع"، بقي
يرددها حتى اللحظة الأخيرة من عمله حال فكر أحدهم بدفعه لأخذ قسط من الراحة، فهو
سخر مهنته لتكون إحدى أدوات كفاحه ونضاله ضد الاحتلال الإسرائيلي، لدرجة أنه منذ
الشهر الثاني للحرب أحضر أبناءه الستة وهم: "يزن 16 عاما، يامن 12عاما، تميم
9 أعوام، الين 7 أعوام، وركان 5 أعوام وصغيرهم كنان 3 أعوام".
وأصرّ البرش على الرباط والمقـاومة في المستشفيات الغزية من أجل
مداوة الجرحى حيث كان يردد: لن نغادر إلّا إلى السماء أو إلى بيوتنا كرامًا.
وبمقتل البرش، ارتفعت حصيلة قتلى الكوادر الطبية في غزة إلى 492 منذ
7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وفق بيان وزارة الصحة في القطاع.