يشهد علم
المقاصد الشرعية طفرة فكرية وبحثية هامة خلال العقود
القليلة الماضية تتجه إلى مزيد من البلورة والتخصص والتعميق تعبر عن ذلك تعدد
الكتابات والأبحاث المقاصدية من جهة وتزايد الاهتمام بهذا العلم في الجامعات
والمؤسسات العلمية في مختلف المجالات ومن ثم تنامي عدد الرسائل الجامعية ذات
العلاقة من جهة أخرى.
والمتأمل في هذا الفيض البحثي يلمس اهتماما مخصوصا بقضية
التنزيل والتفعيل للمقاصد بعدما حظي جانب التأصيل والتنظير بحيز هام منذ بداية ما
يمكن عدها بمرحلة الصحوة المقاصدية الجديدة في منتصف القرن الماضي على يد الجيل
الثاني من علماء المقاصد وفي طليعتهم الامام الشيخ الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي
وأحمد الريسوني وعبد المجيد النجار وجمال الدين عطية وغيرهم .
كما يلمس الباحث في هذا الصدد أيضا اتجاها نحو المزيد من التخصص من
أجل أن تكتمل المنظومة المقاصدية لتشمل مختلف الحقول المعرفية الإنسانية
الاجتماعية منها والسياسية والتربوية والثقافية والتشريعية وغيرها، وتصبح بالتالي
قادرة على تغطية كافة تلك المجالات والاستجابة لمجمل التحديات الفكرية والعملية
التي تواجه المجتمعات البشرية في مستهل القرن الجديد الواحد والعشرين.
يشهد عالم الاقتصاد فكرا ونظاما، بداية من القرن الجديد الواحد والعشرين ومنذ اندلاع الأزمة المالية عام 2008 تحديدا، حالة لا مثيل لها من الاضطراب والضبابية والتخبط وغياب الرؤية المستقبلية للعالم ومصير البشريّة في ظلّ تصدّع النظام الرأسمالي السائد بعد زوال غريمه الاشتراكي في أواخر القرن الماضي.
من هذا المنطلق يكتسي البحث في سبل تفعيل المقاصد في المجال
الاقتصادي أهمية خاصة لاعتبارات ثلاثة: الأول يتعلق بأهمية الاقتصاد ودوره
المتعاظم في تحديد مصير البشرية في المرحلة التاريخية الراهنة، حيث ترتبط به
مستويات المعيشة للأفراد والمجموعات وتتحدد من خلاله درجات التقدم والتطور للدول
والمجتمعات ومن ثم مراكز القوة والتأثير والتحكم والنفوذ. ويتعلق الاعتبار الثاني
بضرورة تفعيل المقاصد في مجال هام كالاقتصاد على غرار جهود التفعيل في المجالات
الاجتماعية والإنسانية الأخرى. وأما الاعتبار الثالث فيرتبط بحاجة الاقتصاد فكرا
ونظاما إلى المقاصد بسبب حالة الضلال المنهجي والتيه الفكري والتخبط الذي يكتنف
مجمل السياسات والخيارات الاقتصادية بسبب فقدان البوصلة القيمية التي تعيد عالم
الاقتصاد الى الاهداف الكبرى التي رسمها له واضعوه وهي تحقيق التنمية المستدامة
والمحافظة على الاستقرار والتوازن الى جانب التوصل إلى إرساء العدالة الاقتصادية
والاجتماعية بشكل ملموس.
في هذا الإطار يهدف هذا البحث إلى إبراز الحاجة المتبادلة بين علم
المقاصد من جهة، وعلم الاقتصاد من جهة أخرى، حيث أنّ علم المقاصد بحاجة ماسّة إلى
الانتقال إلى التنزيل والتفعيل، وعلم الاقتصاد بحاجة ماسّة أيضا إلى مبادئ جديدة
ومعايير مختلفة تحقّق له مصالحة علمية وتاريخية مع عالم القيم والأخلاق والدين.
مثل هذه الحاجة المتبادلة يمكن لعلم المقاصد أن يلبّيها ويوفّر لها الهيكل المعرفي
والإطار المنهجي الذي يسهم في الخروج من المأزق وتجنّب التلاشي والانهيار.
