أبهر الطلاب الأمريكيون العالم بحجم الاحتجاج، ودرجة الصمود، وعمق الشعارات
والمطالب التي رفعوها لنُصرة
فلسطين والدعوة إلى إيقاف الحرب الجائرة علة غزة، بل
إن انتفاضتهم، من أعرق جامعة وأبرزها جودة، جامعة كولومبيا، امتدت إلى أكثر من أربعين
جامعة على صعيد الفيدرالية الأمريكية، لتصل "القارة العجوز" أوروبا، حيث
تظاهر طلاب " المعهد الفرنسي للعلوم السياسية"، ولم يترددوا بدورهم في المطالبة
بحرية فلسطين وإيقاف الحرب على قطاع غزة.
فمنذ انطلاق الشرارة الأولى لانتفاضة الطلاب يوم الثمن عشر من شهر نيسان/
أبريل 2024 تناسلت الأسئلة حول دلالات ما أقدم عليه الطلاب الأمريكيون، والأبعاد
التي تنطوي عليها شعاراتهم ومطالبهم، وما الدوافع وراء هذه الحركة الواسع والممتدة،
التي لم تشهد أمريكا نظيرا لها منذ المظاهرات المناهضة لحرب فيتنام عام 1968.
ولّدت انتفاضة الطلاب الأمريكيين سيلا من المناقشات وردود الفعل الكلامية
داخل المجتمع الأمريكي، وفي مناطق كثيرة من العالم، جاءت أغلبها مشيدة بالوعي المتنامي
لدى الأجيال الجديدة من المجتمع الطلابي والأكاديمي على حد سواء، وظهرت، على
النقيض منها، سردية نسجتها
إسرائيل وتداولتها الأوساط المساندة لها، والمؤيدة
لحربها الظالمة على الفلسطينيين، وقطاع غزة على وجه التحديد.
ولّدت انتفاضة الطلاب الأمريكيين سيلا من المناقشات وردود الفعل الكلامية داخل المجتمع الأمريكي، وفي مناطق كثيرة من العالم، جاءت أغلبها مشيدة بالوعي المتنامي لدى الأجيال الجديدة من المجتمع الطلابي والأكاديمي على حد سواء، وظهرت، على النقيض منها، سردية نسجتها إسرائيل وتداولتها الأوساط المساندة لها، والمؤيدة لحربها الظالمة على الفلسطينيين
ففي تصريح رسمي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، تم اعتبار مظاهرات الطلاب
الأمريكيين شكلا من أشكال معاداة السامية، وسعيا لإضعاف إسرائيل والضغط على الطلبة
الإسرائيليين في أمريكا قصد تهجيرهم، والواقع أنها سردية غدت معروفة، وغير مقنعة،
ومضللة للعالم وللإسرائيليين أنفسهم، لأن آلة الحرب دمرت بالجملة آلاف
الفلسطينيين، وما زالت مستمرة في جرائم القتل والإبادة، بالضد من سُنن الكون التي
تحرم القتل، واستهتارا بالقوانين والشرائع الدولية التي جرمت قتل الناس بغير حق.
فمن أجل تأكيد سلامة سرديته استحضر رئيس الوزراء ما قامت به
الجامعات
الألمانية خلال ثلاثينيات القرن الماضي، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود أثناء هذه
الحقبة، والتضامن الذي أبدته الجامعات لألمانية مع سياسات النازية وقتئذ. والواقع
أن وظيفة هذه السردية غير المؤسسة على أي عنصر يقبله العقل، ولا أي ضابط أخلاقي
وقيمي، تكمن في "شيطنة" انتفاضة الطلاب، وتقديم أمواج الشباب من الجيل
الجديد، المرابطين بحرم الجامعات، وكأنهم بعيدون عن فهم واقع القضية الفلسطينية وما
يرتبط بها، ويجهلون تماما أنهم باحتجاجاتهم يعرضون وجود إسرائيل للإضعاف وخطر
الزوال.
دأبت إسرائيل دائما ومنذ مباركة الأمم المتحدة ظهورها ككيان في الشرق
الأوسط عام 1948، على تقديم نفسها ضحية لما يجري حولها ويُحاك بها، ولم تقدر نخبتها،
ولا مناصروها، ولا صناع سياساتها، على النظر جميعا إلى أنفسهم بشجاعة ووضوح، والإقرار
بما قامت به دولتهم؛ وتقوم به على الدوام من جرائم في حق الفلسطينيين. لذلك، تبدو هزالة
هذه السردية في أنها لا تزوّر التاريخ وتنسج أساطير تافهة ومضللة على هديها فحسب،
بل تساهم بقوة في تأجيج الصراعات داخل المجتمع الأمريكي، وعلى وجه الخصوص تعمق الشروخ
بين المجتمع الطلابي والأكاديمي، وباقي مكونات المجتمع الأمريكي، خصوصا وأن هؤلاء
الطلاب، إناثا وذكورا، هم من يقودون أمريكا بعد سنوات.
فتحت تطورات انتفاضة الطلاب الأمريكيين عيون المتابعين لفصولها على مفارقة
بالغة الأهمية، وعلى درجة عالية من الدقة والخطورة بالنسبة للمجتمع الأمريكي. أما
المفارقة فمفادها أن غالبا ما تحصل مثل المظاهرات والانتفاضات في البلدان ذات
الديمقراطيات الواطئة، حيث يتم تعبئة المجتمع الطلابي وتجنيده من أجل الضغط على
حكومات دولهم، بل وأحيانا تكون وقودا لتغييرات عنيفة، أو انقلابات مدمرة، وإن لم
تنج المجتمعات الغربية تاريخيا من مثل هذه الظواهر، أي توظيف المجتمعات الطلابية لخدمة
رهانات وأغراض سياسية، كما حصل عام 1968 في كل من الولايات المتحدة، حين تظاهر
الطلاب ضد الحرب الفيتنامية، وفي شهر مايو من العام نفسه (1968)، كانت ما سميت
وقتئذ "ثورة الطلاب"، التي كانت في أصل سقوط الرئيس "ديغول" الذي
سمي "أب الجمهورية الخامسة".
تنطوي هذه المفارقة على عودة حثيثة لنوع من اليقظة والوعي الجديدين، لفئات من الجيل الشبابي الجديد، الذي ربما نزع الغشاوة عن ذهنه، وفتحت حرب إبادة فلسطين عيونه ليدرك بشكل أوضح ما تقوم به إسرائيل، المدعومة سياسيا وماليا من قبل بلاده، وكيف تكيل سياسة حكامه بمكيالين، وهو ما يتنافى من جوهر القيم التي أسس على قاعدتها مجتمعه منذ بداية تكونه
لذلك، تنطوي هذه المفارقة على عودة حثيثة لنوع من اليقظة والوعي الجديدين،
لفئات من الجيل الشبابي الجديد، الذي ربما نزع الغشاوة عن ذهنه، وفتحت حرب إبادة فلسطين
عيونه ليدرك بشكل أوضح ما تقوم به إسرائيل، المدعومة سياسيا وماليا من قبل بلاده،
وكيف تكيل سياسة حكامه بمكيالين، وهو ما يتنافى من جوهر القيم التي أسس على
قاعدتها مجتمعه منذ بداية تكونه في مستهل القرن السابع عشر.
ثم إن أعز ما ينادي به الطلاب ويشددون على احترامه هو ما ضمنه الآباء
المؤسسون في دستورهم الفيدرالي لعام 1787، أي حرية الضمير والراي، والفكر
والتعبير، والتظاهر، وكل ما بنى الأمريكيون على قاعدته مجتمعهم ومؤسسات بنائهم الفيدرالي.
تعرض أكثر من 500 طالب وأكاديمي للاعتقال في الجامعات الأمريكية منذ انطلاق
الشرارة الأولى لانتفاضة الطلاب من قلب حرم جامعة كولومبيا الشهيرة، كما مارس بعض
السياسيين من قبيل رئيس مجلس النواب وكوكبة من أعضائه؛ ضغوطا على القيادات
الإدارية والعلمية للجامعات الأمريكية، كما هو حال جامعة كولومبيا، سعوا من خلالها
إلى التلويح بقطع مساعدات الفيدرالية لموازنات الجامعة، وإحالة الطلاب والأكاديميين
على المساءلة التي قد تصل إلى التوقيف والشطب والطرد الفردي والجماعي، وهو ما يتعرض
مع القيم الأمريكية، كما كرسها الدستور، بل إنها متناقضة مع روح تأسيس المجتمع
الأمريكي، أي الحرية في أبعادها السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والدينية
والعقدية، ومع ذلك من يدري أن انتفاضة الطلاب الأمريكيين ستولد تفكيرا جديدا ونخبة
أمريكية جديدة.