سلط موقع "
كاونتر
بانش" الضوء على الآلية الغامضة التي تستخدمها كبرى
شركات الوقود الأحفوري
للحفاظ على سيطرتها العالمية بينما تدمّر منتجاتها مستقبل البشر.
وقال الموقع، في
تقريره الذي ترجمته "عربي21"، إن هذه الآلية لا يعرفها معظم ناشطي المناخ العاديين، ونادرا ما تناقشها معظم وسائل الإعلام بقدر كبير من التفصيل، وهي
أداة ترجع أصولها إلى الاستعمار وتفضل سلطة الشركات على الديمقراطية. المصطلح
الفنّي لمثل هذه الأداة هو "تسوية
المنازعات بين الدولة والمستثمر". ومع
أنها تسمية تبدو مملة وتقنية، إلا أنه من المهم أن نتعرف عليها حتى نتمكن من
تفكيكها.
وتصف أداة تتبع نظام
تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر، وهي قاعدة بيانات تم إطلاقها حديثًا على
الإنترنت، هذه المحاكم بأنها "محاكم الشركات السرية". فعندما تدخل الدول
في اتفاقيات تجارية مع بعضها البعض، فإنها عادةً ما تتضمن بندًا بشأن استخدام نظام
تسوية المنازعات بين الدول لحل نزاعات الشركات مع الهيئات التنظيمية الوطنية.
بعبارة أخرى، إذا رأت شركة منشؤها دولة ما أن أرباحها مهددة بسبب اللوائح
التنظيمية أو التأميم في دولة أخرى، فيمكنها مقاضاة تلك الحكومة الثانية.
عندما نطبق هذه
المسألة على مساعي الحد من الانبعاثات الكربونية من أجل إبقاء كوكبنا قابلا
للحياة، بوسعنا أن نرى أن مثل هذه المحاكم قد تكون مثيرة للمشاكل إلى حد كبير.
فعندما تقرر الدولة "أ" الانتقال من صناعة النفط والغاز نحو الطاقة
الخضراء والمتجددة، فإنه يمكن لشركة نفط مقرها في البلد "ب" رفع دعوى قضائية
من خلال اتفاقية تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر لاستخراج أرباحها المفقودة.
فعلى سبيل المثال،
تواجه نيجيريا حاليا مجموعة هائلة من التعويضات التي حددتها محكمة نظام تسوية
المنازعات سيتم دفعها لشركة مقرّها المملكة المتحدة لمشروع غاز تعادل ما يصل إلى
30 بالمئة من احتياطيات البلاد بالكامل من النقد الأجنبي. وتطالب شركات التعدين
الأجنبية جمهورية الكونغو بمبلغ 30 مليار دولار باستخدام محاكم نظام تسوية
المنازعات. وهذا يعادل ضعف الناتج المحلي الإجمالي للكونغو.
وأوضحت مبعوثة الأمم
المتحدة السابقة للمناخ والرئيسة الأيرلندية السابقة ماري روبنسون، التي قالت إنها
"شعرت بالغضب" عندما اكتشفت أن شركات النفط والغاز تستخدم نظام تسوية
المنازعات لابتزاز الدول، أنه "إذا فعلت الدول الشيء الصحيح في ما يتعلق
بالمناخ، فعليها تعويض شركات الوقود الأحفوري".
من أين أتت أنظمة
تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر؟ وكيف يمكن تبريرها في عصر يتفق فيه المجتمع
على نطاق واسع على الديمقراطية باعتبارها أفضل شكل من أشكال الحكم؟ أوضحت إدارة
الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في سياق اتفاقية التجارة الحرة لسنة 2016
والتي تسمى الشراكة عبر المحيط الهادئ، أن "نظام تسوية المنازعات بين الدولة
والمستثمر مصمم خصيصًا لحماية المستثمرين الأمريكيين في الخارج من التمييز
والحرمان من العدالة"، وأنه "نظام أكثر سلمية". ويُزعم أنها طريقة
أفضل لحل النزاعات التجارية مقارنة "بدبلوماسية الزوارق الحربية" في
العصور السابقة.
اظهار أخبار متعلقة
يبدو الأمر كما لو أن
الخيار الوحيد أمام الولايات المتحدة هو الدفاع عن شركاتها ضد ديمقراطيات الشعوب
الأخرى بدلا من السماح للكيانات الخاصة بالدفاع عن نفسها. فليت البشر محميين من
"التمييز والحرمان من العدالة" إلى هذا الحد.
ووفقا لتقرير صدر سنة
2023 عن ديفيد بويد، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان والبيئة،
"من بين أكبر 12 تعويض لتسوية المنازعات حتى الآن، 11 منها رفعها مستثمرو
الوقود الأحفوري والتعدين". وكتب بويد أن مبلغ 95 مليار دولار الذي استخرجوه
من الدول التي تستخدم نظام تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول "من المرجح
أن يتجاوز هذا المبلغ الإجمالي للتعويضات التي حكمت بها جميع المحاكم لضحايا
انتهاكات حقوق الإنسان في جميع الدول في جميع أنحاء العالم، على الإطلاق".
وقال الموقع إن بويد،
الحائز على جائزة بوليتزر "إنسايد كلايمت نيوز"، يفضل تسمية "تسوية
المنازعات بين المستثمرين والدول" بـ "الاستعمار الاقتصادي"، خاصة
أن "غالبية القضايا رفعتها شركات من الولايات المتحدة وأوروبا وكندا ضد الدول
النامية"، مبينًا أن الاستعمار هو الوصف المناسب. وأوضح جوس فان هارتن في
كتابه "مشكلة حماية المستثمر الأجنبي" الصادر سنة 2020، أن معاهدات
تسوية المنازعات بين المستثمرين الأجانب "تنشأ من جهود القوى الاستعمارية
السابقة والمنظمات الدولية، وخاصة البنك الدولي، لتقييد الدول المستقلة
حديثًا". بعبارة أخرى، إن معاهدات تسوية المنازعات الاستثمارية الدولية هي
وسيلة لتمديد الاستعمار بعد انتهاء الاحتلال الفعلي.
وأضاف أن جوزيف
ستيغليتز، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، يُفضّل مصطلحات أكثر قسوة. فقد أطلق
على آليات تسوية المنازعات الاستثمارية الدولية "إرهاب التقاضي"، لأنها
"تغرس الخوف من اللوائح البيئية واللوائح المناخية لأنها ستكون مكلفة"
للحكومات.
وأشار الموقع إلى أن
المعلقين البريطانيين ضغطوا على حكومة المملكة المتحدة للخروج من معاهدات مثل
"معاهدة ميثاق الطاقة" التي تتطلب محاكم التحكيم بين المستثمرين والدول.
وفي شباط/ فبراير 2024، أعلنت المملكة المتحدة أنها ستنسحب من معاهدة ميثاق
الطاقة، على خطى فرنسا وألمانيا وإسبانيا وهولندا. وفي الآونة الأخيرة، أيّد أعضاء
البرلمان الأوروبي أيضًا اقتراحًا بإنهاء عضويتهم في معاهدة التعاون الاقتصادي
الأوروبية. وقد وُصف هذا التصويت بـ"التاريخي" ضد المعاهدة التي يُنظر
إليها على أنها "قاتلة للمناخ".
وأوضح الموقع أنه حان
الوقت للولايات المتحدة أن تفعل الشيء نفسه. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي،
وقّعت المئات من منظمات العدالة المناخية والمجتمع المدني على رسالة تحث الرئيس جو
بايدن على إنهاء آليات التسوية في المنازعات بين المستثمرين والدول المضمنة في
اتفاقية تجارية - تسمى الشراكة الأمريكية من أجل الرخاء الاقتصادي - مع ما يقارب
12 دولة من دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وأوضح الموقّعون على
الرسالة أن نظام تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول هو "نظام حوكمة عالمي
يعطي الأولوية لحقوق الشركات على حساب حقوق الحكومات والشعوب والكوكب".
أعقب ذلك رسالة مماثلة
في كانون الأول/ ديسمبر 2023 وقّع عليها أكثر من 40 مشرعًا من مجلسي الشيوخ
والنواب يحثون بايدن على إزالة بنود تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول من
جميع الاتفاقيات التجارية. وأشاد الموّقعون، بمن فيهم السيناتور إليزابيث وارين
وشيلدون وايتهاوس، بتحرك بايدن "القوي عندما أوقف مشروع خط أنابيب كيستون إكس
إل، ومنع بناء خط أنابيب نفط رمال القطران".
وأشاروا إلى أن "شركة تي سي
إنرجي (المعروفة سابقًا باسم ترانس كانادا) - الشركة التي تقف وراء خط الأنابيب
المتوقف الآن - قدمت مطالبة لتسوية المنازعات بين المستثمرين والدول بمليارات
الدولارات ليتم النظر فيها ليس في محكمة أمريكية وإنما في محكمة دولية مشبوهة".
وأورد الموقع أن الزخم
ضد أحكام تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول يتزايد. ففي نيسان/ أبريل 2024،
كتب مئات الأكاديميين في القانون والاقتصاد أيضًا إلى بايدن يحثّونه على
"إلغاء مسؤولية تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول من الاتفاقيات
الحالية"، مع تقديم خبرات قيمة حول كيفية القيام بذلك.
لكن الأمر المثير
للقلق أن الشركات متعددة الجنسيات من الولايات المتحدة أطلقت أكبر عدد من قضايا
تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول في جميع أنحاء العالم. وتعد الولايات
المتحدة حالياً أكبر منتج للنفط الخام في العالم. وتجني شركات النفط والغاز
الأمريكية أرباحًا مرتفعة للغاية بينما تستفيد من مليارات الدولارات من الإعانات
العامة في شكل إعفاءات ضريبية.