أفكَار

المؤثرون من صناعة التفاهة إلى احتلال المواقع.. قراءة في الأدوات والمضامين

أحدثت التحولات التي مست آليات صناعة النخب، وأدوار النخب الافتراضية وتأثيرهم في الجمهور تغيرات مهمة في العلاقة بين السلطة والنخبة.. الأناضول
أحدثت التحولات التي مست آليات صناعة النخب، وأدوار النخب الافتراضية وتأثيرهم في الجمهور تغيرات مهمة في العلاقة بين السلطة والنخبة.. الأناضول
قبل سنوات من ظهور منصات التواصل الاجتماعي، كان العالم يعيش على إيقاع معادلة النخب التي تقود المجتمع وتؤثر في اختياراته ومواقفه، وكانت معادلة السياسة نفسها تدور حول دور النخب، ومدى قدرة السلطة على احتوائها أو قدرة النخب على عزل السلطة بالاحتماء بالمجتمع وتحويله إلى حركة احتجاجية.

في التجربة التاريخية للأمة، كان العلماء طليعة النخبة المؤثرة في المجتمع، التي تخشى السلطة منها، وتحرص على ودها والاقتراب منها، حتى لا تصير أداة في نزع شرعيتها أو التنقيص منها.

ومع  السياسة الاستعمارية، بدا الرهان على تفكيك النخب التقليدية، وخلق ازدواجية مؤسساتية ولغوية وثقافية، قصد صناع القرار الاستعماري منها، القضاء على البنيات التقليدية، وعلى تأثير اللغة العربية في تشكيل  ثقافة المجتمع، كما قصدوا تهميش المؤسسات التعلمية الأهلية، وعمدوا إلى خلق مؤسسات وهياكل حديثة، مع تعليم عصري، يدرس بلغة أجنبية، وبمحتويات عصرية، تقطع مع التراث وعلومه،  كما اشتغلوا على بناء مؤسسات لإنتاج النخب الإدارية، مفصولة تماما عن ثقافة الأمة ومقوماتها الحضارية، فكانت النتيجة أن تشكلت إلى جانب النخب التقليدية نخب عصرية، درست في الخارج، أو درست في مؤسسات التعليم العصري،  وكان رأسمالها هو تملك لغة المستعمر وثقافته وعلومه مع قطيعة كبيرة عن  ثقافة الأم.

اشتغلت دولة الاستقلال، أو الدولة الحديثة، على تأمين استمرارية السياسة الاستعمارية من جهة تهميش النخب التقليدية، وعزل المؤسسات الأهلية، وتقليص أدوار التعليم الشرعي، والرهان أكثر على مخرجات التعليم العصري، ونتج عن ذلك حدوث تحولات في النخب، وأدوارها في المجتمع، فتنازعت عملية التأثير في المجتمع ثلاث نخب: الأولى تقليدية، بقيت على جبهة الممانعة واستئناف دورها في تجسير الصلة بين الأمة وتراثها وثقافتها. والثانية، النخب العصرية المنقطعة عن ثقافة أمتها، واتجه دورها إلى التشجيع على ما اسماه عبد الله العروي بـ"الفطام عن ثقافة الأم"، والقطيعة مع الماضي التاريخي والعلمي للأمة. ونخبة ثالثة، أخذت من رصيد النخبتين، ومارست دور التركيب والتوفيق، تحت مسمى الأصالة والمعاصرة.

هذه التحولات التي مست النخب، لم تغير في الواقع قواعد إنتاجها، إذ ظلت القاعدة واحدة، وهي التدرج والترقي في التعلم، سواء من خلال نظام تقليدي (الإشهاد عبر إجازة الشيوخ) أو من خلال تراتبية نظامية حديثة (نظام الامتحانات والتخرج والإشهاد). المتغير الوحيد الذي حصل على مستوى ترقية النخب، هو تغير المؤسسات، من مؤسسات أهلية تقليدية إلى مؤسسات عصرية، تشرف عليها الدولة، وتغير اللغة من لغة الأم (اللغة العربية) إلى لغة المستعمر (أضحت تسمى لغات حية)، ثم  تغير المحتوى والمنهاج، من محتوى يركز على العلوم الشرعية وعلوم اللغة والتاريخ والرياضيات، إلى محتوى يركز على العلوم النظامية، مع  إقصاء شامل للعلوم الشرعية، وإبقائها إما في مؤسسات مهجورة (التعليم العتيق أو التعليم الأصيل كما في حالة المغرب) وإما تغيير مسماها ومضمونها، فأصبحت عبارة عن "تربية إسلامية" تضم دروسا تركز على المحتوى التربوي والقيمي ليس أكثر.

