الكتاب:
"أثر الحروب الصّليبية على العلاقات السنية الشّيعية"
الكاتب:
محمد بن مختار الشنقيطي
الناشر:
الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1- بيروت، 2016
(عدد الصفحات: 290من القطع
الكبير)
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على
قطاع غزة في 7 من تشرين أول (أكتوبر) من العام 2023، عاد الحديث مجددا عن المحاور
الدولية مع الاصطفاف الغربي غير المسبوق إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد
الشعب الفلسطيني..
وبرزت إيران كواحدة من أهم الأطراف
المؤثرة في المشهد بالنظر إلى تبادل الضربات العسكرية بينها وبين الاحتلال
الإسرائيلي، الذي عمد إلى اغتبيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في العراق
وسوريا. وكان الاستهداف الإسرائيلي الأخير لقنصلية طهران في دمشق نقطة فاصلة في
هذه العلاقة، حيث أعلنت طهران أنها لن تصمت على هذا العدوان، وأنها سترد، وقد كان
لها ذلك حين أمطرت إسرائيل بعشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار من إيران إلى
الأراضي اتلمحتلة مباشرة..
وقد أعاد هذا الاحتقان الذي ميز
العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية على مدى العقود الماضية، وكذا اشتداد الحرب
الإسرائيلية على قطاع غزة، امكانية وحدة الصف السني ـ الشيعي في مواجهة هذا
العدوان، الذي زاده الدعم الأمريكي والغربي وحشية، على نحو ما كان أيام الحروب
الصليبية حين توحد الشيعة والسنة في مواجهة الصليبيين في عدد من المواقع..
وقد أثار الأستاذ الجامعي الموريتاني
الكاتب محمد مختار الشنقيطي ذلك من خلال عدد من تغريداته على صفحته على منصة
"إكس"، مستذكرا كتابه "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية
الشيعية"، داعيا إلى توحيد الصفوف ليس في نصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع
غزة، وإنما في الانحياز إلى الصف العربي والإسلامي في مواجهة حرب صلايبية جديدة
بقيادة إسرائيل ودعم الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وأعاد الدكتور الشنقيطي نشر قراءة
سابقة للكاتب والباحث السوري الدكتور عرابي عبد الحي عرابي عن كتابه المذكور، وهو
ما أثار جدلا فكريا بين النخب العربية والإسلامية، ليس فقط عن العلاقات السنية ـ
الشيعية، ولا الإيرانية ـ العربية، وإنما عن دور إيران في إضعاف العرب وتمكين
عدوهم منهم.
"عربي21"، تفتح نقاشا
فكريا عميقا حول كتاب الدكتور الشنقيطي أولا، وما إذا كان من الوارد أن يتم تحالف
سني ـ شيعي في مواجهة العدوان الإسرائيلي والغربي على فلسطين والعرب والمسلمين..
وبعد أن نشرنا رأي الدكتور عرابي عبد
الحي عرابي، ثم رأي الدكتور أحمد القاسمي الأستاذ الجامعي التونسي، ورأي الدكتور
بلال التليدي الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي، ننشر اليوم رأي الكاتب
والباحث في شؤون الفكر العربي والإسلامي توفيق المديني..
بين يدي الكتاب
تُعَدُّ
الصراعات ذات الطابع المذهبي بين السنة والشيعة معضلة سياسية وأيديولوجية
عقيدية مزمنة، ولها جذور
تاريخية أحدثت
تشقاقات عميقة في جسد الإمبراطورية العربية الإسلامية منذ الصدر الأول من الإسلام ،مرورًا بالحقب التاريخية
التي عرفها العالم العربي والإسلامي، لا سيما مع انهيار الخلافة العباسية وبداية
الحروب الصليبية، وصولا إلى الربع الأخير من القرن العشرين مع اندلاع الثورة
الإسلامية بقيادة الإمام الخميني في عام 1979، حيث تم خلق مذاهب مسايرة لهذا
الاختلاف في العقيدة والفقه بين السنة و الشيعة، وأصبحت هناك قراءتان للتاريخ
الإسلامي، وامتد الأمر حتى إلى القرآن والسنة . كانت لهذه الصراعات تداعيات سلبية بل مدمرة لتماسك جسد العالم العربي والإسلامي في أحيان عديدة، لا سيما في مواجهة الأعداء
الخارجيين.
في
هذا الكتاب، الذي يحمل العنوان التالي: "أثر الحروب الصّليبية على العلاقات
السنية الشّيعية" للباحث الموريتاني محمد بن المختار الشنقيطي، يلقي الباحث الضوء على العلاقات بين السنة والشيعة خلال
حقبة الحروب الصليبية، مع ملامسة لتطور
العلاقة بين الطرفين في القرون السابقة على تلك الحقبة بقدر ما يقدم خلفية ضرورية
لها، وتحليل النموذج من الذاكرة المتوازية حول تلك الحقبة في الثقافتين السنية
والشيعية اليوم.
إنَّ المضمون الواقعي والتاريخي لدولة معاوية باعتبارها دولة كلية، يتمثل في اتخاذها عصبية قبيلة بني أمية بخاصة، واتخاذ القبلية بوجه عام، إطاراً لتوليد وتبلور الطبقة الأرستقراطية الجديدة، وإعادة إنتاج البنية القبلية، كبنية اجتماعية وسياسية، حيث دخلت العلاقات القبلية في السياسة.
ومن
وجهة نظر الباحث الشنقيطي، لا يتضمن هذا الكتاب مواعظ أو مواقف، فلكل من المواعظ
والمواقف منابرها وسياقاتها. والمُوفّق من وقف مع المظلوم ضد الظالم بغض النظر عن
المذهب والمعتقد، وسعى إلى تضميد الجراح التي أثخنت أمة الإسلام والمخذول من خذل
الشعوب المظلومة المجاهدة في ساعة العسرة التي تعيشها اليوم. و"إنما تنحصر
رسالة هذا الكتاب في ترميم الذاكرة التاريخية، من خلال التأمل في صفحة من صفحات
هذا الشقاق المزمن بين المسلمين، الذي سالت بسببه الدماء والدموع مدرارة. فلن تخرج
أمتنا من الطريق الذي قادها إلى الجهالة الطائفية والهمجية السياسية التي تعيشها
اليوم، إلا إذا أدركت كيف دخلت هذا الطريق المعتم ابتداءً" (ص 8 من المقدمة
).
ينتقل
الباحث الشنقيطي في مسار تحليله بعد المدخل مباشرة إلى الفصل الأول :"دماء
على ضفاف المتوسط:القافلة التركية في مواجهة الحملات الصليبية"،موضحًا لنا
دور المقا ومة التركية للحروب الصليبية ضمن سياق عام، ما أدَّى إلى "أسلمة
الترك"أو "تتريك الإسلام"، وفي الحقيقة التاريخية لا نستطيع علميا
وتاريخيا أن نفهم جيدًا الخريطة الطائفية لعصر الأتراك السلاجقة، وطبيعة الدول
الطائفية القائمة آنذاك، من دون العودة إلى التعرض لطبيعة تشكل الإمبراطورية العربية الإسلامية الحاملة لواء العمومية
الكونية للإسلام، وكذلك للجذور التاريخية للصراع السني ـ الشيعي ،وتبلوره الطائفي و
المذهبي لا حقًا،رغم إشارة الباحث أنَّ دراسته لا تتعرض إلى تتبع العلاقات السنية
الشيعية منذ صدر الإسلام إلى الزمن الحاضر،بل كان تركيزه منصبًا على دراسة أطراف
الصراع الطائفي خلال حقبة الحروب الصليبية.
حروب
الردة والفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين
أصبحت
الدولة المحمدية مهددة بالزوال كسراب في هجير الصحراء. فأدرك أقرب الأوفياء من
الصحابة لسيدنا محمد "صلى الله وعليه وسلم" أن عليهم التصرف بسرعة
فاجتمعوا في ما يبدو أنه كان اجتماعاً سريعاً وقرروا أن يجعلوا واحداً منهم
"متابعاً" وهو المعنى الأساسي لكلمة "خليفة" أو "أميراً
للمؤمنين" واختاروا الرجل الذي كان يؤم الناس في الصلاة أحياناً، الرجل الذي
يقف أمام الناس في الصلاة (الإمام). كان الإمام الجديد أبو بكرالصديق وهو والد
زوجة النبي محمد، ولم يتمتع بأية صلة خاصة بالله، بل كانت وظيفته تسيير أمور
المجتمع، فأصبح ما يسميه رجال أعمال هذه الأيام الرئيس التنفيذي. كان عليه أن
يتابع تنفيذ الأوامر والشرائع التي نقلها الرسول محمد عن الله، ولم يكن دوره أن
يبتكر أو يصلح، بل أن يطبق ما كان قد تم تبليغه وإعلانه.
كانت
أولى مهام أبي بكر أن يستعيد رجال القبائل الذين ارتدوا، ولكي يحقق ذلك أطلق في
شبه الجزيرة العربية حرباً لم تعرف مثل شدتها، وبحكمة بالغة تابع ما كان محمد قد
أسسه من قبل، فقد وجه طاقات ورغبات رجال القبائل نحو أكثر ما يحبه البدو تقليدياً،
الغزو، فاتجهوا نحو الشمال عبر صحراء النفود ضد ولاية سوريا التابعة للإمبراطورية
البيزنطية، ونحو مناطق دجلة والفرات التابعة للإمبراطورية الساسانية الإيرانية.
كان
من النتائج غير المقصودة لهذه السياسة في تغيير اتجاه اهتمام القبائل أنها أطلقت
بوادر الفتوحات الكبيرة التي أوصلت المسلمين المحاربين إلى أطراف الصين وأواسط
فرنسا، وما كان في بدايته حرباً قبلية استمر كمبدأ أساسي في السياسة الخارجية
للدولة الإسلامية على مدى القرنين التاليين، وأنشأ إمبراطوريتها الواسعة التي
امتدت في أفريقيا وآسيا، كتب المؤرخ الكبير ابن خلدون فيما بعد عن المسلمين
الأوائل أنهم: استداروا بوجوههم نحو اتجاه واحد ما أوقف صراعاتهم وانقساماتهم
مؤقتاً على الأقل.
كانت
أولى مهام أبو بكر أن يستعيد رجال القبائل الذين ارتدوا، ولكي يحقق ذلك أطلق في
شبه الجزيرة العربية حرباً لم تعرف مثل شدتها، وبحكمة بالغة تابع ما كان محمد قد
أسسه من قبل
لم
تستمر "إمامة" أبي بكر للدولة المسلمة الفتية أكثر من سنتين، إلا أنه
أبدع خلالها تغييراً ثورياً على نطاق واسع، وقد كانت مهامه هائلة وصعبة في تنظيم
وحكم الإمبراطورية الفتية وتوزيع غنائم الفتح والمحافظة على جيوش القبائل بحيث لا
تتمزق الإمبراطورية ومتابعة نشر وتنفيذ أوامر الله كما أعلنها الرسول محمد في
الوقت نفسه. وعندما توفي كان قد بدأ في تحقيق ذلك، إلا أن مبدأ
"الخليفة" كان قد ثبت، وأصبح من السهل تعيين فرد آخر من الدائرة المقربة
من الرسول محمد، وكان عمر هو الخليفة الثاني. كان عمر بمنزلة نائب الخليفة في عهد الخليفة
أبيو بكر الصديق، وأحكم سيطرته على أرجاء المجتمع الفتي النامي وأعطى صورة موحدة
متصالحة.
امتدت
الدولة الإسلامية شرقاً عبر إيران إلى أفغانستان، وغرباً على طول البحر الأبيض
المتوسط إلى المحيط الأطلسي، وخلق امتدادها وتقدمها تحديات كبيرة وفرصاً عظيمة.
فبالنسبة للمؤمنين كانت المحافظة على تماسك المجتمع باتباع الرسالة التي بلغها
محمد تحدياً كبيراً، فقد كانوا نوعاً مهدداً بالانقراض والزوال. وبعد عقد واحد من
وفاة محمد توفي كثيرون من عصبته.
مقتل عثمان وتفجر الصراع بين علي ومعاوية
فتح
مقتل عثمان نافذة جديدة في الدولة الإسلامية، فعلى الرغم من كونها قوية في الخارج،
إلا أنها كانت ضعيفة في مركزها، ويبدو أن كل من استطاعوا الخروج قد فعلوا ذلك، ولم
يكن هنالك أي حرس أو شرطة في المدينة. استطاعت العصبة الصغيرة التي قتلت عثمان
البقاء في منزله عدة أيام قبل أن يتم طردهم، ولم يفعل أصحاب عثمان أي شيء لإنقاذه،
ولا حتى منافسُهُ المفترض علي، الذي كان أكبر من بقي على قيد الحياة من أقارب
الرسول محمد.
لام
أقارب عثمان علياً بسبب مقتل قريبهم وطالبوا بالثأر، خاصة معاوية، الرجل الذ منحه
عثمان الولاية القوية المهمة في منطقة شرق المتوسط. كان معاوية في موقف قوي ومعه
جيش قبلي متمركز حول دمشق، بينما كان علي يعيش في المدينة التي كانت قد ضعفت
كثيراً ولم يكن تحت تصرفه أي قوات قبلية، وزاد الأمر سوءاً اتهام بعض المؤمنين
الأصليين علياً بالتواطؤ في الجريمة، إلا أن مؤهلاته للخلافة لم تكن موضع شك: فقد
كان صهر محمد ووالد حفيدين من أحفاده، الحسن والحسين.
اجتمع
شمل المجتمع الإسلامي من جديد سنة 661 في الخلافة الأموية التي كانت في الحقيقة
امبراطورية مدنية تحت حكم معاوية،وتم إعلان علي خليفة على الرغم من الاعتراضات.
وكان عليه أن يغادر المدينة هو أيضاً لكي يقوي موقفه، وبما أن معاوية كان مسيطراً
على سوريا، فقد اتجه علي إلى العراق لكي يجمع جيشاً من رجال القبائل العربية الذين
هاجروا إلى تلك المناطق قبل ذلك بعشرين سنة، كان هؤلاء الرجال قد تغيروا كثيراً في
حياتهم الجديدة، ولم يكن لدى علي ما يقدمه لهم، فلم يتمكن من كسب ولائهم ولا من
إخضاع معارضيه. بعد سنتين من خلافته المضطربة قتلته ضربة قاتل مثلما قتل عثمان.
وهكذا
انتهت الفترة التي يعتبرها
المسلمون عصر الخلفاء "الراشدين" الأربعة،
تشكل هذه الفترة، بالإضافة إلى العقد الذي حكم فيه الرسول محمد في المدينة، فترة
الأربعين سنة من الإسلام الشرعي التي يسعى الإسلاميون الأصوليون المعاصرون
لاسترجاعها هذه الأيام.
فاجتمع
شمل المجتمع الإسلامي من جديد سنة 661 في الخلافة الأموية التي كانت في الحقيقة
امبراطورية مدنية تحت حكم معاوية المدافع عن ثأر عثمان، امتدت الخلافة إلى أعظم
توسعها في ظل المؤيدين من حدود الصين إلى أواسط فرنسا، إلا أن ذلك النجاح نفسه أدى
كذلك إلى الثورة التي ستُمزق الإسلام تمزيقاً لم يتوحد بعده أبداً.
التمايز
السياسي بين السنة والشيعة في العصر الأموي
في
مدخل هذا الكتاب المعنون "ترميم الذاكرة و الحاجة إلى بناء ماضٍ جديد"ٍ،
يقول الباحث الشنقيطي "شهد مسار
العلاقات السنية الشيعية تموجات وانتقالات دائبة بين التواصل والقطيعة طيلة مراحل
التاريخ الإسلامي. ويمتاز كل من منهج التواصل ومنهج القطيعة بسمات تحسن الإشارة
إليها. فأهم سمات منهج التواصل: الإحساس بالاشتراك في الدين والتاريخ والهوية
والانتماء والمصير. أما منهج القطيعة فهو تنكر لكل هذه المشتركات، ورفع للأسوار
عالية بين الطائفتين، مع تغليب سوء الظن والتخوين، وشيوع الصور النمطية السلبية،
وانعدام الثقة، حتى يُرى العدو البعيد أقرب وأرحم من الجار القريب" (ص 11).
ويدل
الاستقراء التاريخي على أن التواصل العلمي والاجتماعي والسياسي بين السنة والشيعة
كان سائداً في أغلب مراحل التاريخ الإسلامي، وأن العلاقات السنية الشيعية
(الإمامية تحديداً) لم تكن علاقات قطيعة في أغلب مراحل ذلك التاريخ. بل ظل التواصل
الاجتماعي والسياسي والفكري غالباً عليها، رغم الخلافات التي ظلت تتعمق بين
المدرستين مع الزمن على المستوى النظري. فقد كان هنالك تمايز سياسي ـ لا اعتقادي ـ
في العصر الأموي الدولة العربية ـ الإسلامية التي أسسها الأمويون ومن بعدهم
العباسيون، والتي سيطرت على رقعة كبيرة من بلاد الشرق والغرب، وأقامت حضارة عربية
رائعة لها ميزاتها الخاصة، هي من نمط الدولة الإمبراطورية، الدولة العضوض، أي دولة
السياسة وليدة القوة المسلحة والعنف الدموي المحض، التي شهدت نقاشات وصراعات
أيديولوجية حامية، وانبثاق ثلاث مرجعيات إسلامية كبرى، أي المرجعية السنية،
والشيعية، والخارجية. وقد عرفت هذه المرجعيات بدورها انشقاقات وتفرعات متباعدة عن
الأصل إلى هذا الحد أو ذاك، يشهد على ذلك تعدد الطوائف والمِلل والفِرق، والنحل،
بحسب التعبير الإسلامي.
على
أنه يجب التنويه بالفروقات الحاسمة بين ممارسة أهل السنة التي كانت دائماً تقف إلى
جانب السلطة السياسية، وقد قبلوا بالأمر السياسي الواقع، سواء في عهد الخلفاء
الراشدين حين كانت الشورى هي السائدة، أم في العهد الأموي والعباسي حين كان طريق
القوة المسلحة هو أسلوب حسم معركة السلطة.
امتدت الدولة الإسلامية شرقاً عبر إيران إلى أفغانستان، وغرباً على طول البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي، وخلق امتدادها وتقدمها تحديات كبيرة وفرصاً عظيمة. فبالنسبة للمؤمنين كانت المحافظة على تماسك المجتمع باتباع الرسالة التي بلغها محمد تحدياً كبيراً، فقد كانوا نوعاً مهدداً بالانقراض والزوال. وبعد عقد واحد من وفاة محمد توفي كثيرون من عصبته.
لقد ساهمت القرارات التي اتخذها الخلفاء
الحاكمون وقرارات الإدارة (L’ADMINISTRATION)
إلى حد كبير في تنمية التراث المدعو بالسني سواء أكان الأمر يخص تشكيل المصحف أيام
عثمان أم تشكيل الذاكرة الجماعية ومرجعياتها الدينية والقانونية والتاريخية (أي
كتابة التاريخ وتسجيله) لهذا السبب نجد من الصعب جداً اليوم أن نميز بين المضامين
الدنيوية للتراث (للسنة) ذلك أن كل أنواع السلطة في الإسلام منذ عام (11 هـ، 632
م) أي بعد موت النبي قد لجأت إلى هذا الخلط بين الرؤتين (الدينية والدنيوية) لكي
تكتسب الشرعية. نلاحظ أن هذه العملية تفرض نفسها بقوة أكثر اليوم على السلطات
الراهنة في المجتمعات "لإسلامية" هذه السلطات الناتجة عن الطبقات
العسكرية أو عن الأوساط الدينية كما هو عليه الحال في إيران اليوم.
أما
الشيعة فهم باستثناء فترة حكم علي القصيرة (36 ـ 41 هـ، 656 ـ 661 م) قد حُصروا في
خانة المعارضة وتعرضوا غالباً للاضطهاد حتى مجيء عهد الفاطميين في المغرب (297 هـ
ـ 909 م) والبويهيين في بغداد (334 هـ ـ 945 م)، وقد أُتيحت لهم الفترة الكافية
لكي يؤسسوا رؤيا تراجيدية للتاريخ هذه الرؤيا هي دينية ودنيوية بشكل لا ينفصم.
لا
شك أنَّ معاوية قد حوَّل الخلافة إلى مُلْكٍ، وأقام الدولة السياسية العقلانية،
حيث لم تعد الممارسة السياسية فيها قائمة على الظاهرة القرآنية والتسويغ الديني
وغائيته في نطاق العلاقة المعاشة مع الكلي المطلق، ذلك أنَّ السياسة كانت ما تزال
مثقلة بأشكال سياسية ما قبل دولتيه، وبعلاقات سياسية لا سيما ما قبل دوليته، صحيح
أنَّ دولة معاوية تمثل نقلة نوعية لجهة انبثاق فيها مجال خاص تمارس فيه السياسة
كسياسة، ومشروعه السياسي كانا يدفعان بالمجتمع نحو التقدم، إلا أن بنى المجتمع
وطابع الصراعات الاجتماعية والسياسية كانت تفرض عليه التوسل بالعلاقات القبلية،
والنزاعات بين القبائل لتحقيق ضرب من التوازن السياسي يضمن توطيد حكمه.
إنَّ
المضمون الواقعي والتاريخي لدولة معاوية باعتبارها دولة كلية، يتمثل في اتخاذها
عصبية قبيلة بني أمية بخاصة، واتخاذ القبلية بوجه عام، إطاراً لتوليد وتبلور
الطبقة الأرستقراطية الجديدة، وإعادة إنتاج البنية القبلية، كبنية اجتماعية
وسياسية، حيث دخلت العلاقات القبلية في السياسة. على أنه لا يمكن الزعم بأن معاوية
باعتباره رمزاً للسلطة الأموية قد استبعد المعارضة كلياً من مجال العمل السياسي،
ومجال السلطة، بل أنه وضع نفسه في مركز السلطة، وفي موقع السيطرة على الترتيبات
الاجتماعية من جهة، وعلى التعارضات القبلية والقومية والطبقية في تجلياتها
السياسية من جهة أخرى، وهو معروف بـ"العقد الأساسي" الذي اقترحه على
خصومه السياسيين بعد أن انتصر عليهم بالقوة، فضلاً عن عدم قطعه قنوات التواصل مع
الآخرين "شعرة معاوية" وعدم استبعاده المعارضة السياسية إلا تلك التي
كانت لا تقبل بأقل من إقصائه عن الحكم.
ومع
استتباب الأمور لمصلحة معاوية قامت التيارات السنية والشيعية والخوارج، الآنفة
الذكر بنقل الصراع السياسي إلى الحقل الأيديولوجي فتمذهبت التيارات السياسية،
وفتحت احتمالات وإمكانية التعدد المذهبي في الإسلام، وقد قدم التأويل والقياس
وغيرهما من مبادئ العقل البياني حسب الدكتور الجابري العدة الأيديولوجية لظهور
الفِرَق الإسلامية المتنوعة. لقد كان انتقال الصراع من مجال الدولة إلى مجال
الأيديولوجي تعبيراً عن انتصار معاوية، ورضوخ خصومه، وإذعانهم، واتخذت المعارضة في
أهم جوانبها إذا استثنينا الخوارج معارضة في الحقل الأيديولوجي، والدين. فكان
تكفير الخصم وإخراجه من ملكوت الملَّة الناجية هو التعبير عن الرغبة في إخراجه من
السلطة. لذلك لم يكن الصراع الأيديولوجي بأشكاله المذهبية القبيلة سوى شكل
أيديولوجي للصراع السياسي، أخرج الصراع السياسي من أطره الواقعية العقلانية إلى
أطر غير عقلانية، وسمت الفكر والسلوك سواء في صفوف المعارضة أم في صفوف السلطة.
ففي
ظل الدولة العربية الإسلامية الإمبراطورية، يقول محمد أركون بأنَّه قد حصل نوع من القلب أو العكس للمراتبية الأخلاقية ـ الروحية في تجربة دولة المدينة التي كانت
سائدة في زمن النبي، هذه المراتبية تتمثل في استخدام الرأسمال الرمزي المتضمن في
الخطاب القرآني، من أجل تشكيل إسلام رسمي أرثوذكسي، وفروضه، باعتباره نتاجاً
للخيار السياسي الذي اتخذته السلطة السياسية القائمة على العنف، واستخدام العنف،
حيث أصبحت أولويتها تتمثل في فرض نظامها الاجتماعي والسياسي المثبت والمرسخ من قبل
الفئة الاجتماعية المنتصرة، واستخدام هذه الذروة للسيادة العليا أي
الإسلام"الأرثوذكسي" ـ الذي برره الفقهاء المعتمدين رسمياً من قبل
السلطة لاعتقادهم بأنَّ لهم إمكانية لتقديم القراءة الصحيحة والمطابقة لكلام الله،
وإمكانية معرفة التراث النبوي بشكل كلي شامل من أجل استنباط الأحكام استناداً إلى
هذين المصدرين الأساسين (القرآن + الحديث النبوي)، التي ستشكل فيما بعد القانون
الإلهي أو الشريعة، والتي راحت تتشكل طوال القرنين الهجريين الأولين (أي من 632
إلى 850 تقريباً) تلك النصوص التي تدعى بالقانون الإسلامي أي الفقه، ثم منهجية هذا
القانون، أي أصول الفقه ـ من أجل تبرير سلطتها السياسية التي تنقصها في الأصل كل
شرعية ذاتية أو حقيقية.
التمايز
السياسي والاعتقادي في العصر العباسي
قام
العباسيون أيضاٍ بتأسيس دولتهم المتطورة وخلافتهم القوية على ضفاف الفرات ودجلة،
وبنوا سلسلة من المدن العظيمة، أشهرها بغداد التي تم تأسيسها بعد اثنتي عشرة سنة
من ثورة أبو مسلم في 762 ، وحكموا منها امبراطورية امتدت أرجاؤها من البحر الأبيض
المتوسط حتى نهر السند، ومن شبه الجزيرة العربية حتى حدود الصين. تعرف عليها
الأوروبيون والأمريكان من خلال الحكايا الخيالية في " ألف ليلة وليلة" .
أما بالنسبة إلى سكان الجنوب العالمي فقد كانت تلك ذروة ازدهار حضارتهم، واعتقد
المسلمون أن مجتمعات الخلافة الاسلامية في العصور الوسطى تمثل العالم كما تريده
وتتمناه الشعوب المتحضرة.
بين
هاتين الخلافتين على طرفي البحر الأبيض المتوسط، الأندلسية في الغرب والعباسية في
الشرق، ظهرت خلافة ثالثة فاطمية أسست نفسها في مصر في القرن العاشر، أسست شرعيتها،
مثل هاتين الخلافتين، ومثل الدولة الاسلامية في هذه الأيام، على قرابتها من محمد،
واشتقت اسمها من اسم فاطمة ابنة محمد. كان الذي يميز الخلافة الفاطمية عن
الخلافتين السابقتين هو أنها كانت الخلافة المسلمة الشيعية الأولى، وأنها اعتمدت
في قوتها على بربر أفريقيا وليس على عرب آسيا. انتشر المذهب الشيعي بشكل واسع إلى
جانب المذهب السني، وقابل البربر العرب وجهاً لوجه وسفاً إلى سيف.
الصراعات اللاهوتية ـ الأيديولوجية التي يشهد عليها اختلاف المذاهب السنية المدافعة عن التعددية، وحركة التجديد الديني لدى الفرقة الشيعية التي قدمت لغة معقلنة للاستيلاءات وللنزاعات المنتشرة والمتنوعة جداً في أصولها، بالتساوق مع تطور البنى الاجتماعية واحتداد الصراعات الاجتماعية، قد عرضت الدولة العربية للخطر،
كانت
هذه الدول الثلاث، بالإضافة إلى امبراطورية تانغ في الصين، أعظم المراكز الحضارية
خلال العصور المظلمة التي سادت أوروبا، وشكلت ذروة الحضارة الإسلامية، تلهم
الذكريات المثالية لتلك الفترة شعور الفخر والاعتزاز والأمل عند مسلمي هذه الأيام.
فعندما لم تكن مناطق استقرار الأوروبيين أكثر من قرى ريفية، كانت بغداد والقاهرة
وقرطبة واشبيلية منارات حضارية تشع بالنور في ظلمات العالم، وانتشر هذا النور على
مر القرون التالية إلى شنغهاي ودلهي وبخارى وسمرقند ونيسابور وهرات وأصفهان وشيراز
وقونية واسطنبول وبالميرو وفاس وتيمبكتو. وحينما كان قليل من الأوروبيين يستطيعون
القراءة، كانت هذه المدن تضم المكتبات والمدارس والمجتمعات القارئة. بل كان في
بغداد صناعة متطورة لنشر الكتب استخدمت وصنعت الورق لول مرة خارج الصين حيث نشأ
هذا الاختراع العظيم.
ثمة
عوامل أساسية أدَّتْ إلى انحطاط هذه الدولة العربية الإسلامية، ودخولها في عصور
الظلمات، وحالة الخضوع والتبعية، والتفكك، إلى أن تم الانقضاض عليها من جانب
الأتراك السلاجقة. وهذه العوامل، هي الصراع السني ـ الشيعي، كبرهان قوي على وجود
قاعدة أيديولوجية للعقل التيولوجي، وهو صراع أيديولوجي استخدم فيه الفريقان كلاهما
انتقاءات اعتباطية واستخدامات أيديويولوجية لمجموعة من العقائد والأفكار للبرهنة
من جانب كل فريق بأنه يحتكر "الإسلام الصحيح"، أي موضوع السيادة العليا
التي تخلع المشروعية الإسلامية على السلطة، وصراع الطبقات الفقيرة ضد الطبقة
الإقطاعية العسكرية المسيطرة، وصراع الشعوب المغلوبة ضد السلطة المركزية الظالمة
حيناً، ومن أجل الدفاع عن هويتها حيناْ آخر.
مع
بروز المذهبين الشيعي والسني عقب الانشقاق الديني المبكر جداً في الإسلام، ظهرت
الأيديولوجية الدينية ككيفية للتعبير عن النزعة التحزبية السياسية، وكان هذا
واضحاً لدى الحركة الشيعية، التي تعددت فرقها وفروعها، مما أدى إلى تشتيت الإسلام
إلى عددٍ كبيرٍ من الجماعات الصغيرة، أي إلى إسلاميات، حيث اتسمت هذه الحركة على
اختلاف فروقها، بتقليد الكفاح ضد السلطة السنية، ساعية إلى قلبها، وإلى تغيير
موازين السيطرة لمصلحتها مقدمة نفسها على أنها تمتلك الحقيقة الصادقة للأرثوذكسية
الإسلامية، وتدعو للعودة إلى نقاء الماضي وإلى رسالة المؤسس الحقيقي: النبي
محمد،"وأحياناً عليّ الذي يُعتبر بالنسبة لبعض الفرق في المقام الأول ويرتقي
إلى حالة إلهية".
وإذا
كانت حركة الانشقاق في الإسلام لم تكن مدانة في حد ذاتها، نظراً لوجود ما يبررها
موضوعياً، وكذلك الحديث الذي جاء على لسان النبي، والقائل "إنَّ اختلاف
الآراء في أمتي علامة من علامات الرحمة الإلهية"، إلا أن الصراعات اللاهوتية
ـ الأيديولوجية التي يشهد عليها اختلاف المذاهب السنية المدافعة عن التعددية،
وحركة التجديد الديني لدى الفرقة الشيعية التي قدمت لغة معقلنة للاستيلاءات
وللنزاعات المنتشرة والمتنوعة جداً في أصولها، بالتساوق مع تطور البنى الاجتماعية
واحتداد الصراعات الاجتماعية، قد عرضت الدولة العربية للخطر، نتاج تبني عدة فرق
سياسية انفصالية، مؤدية إلى خلق إمارات، ودول شيعية، خارجية، وزيدية، وقرمطية، بل
وإلى خلق إمبراطورية مع الفاطميين الإسماعيليين، تمتلك تصوراً وراثياً شديد
الاتسام بالاستبدادية.
يقول
الباحث الشنقيطي: "ثم كانت الدولة العباسية في بدء أمرها مزيجاً من التشيع
السياسي والتسنن الاعتقادي، وتداخلت المدرستان تداخلاً سياسياً وفكرياً كثيفاً
طيلة العصر العباسي الأول. وكان لدى بعض الخلفاء العباسيين الأوائل ميول شيعية
صريحة رغم أنهم سنّة من الناحية النظرية، كما كان من بين وزراء الخلفاء العباسيين
العديد من الشيعة، وإنما سادت القطيعة بين الطائفتين في أربعة سياقات هي:
ـ
الصراع بين المالكية والإسماعيلية خلال الحكم الفاطمي لتونس الذي دام بضعة عقود.
ـ
المناوشات الحنبلية الشيعية في بغداد تحت الحكم البويهي الذي دام مائة وخمس سنوات.
ـ
صراع النفوذ بين العثمانيين والصفويين على العراق وشمال الشام وشرق الأناضول.
ـ
الصراع على ضفتي الخليج منذ الثورة الإيرانية عام (1399هـ/ 1979م)، وهو الذي نعيش وطأته اليوم.
كما
يدل الاستقراء التاريخي على أن الأسباب وراء هذه القطيعة كانت أسباباً سياسية
وثقافية وعرقية في جلها، وإن كان التعبير عنها يرد بلغة دينية ومذهبية غالباً، كما
هو شأن الخلافات السياسية في الإمبراطوريات القديمة بشكل عام (ص 12).