أثار قرار حكومي في
مصر بقطع إمدادات
الغاز الطبيعي عن مصانع الأسمدة العاملة في مصر، الكثير من القلق على مستقبل الصناعة الوطنية، خاصة أن قطع إمدادات الغاز عن مصانع الأسمدة قابلته بعض الشركات بوقف الإنتاج.
وأكد 4 رؤساء لشركات حكومية لـ"الشرق مع بلومبيرغ"، قطع مصر إمدادات الغاز الطبيعي عن مصانع الأسمدة، لمدة غير محددة.
مراقبون رأوا أن في هذا تدمير لقطاع الأسمدة والمنتجات الكيماوية بالصناعة الوطنية، يؤثر على قطاع الزراعة المرتبط بإنتاج السماد، ويتسبب في رفع أسعار الأسمدة على المنتجين الزراعيين مع بداية موسم المحاصيل الصيفية، ما يؤدي لزيادة تكلفة الإنتاج ورفع أسعار السلع الزراعية، وبالتالي تفاقم معدلات التضخم.
وأرجع خبراء تلك الأزمة إلى تراجع الإنتاج المصري من الغاز، خاصة من حقل "ظهر"، وعرقلة ملف التنقيب عن آبار غاز جديدة بتأخير دفع مستحقات الشركات الأجنبية، وتوقف بعضها عن العمل، وفي المقابل الاعتماد الكبير على استيراد الغاز من الكيان المحتل، ما قلل الاهتمام بملف التنقيب والاستخراج.
وعبر صفحته بـ"فيسبوك"، كتب الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب، قائلا: "هذا ما حذرنا منه مرارا وتكرارا"، مضيفا: "لا تضع أصبعك تحت ضرس الصهيونية".
"قطع الكهرباء"
وتتفجر أزمة إمدادات الغاز لمصانع الأسمدة، إثر تفاقم أزمة انقطاع الكهرباء، وتخفيف الأحمال، بفعل نقص إمدادات الغاز، في أزمة مستمرة منذ العام الماضي، وتتصاعد بشكل كبير مع ارتفاع درجات الحرارة ووصولها معدلات أعلى من 40 درجة، ما يؤثر على والصناعة والإنتاج، ويزيد من الغضب الشعبي لدى نحو 106 ملايين مصري.
المثير أن تلك الأوضاع تأتي في ظل إصرار حكومي على تقليص بنود دعم الوقود في الموازنة الجديدة، بل إن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أعلن الأسبوع الماضي عن وقف دعم الكهرباء خلال 4 سنوات، ودعم الوقود بنهاية 2025، ما يزيد الضغط على المصريين.
وبرغم تفجر أزمة قطع إمدادات الغاز بالتزامن مع تفاقم أزمة انقطاع الكهرباء، تسعى حكومة
القاهرة لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي في البلاد بنحو 8 بالمئة السنة المالية (2024-2025)، ليبلغ نحو 5.7 مليار قدم مكعب يوميا، مقابل 5.3 حاليا، وفق أرقام رسمية.
اظهار أخبار متعلقة
إلا أنه ومع تفاقم وتوالي الأزمات المترتبة عن نقص الغاز لا يجري الحديث عن خطوات جادة وسريعة لزيادة إنتاج الغاز المحلي، وبل تشير الأنباء الصحفية إلى أن الحكومة المصرية تسعى لتوفير هذا النقص عبر طرح مناقصة عالمية لاستيراد 15 شحنة غاز مسال حتى تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وذلك برغم وجود اتفاقيات لاستيراده من إسرائيل.
وتحتاج وزارة الكهرباء يوميا لنحو 135 مليون متر مكعب من الغاز، و10 آلاف طن من المازوت، لإنهاء أزمة الكهرباء، لكنه لا توجد أرقام تكشف عن حجم ما تحتاجه مصانع الأسمدة الحكومية وتلك التي وقعت تحت الاستحواذ الأجنبي والخليجي، لإعادة تشغيلها، كما يثار التساؤل حول وضع الشركات الأخيرة ومدى قبول المستثمر الخليجي بهذا الوضع.
ويبلغ متوسط الاستهلاك المحلي من الغاز الطبيعي نحو 5.9 مليار قدم مكعب يوميا، توزع بين 57 بالمئة لقطاع الكهرباء، و25 بالمئة لقطاع الصناعة و10 بالمئة لقطاع البترول ومشتقات الغاز، و6 بالمئة لقطاع المنازل و2 بالمئة لتموين السيارات.
"من الإنتاج إلى الاستيراد"
لكن، تظل أزمة الغاز وفق مراقبين، صناعة إسرائيلية بالمشاركة مع رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، الذي أعلن بسنوات حكمه الأولى عن اكتشافات متتالية من الغاز الطبيعي خاصة باكتشاف شركة "إيني" الإيطالية لحقل "ظهر" عام 2015، وسط دعاية إعلامية كبيرة.
ليتحول حديث السيسي، إلى الاكتفاء الذاتي من الغاز، حيث أكد في تموز/ يوليو 2017، أن ذلك سيتحقق في 30 حزيران/ يونيو 2020، لكنه وبدلا من تحقيق هذا الحلم في ذلك التوقيت كما وعد بتوسيع قاعدة اكتشاف الغاز المحلي، صُدم المصريون في شباط/ فبراير 2018، بإعلان شركة "ديليك" الإسرائيلية، توقيع اتفاقية لتوريد 64 مليار متر مكعب من الغاز لشركة "دولفينوس هولدنج" المصرية مدة 10 سنوات، بقيمة 15 مليار دولار.
حينها دافع السيسي، عن توجهه لاستيراد الغاز من إسرائيل، بل إنه خاطب المصريين قائلا: "جبنا جول"، زاعما أن مصر بهذا أصبحت مركزا إقليميا لصناعة وتصدير الغاز بالمنطقة"، وهو ما تبعه تدشين منتدى غاز شرق المتوسط عام 2019، بمشاركة مصرية مع اليونان وقبرص وإسرائيل.
حلم تحول مصر إلى مركز إقليمي لتصدير الطاقة، صدقه المصريون، خاصة وأن بنية مصر التحتية قوية بهذا الملف، ولديها مصنعان لإسالة الغاز، بـ"إدكو" و"دمياط" على البحر المتوسط.
وفي هذا الإطار، شهدت القاهرة في 15 حزيران/ يونيو 2022، توقيع اتفاقا بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي لتصدير الغاز لغرب القارة العجوز التي كانت تعاني نقصا حادا حينها إثر تفجر الحرب الروسية الأوكرانية 24 شباط/ فبراير 2022.
وسار الحديث عن تحقيق مصر وفرة كبيرة من الغاز، حيث صدرت 8 ملايين طن بقيمة 8.3 مليار دولار عام 2022، وذلك بجانب وزيادة مضطردة من الكهرباء ووفرة للتصدير، ظهرت جلية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، بتوقيع الشركة "المصرية لنقل الكهرباء" مذكرة تفاهم مع شركة "جان دي نال" البلجيكية لتصدير الطاقة لأوروبا عبر خط بحري بقدرة 2 غيغاوات.
لكن لم يسر الأمر طويلا على النحو المعلن، فمنذ العام الماضي تراجعت إمدادات الغاز من الكيان المحتل، لتتفاقم الأزمة مع انطلاق "طوفان الأقصى" وتفجر حرب الإبادة الدموية الإسرائيلية على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ما تسبب في تراجع إنتاج الغاز الإسرائيلي وتوقف بالتالي إمداداته لمصر، لتتوالى الأزمات المحلية.
ودون تنسيق مسبق، وفي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أوقفت إسرائيل صادرات الغاز إلى مصر والأردن ما دفع حكومة القاهرة لزيادة مدة انقطاع الكهرباء إلى ساعتين يوميا.
لكن لاحقا استقرت تدفقات الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى مصر عند مستوى 1.1 و1.15 مليار قدم مكعبة يوميا، وقد تتجاوز 1.2 مليار قدم مكعبة يوميا خلال أشهر الصيف، لكن ضعف الإنتاج المصري وزيادة استهلاك الغاز دفع الجزء الأكبر من الغاز الإسرائيلي إلى السوق المحلية بدلا من التصدير.
وفي 2 أيار/ مايو الماضي، حذر موقع " makorrishon" الإخباري الإسرائيلي من أن مصر بصدد التوقف عن تصدير الغاز الإسرائيلي المسال إلى أوروبا، مشيرا إلى أنها تتجه لاستيراد الغاز الإسرائيلي لاستهلاكها الخاص، بدلا من تصديره.
اظهار أخبار متعلقة
لكن، يظل المثير للدهشة، أنه بعد اكتشاف حق "ظهر" وبدء إنتاجه في كانون الأول/ ديسمبر 2017، كأكبر الحقول المكتشفة بالبحر المتوسط باحتياطيات نحو 30 تريليون قدم مكعب، متجاوزا حقل غاز "ليفياثان" بالأراضي الفلسطينية المحتلة، يتم استيراد الغاز الإسرائيلي بعدها بثلاثة أشهر فقط، في شباط/ فبراير 2018، ليتراجع إنتاج حقل "ظهر" تباعا في سيناريو مثير للتساؤلات حول أسباب عدم تطوير الحق وزيادة إنتاجه.
بل إن شركة إيني الإيطالية مكتشفة الحقل أعلنت في نيسان/ أبريل الماضي، سحب سفينة الحفر منه، لعدم حصولها على 1.6 مليار دولار مستحقاتها لدى القاهرة، ما يشير لتوقف عمليات تطوير الحقل.
"تدخل السلطة وفخ إسرائيل"
وفي تعليقه، قال الباحث المتخصص في شؤون الطاقة والعلاقات الدولية خالد فؤاد، لـ"عربي21"، إن "القرارات الأخيرة بتخفيف الأحمال أو قطع الغاز على مصانع الأسمدة وهي كثيفة الاستهلاك للطاقة، كلها أمور نتاج سلسلة سياسات خاطئة متراكمة".
وأضاف: "منذ نحو عقد ومع اكتشاف حقل (ظُهر) تم التعامل معه بسياسات سياسية خاطئة، رغم أن احتياطياته كانت ضخمة لكن استعجال السلطة لزيادة وتسريع الإنتاج وبالتالي الصادرات أدى لحدوث أخطاء فنية أدت لتراجع إنتاج الحقل، وكان يجب أن تكون الأمور الفنية المتعلقة بالحفر والإنتاج وتنمية الحقول بقرارات فنية وليست سياسية".
ولفت إلى أن النقطة الثانية: "تتعلق بجذب الشركات العالمية للاستثمار باستكشاف الغاز والنفط"، مؤكدا أن "السياسات هنا لم تكن واضحة بشكل كبير، وكان الاعتماد الأساسي على قرارات رأس السلطة لتسيير وتسهيل حصول الشركات الأجنبية على امتيازات وتراخيص العمل في مصر".
وأوضح أن "هذا الأمر ربما يحل بعض الأزمات في وقتها؛ لكن على المدى البعيد غياب السياسات والاستراتيجيات واضحة المعالم في جذب والتعامل مع الشركات أدى إلى أزمات منها، الأزمة الاقتصادية في مصر وتأخر مستحقات الشركات المستكشفة أدى إلى إبطاء الاكتشافات وتنمية الحقول وتراجع الإنتاج".
فؤاد، أشار إلى أن "النقطة الثالثة والأهم والأخطر هي صفقة الغاز الإسرائيلي في 2018، والتي كانت بهدف جلب الغاز من إسرائيل وتسييله بمحطات التسييل المصرية وتصديره للخارج والاستفادة من العملة الصعبة".
واستدرك: "ولكن في ذلك التوقيت وبحسابات بسيطة لمعدلات الاستهلاك المصري بالمستقبل ومعدلات الإنتاج المصري بالمستقبل، تؤكد أن الاكتفاء الذاتي من الغاز سينتهي، وأن مصر ستواجه مشكلة في توفير احتياجاتها من الغاز، وهو ما أكدته بيانات ودراسات أشارت للأزمة خلال عامي 2022 و2023".
وأكد الباحث المصري، أن "هذا ما حدث بالفعل؛ انخفاض كبير في الإنتاج قابلته زيادة في الاستهلاك، وبالتالي عادت مصر مرة أخرى لاستيراد الغاز مع انتهاء الاكتفاء الذاتي، وهذا يمثل خطورة كبيرة لأن كل الغاز القادم من إسرائيل يدخل الاستهلاك المحلي بدلا من التصدير".
وفي قراءته السياسية، قال إن "هناك مخاطر لأن طبيعة العلاقات بين مصر وإسرائيل حرجة جدا، حتى لو هناك علاقات بين النظام وإسرائيل، فإن الاعتماد عليها في تأمين جزء من إمدادات الغاز المصري يحمل خطورة لأمن الطاقة والأمن القومي، ما كشفته حرب غزة الأخيرة عندما أوقت إسرائيل إنتاج حقل تمار وقطعت إمدادات الغاز عن مصر بشكل كامل".
ويعتقد الباحث في العلاقات الدولية أن "هذا كاشف لسياسة وهدف إسرائيل من هذه الصفقة، وفكرة استخدام الغاز كأداة ضغط سياسية على مصر في الأزمات والمواقف لدفع النظام لاتخاذ مواقف وسياسات معينة مع إسرائيل".
وخلص للقول: "وربما تكون مصر قد أدركت هذا مؤخرا بتأجير وحدات تغويز عائمة لاستقبال الغاز المسال أو جلبه ربما من قطر أو الجزائر ، في توجه صحيح من الحكومة، ولكن تظل المشكلة قائمة بأن هناك اعتماد لمصر في جزء من حاجتها للغاز الطبيعي على إسرائيل".
"الاستيراد وفقدان جاذبية الاستخراج"
وفي إجابته على السؤال: هل تدفع مصر ثمن خضوعها لاتفاقيات الغاز مع إسرائيل؟، قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب: "في ملف استيراد الغاز من إسرائيل، البعض كان يرى أن وجود مصالح مشتركة بين القاهرة وتل أبيب سيجعل هذه المصالح ورقة ضغط بيد مصر".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أوضح أن "اتفاق استيراد الغاز الإسرائيلي كان هدفه بالبداية أن يكون لبعض شركات القطاع الخاص المتعاملة مع إسرائيل، وهم شركاء بخط أنابيب شرق المتوسط".
وأضاف: "أيضا كان هناك تعاون مشترك بين مصر وإسرائيل بتسيل الغاز الإسرائيلي بمحطات الإسالة المصرية وإعادة تصديره لأوروبا، وبذلك تحصل مصر على فوائد نتيجة التسييل والتصدير، ويكون استيراد الغاز أحد عوامل التنمية".
وكيل وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية للبحوث الاقتصادية، استدرك قائلا: "لكن لم يتوقع أحد أن تؤدي أحداث غزة للكشف عن وجود تضارب مصالح بين القاهرة وتل أبيب، والجميع تابع ما وصل إليه الغرور والبلطجة الإسرائيلية لرفع علمها على الضفة الأخرى من معبر رفح البري، ناهيك حادث إطلاق النار والذي راح ضحيته جنودا مصريين".
اظهار أخبار متعلقة
وفي إجابته على السؤال: لماذا دفعت مصر بملف الغاز من الإنتاج الوفير إلى الاستيراد من
الاحتلال؟، يعتقد عبدالمطلب، أن "هناك أمورا غير واضحة بهذا الملف، ومنذ عام 2010، كان هناك حديث عن دخول مصر نادي مستوردي الغاز، لكن لم يحدث ذلك حتى 2014، ليبدأ الحديث في 2015، عن أن مصر قد تضطر لاستيراد الغاز".
وأضاف: "وفجأة منً الله عليها بحقل ظهر وتحولت للإنتاج الوفير، لكن لا أستطيع الجزم بالأسباب الحقيقية لتراجع إنتاج الغاز المصري، وأرى أنه كان هناك سوء تقدير، وأن الاتفاق مع إسرائيل جاء مع التأكيد على أن الغاز المستورد منها لن يدخل السوق المصرية، ويذهب لشركات قطاع خاص بعينها، والجزء الذي يدخل يكون بغرض الإسالة وإعادة التصدير".
ويعتقد الخبير المصري، أن "استيراد الغاز الإسرائيلي أدى لفقدان جاذبية استخراج الغاز المصري، وطبعا تأخر سداد مستحقات الشركات العاملة بمجال التنقيب والبحث والاستخراج أدى لعزوفها عن استكمال أعمالها وتقليل همتها للاستخراج، ومن هنا كان هناك اعتماد شبه كامل على الغاز الإسرائيلي بإدارة شؤون الاقتصاد المصري، وهذا ما بدأنا نعاني منه حاليا".
وعن رؤيته حول مدى تحكم إسرائيل بهذا الوضع في الصناعة المصرية ومستقبلها، قال إن "القوى المحركة وبمقدمتها الغاز عنصر أساسي في الإنتاج الصناعي، وكطاقة ومدخل أساسي بصناعة وإنتاج الأسمدة، ومن هنا بات واضحا اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي".
وختم بالقول: "وإذا كانت تلك الطاقة يتم استيرادها من إسرائيل، وفي ظل وجود مشاكل بالعلاقات، قد تتوقف سلاسل إنتاج مصر بالغاز وهذا يؤدي لمشاكل كبيرة للقطاع الزراعي والصناعي".