كتب

كيف صاغ حكام مصر ومفكروها هويتها الوطنية؟ قراءة في كتاب

يقدم خالد زيادة، الباحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي، دراسة حول تطور السياسة في مصر، وتطور دور وعلاقة المثقف بالسياسة منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى اليوم..
يقدم خالد زيادة، الباحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي، دراسة حول تطور السياسة في مصر، وتطور دور وعلاقة المثقف بالسياسة منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى اليوم..
الكتاب: مصر الثقافة والهوية
المؤلف: خالد زيادة
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


يقدم خالد زيادة، الباحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي، دراسة حول تطور السياسة في مصر، وتطور دور وعلاقة المثقف بالسياسة منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى اليوم، عبر طرح أسئلة محورية تدور حولها فصول الكتاب من نوع: ما مدى مساهمة المثقف في بناء الدولة، ومساهمته في بلورة الفكرة الوطنية؟ وهل هو الذي صاغ الهوية الوطنية أم شارك قوى أخرى في صوغها؟ وهل المثقف مستقل حقيقة عن الدولة، وقادر على أن يحدد بنفسه دوره ووظيفته بمعزل عن السلطة القائمة؟  وهل يبقى دور المثقف ثابتا دون تبديل، حتى مع تبدل الظروف والتطورات التي تشهدها الدولة؟ وهل تصاعد دوره السياسي أو الاجتماعي يطغى على وظيفته الأساسية، أم إن انحسار هذا الدور يخفض من شأنه؟

ويحاول زيادة الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، باستعراض أبرز محطات التحول التاريخية التي عرفتها مصر، وما رافقها بناء الوطنية المصرية، وصراعات الهوية، وصعود دور المثقف وتحولاته وتراجعه، واندثاره أمام الدولة والنظام الذي استحوذ على دور المثقف عبر إسكاته أو احتوائه، على حد وصفه.

الدولة الحديثة

يركز زيادة منهجيا على ثلاث حقبات كبرى مر بها العالم العربي، وتحديدا مصر: الأولى هي مرحلة الإصلاح أو النهضة، التي شملت معظم سنوات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والثانية هي المرحلة التي شهدت السعي إلى الاستقلال وبروز الوطنيات، مع هيمنة نسبية للأفكار الليبرالية، والثالثة هي المرحلة التي استتبت فيها الأنظمة الوطنية.

ونظرا إلى كون هذه المراحل الثلاث كانت قصيرة لا يتجاوز كل منها سوى بضعة عقود، فإن الكثير من "المثقفين" أو من كانوا يمارسون المهن الفكرية، عايشوا أكثر من مرحلة وتأثرت مواقفهم وآراؤهم بهذه الحقب، وبالانتقال من واحدة إلى أخرى، تبعا لما سمحت به كل واحدة من أدوار، وما وضعته من عوائق.

خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن، نشأ مثقف غير مرتبط بخدمة الدولة، ولا هو موظف في إداراتها، وتكوّن رأي عام يناقض رأي الحاكم، حيث أدى كل ذلك إلى نشوء السياسة التي عبرت عن نفسها في أحزاب أو تيارات ليبرالية وإصلاحية.
في مرحلة النهضة، كانت الأدوار متاحة لأولئك الذين تلقوا تدريبا غربيا وأخذوا بعض علوم أوروبا، حيث كانوا شركاء في مشروع الحاكم، وساهموا في بناء مؤسسات الدولة الحديثة. وخلال سنوات قليلة، حدثت تطورات أنهت هذه الحقبة، كان أبرزها إعلان الدستور في إسطنبول عام 1876، ثم تعليق العمل به، وقيام ثورة أحمد عرابي التي تلاها احتلال الإنجليز لمصر عام 1882، وأدى ذلك إلى ظهور رأي عام يطالب بإعادة العمل بالدستور ومجابهة الاحتلال الأجنبي.

 يقول زيادة؛ إنه خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن، نشأ مثقف غير مرتبط بخدمة الدولة، ولا هو موظف في إداراتها، وتكوّن رأي عام يناقض رأي الحاكم، حيث أدى كل ذلك إلى نشوء السياسة التي عبرت عن نفسها في أحزاب أو تيارات ليبرالية وإصلاحية. لكن قبل ذلك، يشير زيادة إلى ثلاثة عوامل مهدت أو أفضت إلى بناء الدولة الوطنية المصرية، هي أولا بناء الجيش من المصريين في عهد محمد علي، وإنشاء جهاز إداري متخصص أصبحت العربية هي لغته الرسمية، والقوانين التي أصدرها محمد علي المتعلقة بملكية الأراضي، التي تم تطويرها بعد ذلك في عهد سعيد باشا، ومن بعده في عهد الخديوي إسماعيل، علما أن نظام الملكية العقارية، الذي كون فئة من المالكين كانوا جزءا من البيروقراطية الحكومية، هو الذي أفضى إلى تبلور الوطنية المصرية التي أخذت شكلها الدستوري في نهاية عهد اسماعيل، وبروز خطابات الوطنية والدعوة إلى اعتماد دستور لمصر. 