ومثلما ساهم علم المقاصد عند ظهوره في بداية القرن الثاني في إنقاذ
المشروع الحضاري الإسلامي من بوتقة علم الكلام واستفحال الجدل بين المذاهب الفقهية
واحتدام الخلاف والتكفير بين الفرق وبالتالي الخروج من نفق الكلام والتأويل إلى
أفق الاجتهاد والتجديد، فإنّه قادر من جديد أن ينقل البشريّة من حالة الضلال المنهجي
والتيه الفكري والانحراف القيمي إلى طور البناء الحضاري والارتقاء الاقتصادي الذي
يعمّ نفعه على الإنسانية جمعاء . فكيف يمكن لعلم المقاصد أن يقدّم هذه الخدمة لعلم
الاقتصاد ويساعده في الاهتداء إلى المنهج الصائب للخروج من بوتقة الأزمات والحروب
والمشاكل الاقتصادية من مديونية وفقر وبطالة وتضخّم وكساد وفوارق اقتصادية
واختلالات هيكلية؟
حاجة الاقتصاد إلى المقاصد:
يشهد عالم الاقتصاد فكرا ونظاما، بداية من القرن الجديد الواحد
والعشرين ومنذ اندلاع الأزمة المالية عام 2008 تحديدا، حالة لا مثيل لها من
الاضطراب والضبابية والتخبط وغياب الرؤية المستقبلية للعالم ومصير البشريّة في ظلّ
تصدّع النظام الرأسمالي السائد بعد زوال غريمه الاشتراكي في أواخر القرن الماضي.
وفي ظلّ احتدام هذه الأزمة الخانقة تعالت صيحات العديدين من العلماء
والخبراء وصناع القرار من هنا وهناك، مطالبين بمراجعة جذرية للأسس والقواعد
النظرية للنظام وإصلاح هيكلي لمؤسساته، وهو ما دفع بالعديدين إلى طرح السؤال عن
البديل وعن مستقبل العالم والبشرية في مرحلة "ما بعد الرأسمالية". ولا
شكّ أنّ طرح مثل هذا السؤال له مبرراته النظرية والواقعية.
علم المقاصد قادر على أن ينقل البشريّة من حالة الضلال المنهجي والتيه الفكري والانحراف القيمي إلى طور البناء الحضاري والارتقاء الاقتصادي الذي يعمّ نفعه على الإنسانية جمعاء .
وتزامنا مع هذه النداءات والصيحات المنذرة بانهيار وشيك للرأسمالية،
برزت أصوات من داخل المنظومة الغربية نفسها مشيدة بمبادئ الاقتصاد والتمويل
الإسلامي ومطالبة بضرورة الالتفات اليها للتخفيف من حدّة الأزمة الراهنة، وتعددت
الكتابات في هذا الشأن خصوصا عقب اندلاع الأزمة المالية العالمية الأخيرة (2008)
وما تلتها من أزمات جديدة كأزمة الديون السيادية (2010) والأزمة المصرفية الأخيرة
(2023) بالإضافة الى الازمات الجانبية الأخرى والتي لا تقل حدة وخطورة كالأزمة
المناخية والأزمة الغذائية والأزمة الصحية التي برزت مخاطرها بشكل حاد خلال الأزمة
الوبائية (الكوفيد-19) عام 2020.
ولإدراك حجم ومخاطر هذه الأزمات الهيكلية المتلاحقة للمنظومة
الرأسمالية يكفي إلقاء نظرة عامة على الادبيات الاقتصادية وعناوين المؤلفات
الصادرة خلال السنوات والعقود الأخيرة وخصوصا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في
أواخر القرن الماضي وتفرّد النظام الرأسمالي بقيادة الاقتصاد العالمي.
تناولت تلك الأدبيات والمؤلفات الاقتصادية عناوين مثيرة تعكس حالة
القلق الفكري على مصير النظام الرأسمالي المترهل بعد أن طوى الزمن صنوه الاشتراكي،
وذلك مثل: "مستقبل الرأسمالية" و"أزمة الرأسمالية"، و" انهيار الرأسمالية"
و" نهاية الرأسمالية" و"ما بعد الرأسمالية" وهي كلها عناوين تؤشر على عمق الازمة التي
يشهدها النظام الاقتصادي العالمي بقيادة الرأسمالية وخصوصا في صيغتها الليبرالية
الجديدة. وفي المقابل انبرت أصوات بارزة تدعو الى الالتفات الى مبادئ الاقتصاد
والتمويل الإسلامي التي تمثل نهجا مغايرا يجيب عن أسباب الأزمة وعوامل الإخفاق
بتأكيده على ضرورة "تخليق الاقتصاد" من خلال المصالحة بينه وبين عالم الاخلاق
والقيم، من جهة، و"أنسنته" من خلال إضفاء البعد الإنساني الضروري لتحقيق
هدف العدالة الاجتماعية المفقودة.
ومن أبرز هذه الأصوات جوزيف ستيغليتز وبول كروغمان وويليام بويتر
وفولكر نينهاوس وفيليب كوتلر وتوبي بيرش وأوليفي باستري وغيرهم. وهي تلتقي مع
نظرية الاقتصاد الأخلاقي التي عادت بقوة في العقود القليلة الماضية عبر كتابات
أمارتيا سان الاقتصادي الذي سطع نجمه كأبرز مناهض للتفكير الليبرالي الجديد والذي
وضع حدا لحالة الانفصام بين الاقتصاد والأخلاق التي سادت طيلة القرون الأخيرة،
وساهم في سدّ الفجوة التاريخيّة بين علم الاقتصاد من جهة وعالم الأخلاق والقيم
والدين من جهة أخرى تساوقا مع المدّ المتنامي في الفكر الاقتصادي المعاصر، في
اتجاه إعادة النظر في علاقة علم الاقتصاد بالقيم والأخلاق وتخليصه من براثن
العلمانية المشطّة في عداوتها للدين والأخلاق. وقد تكللت هذه الدعوات بظهور أنشطة
وقطاعات تعبر عن تلك العلاقة الغائبة مثل: الاقتصاد الأخلاقي، والتجارة الأخلاقية،
والتمويل الأخلاقي، والاستهلاك الأخلاقي، والاستثمار المسؤول اجتماعيا، والمسؤولية
الاجتماعية للمؤسسات وغيرها.
وحينئذ يصبح السؤال أيضا عن مدى قدرة الفكر الاقتصادي الإسلامي وجاهزيّته
للإسهام في إصلاح الأوضاع والاندراج في هذا التيار الإنساني الجديد الرامي لنحت
مشروع بديل للإنسانية أكثر عدلا وأكثر إنسانية ورحمة وأكثر قيما وأخلاقية؟. ولن
يكون مثل هذا الاسهام الا من خلال تفعيل دور المقاصد في المجال الاقتصادي.
إن استدعاء المقاصد لعالم الاقتصاد من شأنه ملء الفراغ الفكري
والمنهجي في المنظومة النظرية للاقتصاد المعاصر الذي خلفته الأزمات المتتالية
للرأسمالية العالمية والتي أثبتت أنّ أزمتها هي أزمة فكرية ومعرفية أولا وقبل كلّ
شيء قبل أن تكون أزمة نظام وخلل في التطبيق والممارسة. وقد تعدّدت الدراسات
والأبحاث التي تؤكد ذلك ، والتي تدعو إلى مراجعة الأسس المعرفية والبراديغمات
الفلسفية التي ترتكز عليها والتي أدّت إلى هذا المأزق الخطير الذي ينذر بانهيار
وشيك للاقتصاد العالمي بقيادة الرأسمالية المعولمة.
حاجة المقاصد للاقتصاد:
هناك حاجة متبادلة يلمسها الباحث في هذين المجالين: المقاصد
والاقتصاد. فمثلما يحتاج الاقتصاد للمقاصد من أجل تحديد بوصلة قيمية وأخلاقية تضع
حدا لهيمنة النزعة المتوحشة للرأسمالية، فإن علم المقاصد الشرعية بحاجة أيضا
للتفعيل والتنزيل في المجال الاقتصادي والاسهام في الإجابة على تحديات وقضايا
الإنسان المعيشيّة ومشكلاته اليومية وفي مقدمتها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية
ومغادرة دائرة التنظير والتأصيل ـ على ضرورتها ـ التي لا تزال تقيّد مفعوله وتؤطر
حركة الاجتهاد فيه. فالتنظير ما لم يكن مباشرا للواقع وتطوراته لن يكون له مفعول
من الناحية العملية.
الشريعة الإسلامية بشمولها وسعتها وتكاملها لم تهمل أيّ جانب من جوانب الحياة إلا وأوْلته ما يستحقّ من الأحكام والتوجيهات، فلا نكاد نجد واقعة من الوقائع إلاّ ولها حكم شرعي يحقّق مقصدا من المقاصد الشرعية.
ففي حين يتّجه البحث في المقاصد يوما بعد يوم إلى مزيد من التوسع
والتخصص ليشمل كافة الجوانب والأبعاد في كافة مجالات الحياة، فصار لهذا العلم فروع
متعددة وأصبح الحديث متداولا حول المقاصد الاجتماعية كمقاصد الأسرة والأحوال
الشخصية ومقاصد التصرفات المالية والمقاصد السياسية والمقاصد الشرعية لنظام
العقوبات وغيرها من فروع العلم والمعرفة، وهو ما يعني أنّ الشريعة الإسلامية
بشمولها وسعتها وتكاملها لم تهمل أيّ جانب من جوانب الحياة إلا وأوْلته ما يستحقّ
من الأحكام والتوجيهات، فلا نكاد نجد واقعة من الوقائع إلاّ ولها حكم شرعي يحقّق
مقصدا من المقاصد الشرعية.
وهذا الربط لا نصل إليه إلاّ إذا أدركنا أهمية معرفة المقاصد وفهمها
ولزوم الاستنباط على وفْقها. فإنّ المتأمّل في هذا الاتجاه لا يكاد يجد ضالته في
مجال يعدّ من أوكد المجالات وأكثرها أهمية في عالم اليوم، ألا وهو المجال
الاقتصادي، هذا المجال الذي أضحى في واقع الأمر مهيمنا ومتحكّما في مختلف المجالات
الأخرى السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها، وإن كان الاهتمام البحثي انصبّ منذ
عقود خلت على مبحث المقاصد المالية منذ ظهور كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ
العلامة الطاهر ابن عاشور، الذي خصّص جزءا منه لتناول مقاصد التصرفات المالية
وتتالت المبادرات والكتابات بعد ذلك لتدور كلها حول هذه الدائرة من الموضوع دون
مغادرتها وكأنّ المجال الاقتصادي اختزل في القطاع المالي، وترك جانبا سائر
القطاعات والنشاطات الاقتصادية الأخرى التي لا تقلّ أهمية، مثل الإنتاج والاستهلاك
والادخار والاستثمار والتجارة والتخطيط والتنمية وقطاعات الزراعة والصناعة
والخدمات والطاقة والاقتصاد المعرفي واقتصاديات العمل والتسويق والاقتصاد الدولي
والاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي وغيرها ممّا يحتاج إلى جهد من طراز خاصّ لبلورة
أسرار الشريعة، في تحقيق مقاصد الأفراد والمجتمعات من خلال هذه المجالات المتعددة.
توجد تعريفات عديدة للمقاصد لعل أهمها بعد تعريف المؤسس الأول لهذا
العلم (الامام الشاطبي) والمؤسس الثاني (الامام الطاهر بن عاشور)، التعريف الذي
طرحه الدكتور الريسوني في كتابه " مقاصد المقاصد: الغايات العلمية والعملية
لمقاصد الشريعة" ، وهو التعريف الأكثر التصاقا بقضية التفعيل والاهتمام
بالواقع. فالغايات العلمية تتعلق بالجانب النظري مثل مقصد التوحيد والعبادة
والرحمة والتزكية وإقامة العدل الى جانب ما اسماه بمقصد تقويم الفكر وتسديد النظر.
والغايات العملية تتعلق بالجانب العملي التطبيقي من حيث احتياج السياسة الشرعية
الى المقاصد والحاجة للمقاصد في تحسين فهم الدين وفقه التدين. فتفعيل المقاصد من
الزاوية المنهجية لا يتأتى سوى بترشيد السياسة الشرعية وهي كما عرفها الفقهاء
"تدبير الشؤون العامة بما يكفل تحقيق المصالح ورفع المضار" ، وهي تشمل
كافة فروع الحياة ومجالاتها. ومن أوكد تلك المجالات المجال الاقتصادي بما يعني ذلك
من ترشيد السياسات الاقتصادية وتعديلها من أجل تحقيق الاهداف التنموية الكبرى.
وتندرج في صلب السياسة الاقتصادية الشرعية السياسة المالية والتجارية والنقدية
والاستثمارية والتنموية بشكل عام.
ونظرا لما يطرأ على تلك السياسات من أخلال في التصور واخفاقات في
التنزيل فان الاستنجاد بالمقاصد الشرعية في هذا الباب من شأنه أن يقود الى ضبط
النظام الاقتصادي الأصلح والمنوال التنموي الأرشد وتصحيح الاولويات وترشيد
الخيارات وتصويب السياسات بالإضافة الى تخليق الاقتصاد وأنسنته عبر تسكين القيم
الأخلاقية والإنسانية في كل حلقات النشاط الاقتصادي.
*أستاذ وباحث في الاقتصاد الإسلامي