حاصل هذه التوطئة، أن التحولات التي حصلت على مستوى النخب، لم تغير بالمطلق قواعد إنتاجها، أي الارتكاز على قاعدة التعليم والارتقاء المستند إلى الشواهد والتبرز العلمي، فكان الارتقاء إلى مراكز النخبة، يعتمد أساسا على التبرز العلمي إلى جوانب أخرى تتعلق بالانتماء، والتحيز الاجتماعي، والمضمون الثقافي والسياسي الذي تخاطب به الجماعة.

منصات التواصل الاجتماعي وتغير قواعد إنتاج النخب

مع ظهور منصات التواصل الاجتماعي، حصل تغير مهم في عدد من القواعد المرتبطة بإنتاج النخب. أولها، تغير مفهوم الفضاء العام والفضاء الخاص، فقد أحدثت منصات التواصل الاجتماعي فضاء هجينا، يجمع بين الخاص، والفضاء العام، ويشكل بذلك فضاء ثالثا، اصطلح عليه بالفضاء الافتراضي. القاعدة الثانية التي تغيرت، وهي أن قاعدة الولوج إلى هذا العالم، أصبحت تقوم على مبدا امتلاك الهاتف النقال، من جهة، ثم امتلاك حساب في هذه المنصات، فالذي يملك الولوج إلى هذا العالم الافتراضي يكون مقدما على غيره في إمكانية صناعة النخبة الجديدة. القاعدة الثالثة التي تغيرت، وهي آليات صناعة النخب وترقيتها.

ففي العالم الافتراضي، ليس هناك نظام تعليمي، ولا تراتبية دراسية، ولا محتوى تعليمي، ولا نظام امتحان وإشهاد، بناء عليه، ترتقي النخب وتمكن من تحقيق التبرز العلمي الذي يضمن لها شرعية مخاطبة الجمهور والتأثير فيه، بل صار مجتمع المشتركين والمعجبين والمعلقين هم صناع النخب الافتراضية. أما القاعدة الرابعة، التي تغيرت بشكل كامل، وهي ثقافة النخب الافتراضية، فلم يعد الأمر يتطلب أي مستوى تعليمي أو ثقافي أو حتى لغوي، فالأمر يرتبط بالقدرة على إنتاج مضمون يصل إلى أوسع قدر من المعجبين، ويحظى بأكثر قدر من التعاليق، فقد نالت بعض الصفحات عددا قياسيا من المشتركين والمعجبين والمتابعين، علما أن أصحابها لا يمتلكون أدنى مستوى تعليمي، ولا يحسنون الكتابة باللغة العربية أو حتى بالأجنبية، ولا يتمتعون بأي درجة علمية أو مستوى ثقافي.

القاعدة الخامسة التي تغيرت، وهي تبع لسابقتها، هي المضمون، فإذا كان الكتاب أو المقال أو النص الشعري أو النثري أو التعبير الفني، هو المضمون الذي كانت النخب التقليدية تنتجه وتخاطب به الجمهور، فإن المضمون اليوم (المحتوى/ التدوينة/ الفيديو) لم يعد يخضع لقواعد في التقييم، فقد أضحى المضمون منفتحا على كل المضامين، بما في ذلك   المضامين التافهة، والبذيئة، والمضامين التي تنتمي لثقافة السب والشتم، وغير ذلك مما لم يكن مقبولا للنخب التقليدية أن تتلبس به.

القاعدة السادسة التي تغيرت، تتعلق بالذات، فالنخب التقليدية،  كانت تتقوم بالمضمون العلمي والثقافي الذي تنتجه وتخاطب به الجمهور،  ولا تجعل من ذاتها وحياتها الخاصة موضوعا أو مضمونا للتخاطب، وكانت إذا ما فكرت في تقديم معطيات عن الذات، تجعل ذلك نهاية الطريق، من خلال سيرة ذاتية، تكتب بطريقة أقرب إلى العبرة الفكرية والثقافية منها إلى تعظيم الذات أو تحويلها إلى رأسمال تأثيري، في حين، أضحت الذات اليوم- صورها، وأخبارها، وأسرتها، ورحلاتها وتحركاتها، وأطباقها المختلفة من الطعام، واحيانا رفاهها وتعريها- مضمونا جديدا لمخاطبة الجمهور واكتساب المعجبين وكثرة التعليقات.

بالأمس القريب كانت الكرامة والاعتبارات الأخلاقية المرتبطة بعدم الزهو بالذات كوابح جدية، ترشح المضمون العلمي والثقافي وحده ليكون أداة التأثير، لكن مع منصات التواصل الاجتماعي، تكسرت هذه الاعتبارات المرتبطة بالكرامة وأخلاق التواضع، فصارت الذات محور الاستقطاب والتواصل.

المثقف نفسه، لم يعد قادرا على ترويج إصداراته الفكرية وإبداعاته الأدبية دون المرور على منصات التواصل الاجتماعي، فهي التي تروج بضاعته، وهو في هذا كله، يحتاج أن يغير من وظيفته، فيصير هو الآخر مؤثرا في وسائل التواصل الاجتماعي، أو ربما يحتاج خدمات هؤلاء ليتمكن من ضمان رواج أكبر لمنتوجه.
وهكذا، وبالنظر إلى مجموع هذه القواعد أصبحت النخب التقليدية، التي لا تملك هاتفا نقالا، أو لا تملك حسابا على منصات التواصل الاجتماعي، أو لا تحسن قواعد اكتساب المعجبين والتعليقات، أو تصر على إنتاج نفس مضامينها السابقة او لا تملك القدرة ولا الوقت على البقاء قرب الهاتف النقال، أو تتمسك بالضوابط الأخلاقية في إبعاد الذات عن المحتوى، نخبا هامشية أو عديمة التأثير، بينما ارتقت نخب أخرى، بفضل قدرتها على تحريك هذه العناصر لصالحها حتى ولم لم تمتلك مضمونا علميا أو محتوى ثقافيا أو تصوغ مضمونها بلغة سليمة عربية أو أجنبية.

المؤثرون.. الهوية وآليات الصناعة

كانت النخب التقليدية تتقلد كل الأدوار القيادية، ففضلا عن أدوراها المرتبطة بكفاءتها العلمية (تصدر التدريس والإفتاء، القضاء، والإدارة، والمسؤوليات الحكومية، ...) كانت بفضل تأثيرها في الجمهور، مصدر شرعية ومصداقية سياسية، تدفع السلطة السياسية إلى التفكير في خيارات احتوائها أو مقاومتها، فكانت تمثل من هذه الزاوية ما يسمى اليوم بالأحزاب السياسية، والسلطة الرابعة (الإعلام)، وسلطة المثقفين العضويين المنخرطين في هموم المجتمع. فكنت بهذا الاعتبار تمتلك كل قنوات التأثير التي تلجئ السلطة للتفكير في نوع من التفاوض معها احتواء أو قمعا أو مقاومة.

التغير النوعي الذي سجل بعد ظهور منصات التواصل الاجتماعي، هو الانفصال بين  الأدوار العلمية والإدارية والمهنية، وبين أدوار التأثير في المجتمع، فلم يعد العالم أو القاضي، أو المتصدر للمسؤولية الإدارية أو السياسي، أو الوزير، يملك التأثير الذي يملكه صانع المحتوى في وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن وسائل الإعلام التقليدية لم تعد تساوي شيئا أمام زخم  الدور الإعلامي الذي تمثله وسائل التواصل الاجتماعي، فاليوم، كل مواطن يحمل هاتفا نقالا، هو في الحقيقة صحفي، يصور الحادثة، ويشكل شاهد عيان عليها، ويوثقها بالصورة، ويعلق عليها في الآن، دون أن ينتظر يوما كاملا لصدور جديدة تتلقى بشكل كلاسيكي تقارير مراسليها.

والمثقف نفسه، لم يعد قادرا على ترويج إصداراته الفكرية وإبداعاته الأدبية دون المرور على منصات التواصل الاجتماعي، فهي التي تروج بضاعته، وهو في هذا كله، يحتاج أن يغير من وظيفته، فيصير هو الآخر مؤثرا في وسائل التواصل الاجتماعي، أو ربما يحتاج خدمات هؤلاء ليتمكن من ضمان رواج أكبر لمنتوجه.

في المجمل، برزت فئة جديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، تسمى المؤثرين، الذين صاروا بفضل عدد من الخصائص التي اكتسبوها من وجودهم في منصات التواصل الاجتماعي قادرين على الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور والتأثير عليهم.

الكثيرون يتساءلون عن هوية المؤثر ومن يكون؟ وكيف اكتسب هذه الصفة؟ وما هي قواعد الترقي داخل المجتمع الافتراضي للوصول إلى هذه المرتبة؟ هل الأمر يتعلق بامتلاك تقنيات تكثير المشتركين والمعجبين والمعلقين، أم يتعلق بصناعة مضمون يراعي التحولات التي حصلت داخل الجمهور الافتراضي؟ أم يتعلق بسياسة تسويق مدفوع الثمن، يمارس من خلف، وتتواطأ في صناعته الشركات القائمة على هذه المنصات؟

من حيث الشكل يبدو الأمر أقرب إلى التراتبية التي توجد في النظام التعليمي، فالبدء يكون بالولوج (التسجيل في المؤسسة التعليمية) وهو أمر لا يتحقق إلا بجهاز هاتف نقال أو ما يشبهه، وهو مرتبط بفتح حساب، وبنوعية الأداء (الواجبات المدرسية)، على أساس أن يتلقى صاحب الحساب اشتراكات جديدة، ومعجبين جدد، وتعليقات تتفاعل مع المحتوى الذي أنشأه (تقويم تربوي)، حيث تخضع الصفحة المنشأة على وسائل التواصل الاجتماعي لثنائية الصعود والتراجع بحسب الأداء والتعهد (النجاح والرسوب حسب التحصيل الدراسي)، ويكسب صاحبها صفة المؤثر حينما يصل إلى ملايين المتابعات أو المشاهدات بالنسبة لقناة  في اليوتيوب، أو آلاف المشتركين والمعجبين والمعلقين في صفحة على الفايسبوك أو التويتر أو الانستغرام (النجاح والتخرج).

الفرق بين الارتقاء في النظام التعليمي وفي فضاء وسائل التواصل الاجتماعي، يكمن في الجوهر، في شيئين اثنين،  في المضمون، وفي قواعد وآليات التقييم،  فالمؤثر لا ينتظر من هو أرقى منه تعليما ورتبة مهنية لكي يقومه، ويضمن ترقيه، بل يساهم  الجميع في هذه العملية، بمن في ذلك غالبية من لم يحظوا باي تعليم ولا يمتلكون أي مستوى ثقافي، ثم لا يشترط المضمون أي قاعدة من قواعد العلم والفكر والثقافة، ولا يفترض فيه مراعاة الشروط الأخلاقية واعتبار كرامة الكاتب، بل خرق هذه القواعد، والاشتغال على الذات، ربما هو شرط الترقي السريع.

أحدثت التحولات التي مست آليات صناعة النخب، وأدوار النخب الافتراضية وتأثيرهم في الجمهور تغيرات مهمة في العلاقة بين السلطة والنخبة، وحفزت الكثير من النظم السياسية على تحديث آليات التحكم في الفضاء التواصلي، عبر استصدار قوانين تنظم الصحافة الإلكترونية، وتحديث البنيات الأمنية، وإحداث خلايا الأمن السيبراني من جهة، وأقسام الرقابة الإلكترونية من جهة أخرى، لمتابعة المضامين التي تستحدث على منصات التواصل الاجتماعي، وقياس تأثيرها الواقعي على السياسة ومزاج الجمهور الفعلي في الواقع.
قد تبدو هذه المقارنة تقريبية، من حيث التشابه في الشكل، والاختلاف في الموضوع، لكن، الفرق الجوهري بين ترقي النخب التقليدية وترقي نخب العالم الافتراضي إلى مؤثرين، يكمن في وجود طرف ثالث يتدخل بقوة في التحكم في توجيه المضمون ونقله إلى أوسع قاعدة أو حجبه عنهم، بما في ذلك حجبه عن قاعدة المشتركين، أي بعبارة تقريبية، لتراتبية النظام التعليمي، هناك جهة رسمية (إدارة أو مندوبية أو حتى وزارة) تتدخل لممارسة نوع من الغش والمحاباة لترقية بعض النخب على حساب أخرى، من خلال عمليات الزيادة في النقط، أو  تسريب الامتحانات،  أو غير ذلك من وسائل الغش الذي تتورط فيه الإدارة التربوية. فعدد كبير من المؤثرين، لا يتكسبون هذه الصفة عبر مسار من ترقية مشتركيهم ومعجبيهم من خلال الاشتغال على المضمون، وإنما عبر تقنية الدفع لصالح شركات التواصل الاجتماعي، التي توسع نسب اٌبال على هذه المضامين، وأحيانا تتدخل عوامل سياسية وقيمية، تجعل هذه المنصات تشتغل لحساب بعض دون آخر، وهي قضايا معمول بها (خاصة الدفع لتوسيع دائرة الإقبال على المضمون) أو ممارسات لا مهنية، قدم عدد من مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي شكاوى ضد إدارة المنصات، لتفسيرها أو للتخلي عنها.

في المحصلة، تتحدد هوية المؤثر بفن استخدام قواعد منصات التواصل الاجتماعي لتكثير وتوسيع لائحة المشتركين والمعجبين والمعلقين، وبالاشتغال أيضا على مضمون يناسب الجمهور المتعدد، بغض النظر عن علميته أو وزنه الثقافي، أو حتى التزامه الأخلاقي، كما تتحدد بنوع العلاقة التجارية التي تربط المستخدم بهذه المنصات، وتوظيف تقنية الدفع (boustage) للوصول إلى مرتبة المؤثر على منصات التواصل الاجتماعي.

المؤثرون من صناعة التفاهة إلى احتلال المواقع

أحدثت التحولات التي مست آليات صناعة النخب، وأدوار النخب الافتراضية وتأثيرهم في الجمهور تغيرات مهمة في العلاقة بين السلطة والنخبة، وحفزت الكثير من النظم السياسية على تحديث آليات التحكم في الفضاء التواصلي، عبر استصدار قوانين تنظم الصحافة الإلكترونية، وتحديث البنيات الأمنية، وإحداث خلايا الأمن السيبراني من جهة، وأقسام الرقابة الإلكترونية من جهة أخرى، لمتابعة المضامين التي تستحدث على منصات التواصل الاجتماعي، وقياس تأثيرها الواقعي على السياسة ومزاج الجمهور الفعلي في الواقع.

لقد قدمت تجربة الربيع العربي، وأدوار وسائل التواصل الاجتماعي في تغذية كثير من دينامياتها، درسا مهما للنظم السياسية، واضطرتها إلى تغيير استراتيجيتها الأمنية في التعاطي مع منصات التواصل الاجتماعي، كما شكل استثمار السياسات الخارجية الأمريكية والأوربية في دعم حرية الانترنت درسا آخر، دفع الأجهزة الأمنية في كثير من الدول العربية إلى مراقبة الصلات الخارجية بين المؤثرين وبين مصالح الدول الأجنبية. وقد أثمرت خبرة ما بعد الربيع العربي، أي أكثر من أربعة عشر سنة في التعاطي مع المضمون المتدفق في وسائل التواصل الاجتماعي إلى تنويع استراتيجيات التحكم في الفضاء الافتراضي، وذلك بتفضيل تكتيتكات الاحتواء على آليات المصادرة والقمع والتضييق.

وقد اشتغلت السلطة السياسية في العالم العربي على تجريب نفس آليات احتواء النخب من خلال تمكينها في منظومة الريع أو إدماجها في مواقع تمكنها من توسيع مصادر الثروة، فحصل التحول من صناعة المضمون إلى احتلال المواقع الثقافية والفنية والاجتماعية.