أشار زيادة إلى أن بناء الدولة الحديثة، كان لا بد أن يمر عبر تقليص الهيئات التقليدية أو تفكيكها التي كانت معروفة في الدولة السلطانية، ومنذ بداية الحملة الفرنسية على مصر وحتى نهاية عهد إسماعيل، تغيرت مصر تغيرا كبيرا، فحل مكان العالم الأزهري الخبير المتخصص الذي يرتبط علمه بأهداف محددة، مرتبطة بوظائف تتعلق بمصالح عامة. وحل مكان العسكر الذي يؤتى به من مناطق بعيدة جيش نظامي من أبناء مصر، وحل مكان المحاسبين الأقباط إداريون لا يقتصر عملهم على المحاسبة المالية وجمع أرقام الضرائب، بل تلقى على كواهلهم مهمات متعددة، تتطلب معارف في الهندسة والطب والمالية، وغير ذلك.

يلفت زيادة إلى النهضة العلمية التي شهدتها مصر في عهد الخديوي إسماعيل، فيقول؛ إن إنشاء مدرسة الحقوق ودار العلوم كان له أثر كبير في تخريج نخبة سيكون لها دور بارز لاحقا في الحياة السياسية والفكرية. فضلا عن افتتاح مدارس حربية وصناعية وثانوية وابتدائية، ومدارس للبنات ومدارس أوروبية، وجمعيات علمية مثل الجمعية الجغرافية الخديوية. ومن أبرز ملامح هذه النهضة، نشوء الصحافة السياسية والأدبية، وقد شارك في تأسيسها مصريون ولبنانيون. ومن رواد تلك المرحلة فكريا الشيخ علي مبارك، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني. ويوضح زيادة أن "الطهطاوي ساهم مع مجايليه، وهو أبرزهم على الإطلاق، في بناء نموذج المثقف الذي يعمل في مؤسسات الدولة، ويخدمها وينطق بمشروعها. ويعود ذلك إلى أن الدولة هي التي أوجدت هذا المثقف، وأوجدت الوظائف التي يشغلها"، لكن ذلك لم يمنع من وجود نماذج أخرى لكتاب وصحفيين مستقلين، عبروا عن وجهات نظر معارضة للحكم.

مصر الليبرالية

شكلت ثورة 1919فاصلا في تاريخ مصر الحديث، وقد عبرت عن التطور الذي أحرزته مصر خلال قرن من الزمان في المجتمع والسياسة والثقافة، بحسب زيادة. وبينما كانت الثورة على الفرنسيين قد اقتصرت على مجموعة من أبناء الأحياء القاهرية، وبقيت ثورة عرابي موضع نزاع ولم تحصد أي إجماع، فإن ثورة 1919 وحّدت المصريين في المدن والأرياف وصاغت الوطنية المصرية، وشكلت الزعامة الشعبية. أما النخبة التي أخذت على عاتقها المطالبة بالاستقلال، فقد تكونت من مجموعة كان معظم أعضائها من خريجي مدرسة الحقوق، وذوي باع في الحياة العامة وأعضاء في الجمعية التشريعية.

بينما كانت الثورة على الفرنسيين قد اقتصرت على مجموعة من أبناء الأحياء القاهرية، وبقيت ثورة عرابي موضع نزاع ولم تحصد أي إجماع، فإن ثورة 1919 وحدت المصريين في المدن والأرياف وصاغت الوطنية المصرية، وشكلت الزعامة الشعبية.
اعتبرت العقود الثلاثة التي أعقبت ثورة 1919 بمنزلة المرحلة الليبرالية في تاريخ مصر الحديث، وقد شملت نطاقات قانونية ودستورية وثقافية وفنية. وحفزت الثورة الكتابة التاريخية المستندة إلى مصادر ومراجع ووثائق، وبرز في هذا الحقل كُتّاب، مثل: محمد صبري وعبدالرحمن الرافعي وشفيق غربال، تبعهم جيل آخر من المؤرخين، وقد اهتموا جميعا بتاريخ مصر القديم والحديث، وساهمت كتاباتهم بإرساء أسس القومية المصرية. وقد نشأت في هذه الفترة أحزاب تعبر عن اتجاهات متباينة تحت سقف المواطنة، وتؤمن أن تقدم المصريين يكون عبر التربية وعبر الممارسة الدستورية. لكن هذه المرحلة لم تستمر طويلا، إذ شهدت الثلاثينيات تحولات اجتماعية وسياسية وأيديولوجية، تمثلت في صعود الطبقة الوسطى، وبروز جيل جديد من طلاب المدارس، الذين تشكل وعيهم بعد مرور أكثر من عقد على الثورة، فكانوا أقل تأثرا بالأيديولجيا الوطنية، وما عادوا متأثرين بأفكار الأمة المصرية ذات التاريخ الفرعوني، خصوصا أن النزعة الفرعونية كانت قد أخذت في التراجع أمام صعود التيارات التي تقول بانتماء مصر إلى رابطة شرقية إسلامية وعربية.

إعادة النظر بالتاريخ

ينتقل زيادة بعد ذلك للبحث في علاقة النظام الناصري بالمثقفين، ويرى أنه لا يمكن اختصار هذه العلاقة، فقط، بإخضاع المثقفين من خلال تأميم جميع وسائل التعبير، من صحف ومجلات إلى دور نشر، وصولا إلى فرض الرقابة على المقررات الجامعية، وتحديد مجالات الكتابة التاريخية، بل إن هذه العلاقة تمثلت كذلك بانتزاع أي نفوذ للمثقف، وأي حرية في التعبير عن فهمه ووعيه لدور مصر وهويتها، فقد كان على المثقفين أن يصمتوا حين يتعلق الأمر بدور الدولة وهوية مصر؛ لأن الدولة في نظام يوليو هي التي تحدد هوية مصر، على حد قول زيادة. ويضيف؛ إن جمال عبدالناصر لم يكن معاديا لليبرالية السياسية فحسب، بل كان معارضا للأفكار الليبرالية أيضا، فالحرية هي فقط حرية الوطن من الاستعمار، والمساواة تعني أن المواطنين كلهم سواسية من دون أحزاب وجماعات وفرق. وبالإضافة إلى ذلك، فقد نظر إلى تجربة مصر الحديثة منذ مطلع القرن التاسع عشر باعتبارها تجربة مليئة بالأخطاء والإخفاقات.

يقول زيادة بسبب كل ما سبق: لا يمكننا اعتبار ثورة يوليو امتدادا لتجربة مصر التحديثية، ولا امتدادا لثورات شعب مصر، من عمر مكرم إلى أحمد عرابي إلى سعد زغلول، وقد عمدت إلى تصفية الإرث التحديثي، وقضت على التعددية التربوية والثقافية والسياسية، أي كل ما منح مصر دورها الريادي في العالم العربي خلال ثلاثة أرباع قرن سابقة على ثورة يوليو. يشير زيادة إلى أن كتابة التاريخ بعد نهاية الحقبة الناصرية، عبرت عن الحاجة إلى إعادة النظر بتاريخ الحقبات والثورات والشخصيات التي حجبها نظام يوليو. ولم تعد هويات مصر التاريخية المتخيلة (الفرعونية، والمتوسطية، أو الهويات ذات الصفة الأيديولوجية، عربية أم إسلامية)، الشغل الشاغل للمؤرخين، فهوية مصر الواقعية هي نتاج التحديث ونظام الدولة المركزية.

في الفصلين الأخيرين من الكتاب، يتناول زيادة أبرز التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها مصر في عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وصولا إلى ثورة يناير. ويسجل ملاحظة حول غياب دراسات اجتماعية، ما قبل ثورة يناير، تتعرض للمشكلات العميقة في المجتمع ـ مع استثناءات محدودةـ، إذ غلب على ما توافر منها طابع وصفي وإحصائي، بينما تناولت العديد من الأعمال الأدبية هذه التحولات وإفرازاتها بشكل لافت، فكان الروائي، كما يقول زيادة، بمنزلة الشاهد على مجتمعه. ويضيف: "ربما يكون جلال أمين الشخص الوحيد الذي درس التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، خلال فترة زمنية تمتد عقودا، واستطاع أن يفسر أسس السياسات الحكومية الاقتصادية على الحراك الاجتماعي والطبقي".

وقد واصل أمين هذا النهج عندما أصدر كتابه "ماذا حدث للثورة المصرية" في العام 2012، الذي تناول فيه أحوال المصريين قبل الثورة، وأحوال أبرز الأحزاب السياسية في مصر، منتقدا صمت المثقفين على تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومشيرا إلى أن أغلبيتهم تحول إلى أدوات في يد السلطة، فلا يعوّل على مواقفهم قبل الثورة أو بعدها. كما يستعرض زيادة مواقف كتاب ومثقفين آخرين من أحداث الثورة مثل طارق البشري والسيد ياسين، ويشير إلى أنه بالرغم من الحماسة والتفاؤل الذين أباهما المثقفون بشكل عام في بداية الثورة، فإن التطورات المتلاحقة أظهرت انقساما واضحا بينهم، فوجدوا أنفسهم "عاجزين عن التأثير في الأحداث، فآثر بعضهم الانسحاب والصمت، واكتفى بعضهم الآخر بإبداء النصائح، بينما انحازت الغالبية إلى النظام خوفا من الفوضى".
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم