في ذكرى إعلان العدو عن وجوده/ استقلاله، لم يبق في صفه عبر العالم إلا
مصانع السلاح الأمريكية، فهي التي خلقته، وهي التي تديره، وهي التي تعرف أكثر من
غيرها أن نهايته تعني توقف المصانع عن صناعة أدوات القتل وترويجها في الشرق الأوسط،
خاصة وهو سوقها الأفضل منذ تأسيس الكيان. في ذكرى تأسيسه/ نكبة
الفلسطيني، تحولت
الراية الفلسطينية إلى راية حرية في العالم؛ مؤذنة بسقوط رايته وتحولها إلى رمز
للقهر والظلم والفشل التاريخي. في هذه الذكرى، يجمع أشلاء قتلاه في
غزة.. عليه أن
يبدأ حساب أيامه الباقيات؛ فقد جرفه الطوفان.
العدو سعى إلى نكبته في غزة
نتأمل في حرارة لحظة غزة الدامية بعض أثر حرب الطوفان، فنجد أن العدو دخلها
مستهينا برجالها وواثقا من سلاحه، وواثقا أيضا من تمكنه من عقل العالم الذي برر له
دائما كل فعل شائن في حق الإنسان الفلسطيني. بعد ثمانية شهور يتبين له قبل غيره أن
غروره وثقته الزائدة في قدراته وفي مكانته، قد أودى به إلى حتفه؛ إنه يندحر عسكريا
وسياسيا، ويحتفل بعض جمهوره باكيا على الماضي الجميل وعلى المستقبل الغامض. انتهى
زمن يقينه من البقاء واخترقت الهزيمة روحه، فهو يغرق في ما تبقى من غروره، وتصدر
عنه جمل يائسة تلح على مستقبل غير يقيني، لقد حول الحزن موقعه.
بعد ثمانية شهور، يتبين له قبل غيره، أن غروره وثقته الزائدة في قدراته وفي مكانته، قد أودى به إلى حتفه؛ إنه يندحر عسكريا وسياسيا، ويحتفل بعض جمهوره باكيا على الماضي الجميل وعلى المستقبل الغامض. انتهى زمن يقينه من البقاء واخترقت الهزيمة روحه، فهو يغرق في ما تبقى من غروره، وتصدر عنه جمل يائسة تلح على مستقبل غير يقيني، لقد حول الحزن موقعه.
ذلك الشعار المؤمن الذي رفع في ثورة ليبيا "دم الشهداء ما يمشيش هباء"، ينتقل إلى غزة، ويمكن للحاضنة الغزاوية أن ترفعه الآن بثقة.
ودون أن نستعيد التحليلات العسكرية، التي صرنا بها خبراء بفضل وسائل الإعلام
الموالية للمقاومة، فإن مغامرة العدو في رفح متوقفة من عجز عسكري أولا ومن عجز
سياسي ثانيا، وعودته إلى الشمال وإلى جباليا بالتحديد بقصد القتل الانتقامي، كشفت
هوانه العسكري وضياع بوصلته، لقد عاد طائعا ليضع جيشه في مرمى مقاوم تدرب عليه في
الهجوم الأول، فحفظ درسه وأبدع في الشوط الثاني.
لقد عاد ليكشف أن جنوده فقدوا الرغبة في الحرب، وأنهم يقاتلون بلا هوية ولا
خريطة، فهم يستندون إلى الجدران مرهقين وتزيد شمس غزة في إذلالهم. لقد عاد ليسمح
للمقاوم بالانتصار الصريح، ولسوء تقديره، كان يوم احتفاله هو أشأم يوم في تاريخه
الحربي، لقد بدأت نكبة العدو في غزة.
هل نستشرف المستقبل؟
يحق للمقاومة أن تتكلم واثقة، فرجالها على الأرض يوفرون موقفا سياسيا قويا،
مع عناصر ثلاثة تجعل موقفها حاسما قبل طاولة التفاوض: ثبات المقاوم وحاضنته على
الأرض، واضطراب العدو عسكريا وسياسيا، وانقلاب الموقف الشعبي والنخبوي وكثير من
الموقف السياسي الدولي ضده.
اتضحت كثير من عناصر الصورة: العدو يصرح أنه عاجز عن حكم غزة عسكريا، وليس
له حكومة مدنية متواطئة معه على غرار شلة أوسلو، التي يبدو أنها طمعت في نصر لم
تؤمن به في بداية الطوفان، ويبدو أنه فقد أيضا كثيرا من تواطؤ الموقف المصري معه
بعد سيطرته على المعبر. لقد استنزف أنصاره/ أجراؤه حتى العظم، وصارت مساعدته
وبالا عليهم، وهم يرون عجزه عن الحسم العسكري الذي تمنوه.
أي عودة للتفاوض الآن، تكشف أنه صار أضعف مما كان قبل رفض صفقة التهدئة
الأخيرة، وقد كتبنا سابقا أن هزيمته بعد رفح ستكون أثقل من هزيمته قبلها. لقد
انتقم من ألف شهيد إضافي، لكن الأرواح الشهيدة تهزمه ودمهم ما "يمشيش" هباء. بأية روح
سيفاوض الآن والتفاوض قدره الذي لا مفر منه؟
كان إسماعيل هنية واضحا وصريحا؛ حماس (
المقاومة) باقية وستحكم غزة بوسائلها
ومنهجها، ولديها حاضنة متماسكة من حولها، ولديها فصائل تعاضدها بلا مواربة وبلا
تنازع صلاحيات على اليومي والتفصيلي. ولا نرى أحدا من خارج غزة يمكنه أن يغامر
بدخول غزة ليحكمها، حتى مرتزقة بلاك ووتر (وقد كانوا احتمالا واردا)، أما قوة فصل
عربية، فلا نظن الغزاوية سيقدمون لها البارد في الصيف بين خرائب غزة. الجميع يرى
ويستيقن أن أي داخل لغزة دون رضا المقاومة، سيكون مصيره من مصير جيش العدو المحتل.
سيكون من المبكر أن نرسم مستقبل غزة والمعركة دائرة، لكن لا يمكن أن نتجاهل
أن العدو يندحر، وأن المقاومة تتقدم وتضع شروط التفاوض بثقة أعلى، ولديها وقت كاف
لتناور من هذا الموقع.
ما جدوى البقاء في أرض لا يمكن هزيمتها؟ فالأرض تحمي من يعرفها وتهزم من يجهلها. سترن تلك الجملة التي قالها المقاتل في رفح في سمع كل عسكري يدعى لحمل السلاح، ويرسل إلى غزة أو الضفة المتربصة.
لقد كانت معارك الشهر الثامن انقلابا حقيقيا في مجريات المعركة، لم يفر
الرجال في الشهور السبعة، ولكنهم الآن يكرون كرة رجل واحد على عدو مهزوم نفسيا.
يمكننا أن نؤلف روايات كثيرة عن مقاتل فقد الرغبة في الحرب، ويشعر أن قيادته تستهين
بحياته ولا تفكر في ما بعد هزيمته، إنه يستسلم لمصير مجهول؛ مصيره العسكري كفرد
ومصير دولته من خلفه في ذكرى "استقلالها" الذي صار يوم نكبتها.
من يمكنه أن يطيع أمرا عسكريا بالعودة إلى حرب خاسرة في لحظتها وخاسرة في
المستقبل؟ لاحقا سيكون هناك سؤال وجودي في نَفْس كل جندي: ما جدوى البقاء في أرض لا يمكن
هزيمتها؟ فالأرض تحمي من يعرفها وتهزم من يجهلها. سترن تلك الجملة التي قالها
المقاتل في رفح، في سمع كل عسكري يدعى لحمل السلاح، ويرسل إلى غزة أو الضفة
المتربصة.
هنا تموت دولة مصطنعة وتعود دولة عمل العالم على طمس وجودها، فانبعثت وحولت
رايتها إلى راية حرية في العالم. هنا والآن وبكثير من التفاؤل العجول، نكتب بيقين: هنا نكبة العدو، وهنا الاستقلال الفلسطيني.