نكتب بثقة مطلقة في المقاومة، وليس لدينا علم بالتفاصيل الميدانية إلا ما
نلتقط من القنوات الإعلامية المناصرة للمعركة، ونجزم بأن الحسم يجري في
رفح، بل
نقول بأن هزيمة العدو بعدها ستكون أثقل من هزيمته قبلها، فلم يفعل إلا أن مكّن
للمقاومة منه وقد توفرت له فرصة للهروب بجلده فضيّعها بالغباء الذي هو فيه جِبِلّة.
سيرفع الكلفة في الأرواح هذا يقين، فليس له من نصر إلا قتل الأطفال والحرائر العزّل
تحت الأسوار، وهذا الانتقام الجبان هو علامتنا على يقين بهزيمته التاريخية.
لم يقض العدو على قيادة المقاومة، ولم يفرح بصورة أسير منها، ولم يقض على
سلاحها الذي لا يزال يمطره وابلا، ولم يهجّر السكان ويتخلص من وجع الرأس الغزاوي،
لذلك يقوم بمناورة أخيرة ليقطع المدد عن
غزة في المستقبل المنظور، ويديم المعركة
بأشد الأساليب خساسة في تاريخ الحروب، سجن ملايين الناس تحت الأنقاض جياعا وعراة، وهذا تخصصه منذ دخل الأرض المباركة، لكنه مهزوم ويقاتل مدبرا.
العذاب والأمل
نقرأ للغزاوي يشكو ألمه فنشاركه من بعيد ونود أن نعزيه بحكمة بسيطة، إخوانه
من خارج غزة الذين لم يخوضوا حربا مثل حربه عاجزون عن نصرته لأنهم تخلوا عن
معركتهم، فهم تحت احتلال بقفازات وطنية ووهم سيادة. نتوقع ترفّعه عن التعزية فهو
صابر مصابر وثابت ويعاني وحده ومازلت معركته مفتوحة، لا نلقي عليه دروسا فهم سيد
الدرس والمعرفة، لكنه حر وهذا يعزي عن الثمن القاسي. في زمن لاحق يحق له أن يزايد
على المتعاطفين العاجزين زمن المعركة.
وجب أن يظهر في هذه اللحظة فريق دبلوماسي قوي يقود معركة إعادة الإعمار ويمارس الضغط العالي لفتح المعبر، وليتجاوز الحديث العاطفي عن غزة إلى حديث البواخر والقوافل الإغاثية، ويضع بالخصوص النظام المصري تحت معصار الضغط الدبلوماسي، فهذا النظام متواطئ على غزة، وقد سلم المعبر طائعا ليتخلص من وجع الرأس الغزاوي مقابل سلامته.
في رفح، سيدفع الغزاوي ثمنا إضافيا، لكن ذلك لن يقلل من نصره، لقد تفطن العدو
إلى أنه لم يحدد مصير
المعابر في الاتفاق المعلن لنقل الاتفاق المؤجل، فكانت معركة
رفح وهدفها في تقديرنا قطع المدد مستقبلا عن غزة، كل أنواع المدد؛ الطبي الحيوي
ثم الغذائي ثم إعادة الإعمار. الصورة تتضح، سيمسك بخناق غزة فلا تتسلح ولا تعالج
كسورها ولا تبني خرابها من جديد، سيجعل
الاحتلال من ذلك معركة طويلة ومضنية، وله
في الجوار نصير مكنه من المعبر، وسيشاركه معركة الخنق.
قطع المدد هو علامة على قرب نهاية المعركة، فلم يجد السلاح ولم يوفر صورة
نصر. القيادة في أرضها والسلاح ما يزال منه بقية ومصانعه/ أنفاقه لم تصل إليها يد
العدو، والحاضنة متماسكة.. نجمع العناصر فنرى هزيمة العدو ونرى النصر، ولكننا نرى
المعركة القادمة الطويلة المضنية، ونرى أيضا عجز الأصدقاء! ستمر كل ذرة مساعدة
بأمر العدو وتحت نظره، وسيجد في الإسمنت وحديد التسليح ضررا عليه، فيطيل عمر
الخِيام وعيش الخيام، ولكنه لم يتعلم من غبائه شيئا عن الصبر الفلسطيني.
الأصدقاء الخجلون
لا نظن أن المقاومة كانت محتاجة للرجال أو السلاح الثقيل، وسلاح الأصدقاء
أقل كفاءة مما توفر للعدو. لم نتوقع حربا شاملة وإن كانت أمنية، لكن اختبار إعادة
البناء سيكون اختبارا حقيقيا لهؤلاء الأصدقاء.
من نعني بهؤلاء الأصدقاء؟ اليمن الفقير فعل ما يستطيع، ولكننا يقيننا بموقف
مقاوم في الكويت وسلطنة عمان ودولة قطر والجزائر وتركيا وبعض ليبيا لا كلها، ودول
بعيدة في الجغرافيا وقريبة في الموقف التحرري في بعض آسيا وفي أمريكا اللاتينية
وجنوب أفريقيا، وربما نضيف إليهم موقفا إنسانيا لمسناه في إسبانيا وبلجيكا. هذه
الدول تملك فائضا من مال وتملك قوة سياسية في الساحة الدولية، بشرط اجتماعها على
كلمة واحدة، ويمكنها؛ ونظنها ملزمة بواجب أخلاقي وسياسي تجاه الإنسان في غزة.
ومعبر رفح المخنوق، هو بوابة الدخول إلى غزة، وهذا أوان فك الخناق لأسباب إنسانية لا
تصرف في الإعلام بل على الأرض، وليس مطلوبا منها تهريب السلاح إلى غزة.
وفد دبلوماسي إنساني
من يوحد هذه الدول على موقف إنساني بعد هدوء المعركة ونراه قريبا؟ وجب أن
يظهر في هذه اللحظة فريق دبلوماسي قوي يقود معركة إعادة الإعمار ويمارس الضغط
العالي لفتح المعبر، وليتجاوز الحديث العاطفي عن غزة إلى حديث البواخر والقوافل
الإغاثية، ويضع بالخصوص النظام المصري تحت معصار الضغط الدبلوماسي، فهذا النظام
متواطئ على غزة، وقد سلم المعبر طائعا ليتخلص من وجع الرأس الغزاوي مقابل سلامته، ويمارس
بعض النخاسة على الحدود، شأن كل وضيع يتاجر في آلام البشرية.
ليت أحدا يسمعنا عندما نقترح وفدا من شخصيات عالمية ذات سمعة حسنة وموقف
شريف (بعضهم يقود الآن انتفاضة الطلاب في أشهر جامعات العالم)؛ يطوف بأصدقاء غزة
مقدما خطة مساعدة وخارطة تنفيذ، ويبدأ رحلته الطويلة من البرازيل وجوارها المتعاطف، ويمر بجنوب أفريقيا وآسيا؛ لبلورة مسارات المساعدة ونوعها وزمنها، وليس لها من زمن
غير هذا الزمن المؤلم.
نجزم بوجود الملايين من الناس في أنحاء العالم مستعدة للدعم والإسناد المادي والطبي، ولكنها تحتاج معبرا مفتوحا، والعدو يعرف هذا الاحتمال وقرأ له حسابه بالاستيلاء على المعبر للتحكم في دفق المساعدة. وقد شاهد ولمدة ثمانية شهور انقلاب مشاعر العالم ضده، لكن لا نظنه يتوقع هبّة إنسانية ودبلوماسية تفتحه برغمه.
هل هذا حلم بعيد المنال؟ لا نراه إلا الإمكان الوحيد، وهو يحتاج جملة أولى
يُصْرَخُ بها الآن وهنا. ونجزم بوجود الملايين من الناس في أنحاء العالم مستعدة
للدعم والإسناد المادي والطبي، ولكنها تحتاج معبرا مفتوحا، والعدو يعرف هذا
الاحتمال وقرأ له حسابه بالاستيلاء على المعبر للتحكم في دفق المساعدة. وقد شاهد
ولمدة ثمانية شهور انقلاب مشاعر العالم ضده، لكن لا نظنه يتوقع هبّة إنسانية
ودبلوماسية تفتحه برغمه.
هل يسمعنا الرئيس التركي ونحن في هذه الزاوية البعيدة المجهولة؛ فيعلن
مؤتمر إعادة إعمار حقيقي وفعال يشتري به نفسه من موقف متخاذل طيلة المعركة؟ إنه
الأقرب في الجغرافيا والمشاعر إلى غزة، فهل يستفيد من ترميم علاقته بالنظام المصري، فيخفف من قبضة العدو على المعبر المصري؟ ليس لنا إلا الأمل.
في كل يوم من أيام غزة/ الطوفان، تختلط لدينا الآلام بالآمال ونرتب أحلاما
كبيرة، وندرك هشاشة العدو بعد حرب الطوفان الذي نراه يعيش تحت
الضغط ويتعرى إنسانيا وعسكريا، وهو أهش من الصمود أمام ضغط دبلوماسي عالمي، يعمل
فقط على هدف إنساني لا يمكن تأجيله.
إذا لم تنطلق حملة إعادة الإعمار بزخم عالمي، فإن كل العالم لم يفهم ما جرى
في غزة ولم يستفد من الفرصة التاريخية التي خلقتها وأهدتها للعالم، لشعوب ودول لم
تشارك في إدارة العالم إلا بصفتها دولا وأفرادا يعيشون وضع الحيوان الاستهلاكي،
ولن يكون لقولنا بأن غزة حررت العالم معنى إلا كخاطرة رومانسية مغلوبة على أمرها.
لنكتب وننتظر، فالمعبر لم يعد معبرا إلى غزة، بل معبرا إلى حرية العالم.