في التجربة المغربية، توقفنا على مظاهر كثيرة من خروج المؤثرين من المجال الافتراضي إلى مواقع استدرار الثروة، نذكر من ذلك:

1 ـ حالة تحول بعض المؤثرين إلى أساتذة يبثون الدرس التعليمي بطريقة غنائية ترديدية لا تحترم أدنى الشروط البيداغوجية والديداكتيكية، وترتكب أخطاء معرفية فظيعة، ومع ذلك تستقطب مئات المتعلمين، ويحقق المؤثرون من خلالها كسبا ماليا عريضا، ويمارسون على صفحات التواصل الاجتماعي حملات إشهارية كثيفة، تمكنهم من تأمين استمراريتهم في القيام بهذا الدور. وعلى الرغم من حملة الانتقادات الصادرة من النخب العلمية بخصوص مخاطر هذه الطرق التي يستخدمها المؤثرون ويخترقون مجالات ليس لهم فيها أدنى أهلية أو تحقق بالشروط البيداغوجية أو الديداكتيكية، إلا أن القطاع الوصي بالتربية والتكوين لم يتدخل لإيقاف هذه الظاهرة.

2 ـ حالة تحول بعض المؤثرين إلى مستثمرين خاصة في العقار، بل وتحولهم إلى أساتذة في الاقتصاد والاستثمار، يعلمون الجمهور الطرق السريعة لاكتساب الثروة والقيام بمشاريع ناجحة، وكيف يستعلمون جمهورهم (المشتركين والمتابعين والمعجبين والمعلقين) في تجسير هذا الانتقال.

3 ـ حالة تحول بعض المؤثرين إلى برامج الشو، والتحليل السياسي أو الرياضي أو حتى الفني أو النقاش العمومي، دون التوفر على أدنى الشروط المهنية لممارسة هذه التخصصات الدقيقة، مع ما يمكن أن يلاحظ على برامجهم ومضامينهم من أخطاء معرفية فظيعة.

4 ـ حالة تحول بعض المؤثرين إلى ممثلين أو مغنين، وحدوث تحول في اتجاهات المخرجين السينمائيين لجهة إدماج المؤثرين في أعمالهم السينمائية بدلا عن الممثلين المحترفين.

5 ـ حالة تحول بعض المؤثرين إلى مبدعين في الأدب (الرواية) وكيف ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في استقطاب كم هائل من الشباب للحضور في حفل توقيع رواية لأحد المؤثرين السعوديين الذي لا يعرفه أحد من النقاد المتخصصين.

6 ـ حالة تحول بعض المؤثرين إلى ناشطين في العمل الاجتماعي، وتحديدا مع كارثة زلزال الحوز، فقد سلطت السياسة الإعلامية الرسمية الضوء عليهم، مع أن النخب الأخرى العلمية والثقافية والفنية والرياضية شاركت بكل قوة في رفع تحدي تعميق قيمة التضامن في المجتمع المغربي، لكن في الواقع كانوا مجرد هامش على متن أداء المؤثرين.

7 ـ حالة تحول بعض المؤثرين إلى تأسيس حزب سياسي، برهان خلخلة المشهد الحزبي..

هذه بعض الحالات التي تم رصدها، والتي تحول فيها مجرد القدرة على جدب المعجبين والمحبين، إلى آليات تمكن من الولوج إلى مواقع التأثير التي يفترض أن تحضر فيها، وبضمان من الدولة ودستوريها  وإطارها القانوني، قواعد صارمة تنظم الولوج، والترقي، وضوابط  أخلاقية ومواثيق شرف يحتكم إليها الفاعلون في المجال، فواقع الحال، يؤكد أن أي محاولة لإخراج المؤثرين من فضاءهم الخاص، وإقحامهم بتعسف في الفضاء العام على حساب تلكم القواعد والضوابط والمواثيق، يوشك أن ينسف الفضاء العام،  ويحوله إلى بؤرة توتر، يمكن أن تتفجر في أي لحظة تماما كما يقع اليوم من مجالات عدة، يشعر فيها أصحاب الميدان أنهم اضحوا في دائرة التهميش والإقصاء.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم