كلّ شيء في عالم البشر يكاد يتحوّل
لتجارة؛ يتغنّون بالحرب ويتاجرون بالحرب، يرفعون شعارات العدالة ويُتاجرون
بالمظالم، يدّعون حرصهم على السيادة ويسعون لبسط نفوذهم على أراضي الأخرين، يعلنون
احترامهم للدول المجاورة ويستبيحون مقدراتها في السرّ والعلن.. يصح هذا على أغلب
دول العالم ذات الأطماع التوسعية، وهو أكثر صحة فيما يخص قضيّة
اليمن وجيرانها
الأثرياء.
دول منحتها الصُدّفة والأقدار فرصة
لبناء مجتمعاتها ووفرت لها فائضا من القوة والمال؛ وما إن رأت جارتها الفقيرة تسقط
في هاوية الحرب والتمزّق؛ حتى سارعت لاستغلالها وتعميق جراحها وعمل كل ما من شأنه
إعاقة أي إمكانية لقيام دولة كانت وما زال اسمها "الجمهورية اليمنية".
أتحدث عن الدولتين الخليجيتين
السعودية والإمارات العربية المتحدّة. وفيما يلي
سأشرح بشكل موجز كيف تتصرفان تجاه أي سلام محتمل في بلادنا.
ترغب السعودية بالسلام؛ لكنها لا
تكترث لجوهر هذا
السلام المزعوم. ما تُركّز عليه هو ضمان عدم تعرّضها لأي أذى من
قِبل إيران أو
الحوثيين باعتبارهم جماعة ضابط إيقاعها مرتبط بإيران، سواء أقرّوا
بذلك أم لم يعترفوا. من الواضح أنّ السعودية لا تكترث بسلام حقيقي يضمن الوصول
لصيغة سياسية تُفضي لدولة. لقد وضعت خيار الحرب جانبا؛
إذا كانت السعودية لا تكترث لماهية السلام المأمول في اليمن، فإن حليفتها الإمارات لا تُلقي بالا لشأن اليمن كدولة وجغرافيا، وتتعامل معها كما لو كانت "تركة الرجل المريض"، وترى لنفسها الحق بأن تُعيد تشكيل خارطة اليمن والتلاعب بها بما يُحقق لها مصالحها ويضمن لها أكبر قدر ممكن من النفوذ وإرادة السطو واستغلال الطرف التاريخي لليمن؛
لكنها لم تملك رؤية واضحة
للسلام، تماما مثلما دخلت في الحرب ولم يكن لديها أي تصوّر واضح له. هي الآن
تُكرر نفس خطيئتها، وكأن عشر سنوات مهدورة من عمر اليمنيين لم تتعلم منها شيئا أو
ربما لا تُريد أن تتعلم.
إذا كانت السعودية لا تكترث لماهية
السلام المأمول في اليمن، فإن حليفتها
الإمارات لا تُلقي بالا لشأن اليمن كدولة
وجغرافيا، وتتعامل معها كما لو كانت "تركة الرجل المريض"، وترى لنفسها
الحق بأن تُعيد تشكيل خارطة اليمن والتلاعب بها بما يُحقق لها مصالحها ويضمن لها
أكبر قدر ممكن من النفوذ وإرادة السطو واستغلال الطرف التاريخي لليمن؛ كي تتلاعب
بمصيره لعقود وربما قرون قادمة. وما سيطرتها على الجُزر اليمنية سوى العنوان
العريض لهذه المهزلة؛ بل والجريمة التاريخية التي تتورط فيها الإمارات بوقاحة
غريبة وصادمة.
سيقول قائل: ماذا عن "إرادة
السلام" لدى أطراف الداخل..؟ فإذا كان الخارج، والقوى المؤثرة في القضية
اليمنية، مواقفهم من السلام مشكوك بنزاهتها، فكيف هي إرادة القوى المتناحرة في سطح
الجغرافيا اليمنية..؟ الجواب: لعل ما هو مؤسف ومولّد للخيبة، أنّ قوى الداخل لا
تلحظ لديها أي تمايز في إراداتها تجاه السلام، وتكاد تكون مقاصدها النهائية نسخا
مبعثرة ومشتّقة من رغبات القوى الخارجية. وإذا تأكدت من هذه الحقيقة المبدئية
ستفهم لماذا آل المصير اليمني لهذه الحالة المُحبِطة، حيث يلوح أمامك مستقبل ضبابي
ومجهول يتسع بقدر ما تلعو أصوات السلام الكاذبة، تماما كما لو أنّ دعوات السلام؛
تُشبه ضربات المدفعة، من حيث الغاية التي تعد بها. لهذا السبب، يرتاب المرء من
أصوات السلام، كريبته من قرع طبول الحرب؛ كلاهما مساران متناقضان في مظهرهما،
ولكنّهما يكادان يكونان متحدين من حيث النتيجة المرجوّة منهما.
قوى الداخل لا تلحظ لديها أي تمايز في إراداتها تجاه السلام، وتكاد تكون مقاصدها النهائية نسخا مبعثرة ومشتّقة من رغبات القوى الخارجية. وإذا تأكدت من هذه الحقيقة المبدئية ستفهم لماذا آل المصير اليمني لهذه الحالة المُحبِطة، حيث يلوح أمامك مستقبل ضبابي ومجهول يتسع بقدر ما تلعو أصوات السلام الكاذبة، تماما كما لو أنّ دعوات السلام؛ تُشبه ضربات المدفعة، من حيث الغاية التي تعد بها
جنوبا، لدينا تيار سياسي وعسكري
منخرط رسميا وشكليا في فضاء ما يُسمّى بـ"
الشرعية" أو مجلس القيادة
الرئاسي الممثل للدولة اليمنية، لكنه يتزّعم قوة عسكرية "مليشاوية"
ويرفع شعارات تشطيرية تستهدف تفكيك جغرافيا اليمن الموحّد. وعليه، فيصعب القول: إن
هذا الفصيل مُتحمّس لسلام حقيقي؛ ينتهي لمستقبل يعيد ترتيب خارطة البلاد المبعثرة
ويُقلص دائرة الأخطار المحيطة بالكيان الدستوري والقانوني للدولة اليمنية. ومن
نافل القول التذكير بأن هذا الفصيل مرتهن لدولة خارجية ويُعتبر الذراع الضامن
لمصالحها المتجاوزة للسيادة اليمنية. الدولة هي الإمارات العربية المتحدة، ولمجرد
لفظ اسم هذه الدولة؛ يعرف اليمنيون أطماعها في بلادهم ويحفظون تجاوزاتها وما سببته
من جراح عميقة في حاضرهم ومستقبلهم، وما تُشكله من تهديد لدولتهم في الأمس واليوم
والغد.
وهناك فصيل آخر، يتّخذ من السواحل
الغربية للبلاد، وتحديدا سواحل "المخا" الواقعة على امتداد مساحة لا بأس
بها من شواطئ البحر الأحمر، مقرّا عسكريا وسياسيا لنشاطاته، وله نفس الرابط
العسكري والمالي والسياسي بدولة الإمارات، ويبدو بمثابة النظير أو المعادل الشمالي
للفصيل الواقع جنوبا (المجلس الانتقالي). وحتى مع إختلاف التوجهات النظرية
والخطابات السياسية للفصيلين، فهذا الأخير متمسّك بوحدة الكيان الجمهوري للدولة
اليمنية، ويتخذ من وصف "حُرّاس الجمهورية" مُسمّى له. كما لا يُظهر في
خطاباته ونشاطه الإعلامي أي دوافع ممانعة للسلام؛ لكنه في النهاية لا يمكنه أن
يدّعي استقلالية تامة في خطه السياسي. حتى لو كان يحاول اتباع نغمة سياسية وبيانية
لا تُكثر من إظهار الولاء المطلق للجهة الممولة له، غير أنّه يظل مرتبطا بخيارات
الراعي، مع التنويه إلى أننا أمام فصيل لا يملك الثقل الكافي سياسيا ولا يعرف عنه
أي نشاط حيوي دافع باتجاه السلام، كما لا يبدو أنّه يملك رؤية واضحة لما يجب أن
تكون عليه الدولة اليمنية المنتظرة.
وعند هذه النقطة، تتوجب الإشارة
لطابع الانتهازية والبراجماتية التي يتصف بها فصيل "حرّاس الجمهورية"
والمكتب السياسي للمقاومة، وهو مكتب يُعتبر الحامل والممثل السياسي للفصيل العسكري
نفسه، ما يُرجح وجود استعدادات لدى هذا التيار للتواطؤ والمساومة بقضية السلام،
وفقا لما تتطلبه مصلحته، ما ينفي عنه أي إمكانية بلعب دور ضابط وحازم لصالح مصير
يمني عام وخادم للدولة اليمنية.
تتبقّى كتلة عسكرية وسياسية أخرى،
تتمركز في مأرب وتعز، وهي بمثابة العمود المركزي للقوات المسلحة اليمنية، ويمكن
اعتبارها الكتلة الوطنية الأقرب لفكرة الدول، بصرف النظر عمّا توسم به من انتماءات
حزبية، فهي تظلّ أكثر الفصائل -إن جاز التعبير- المتمسّكة بمصير يمني ضامن لكل
مكتسبات الدولة اليمنية الحديثة ورافض لكل المحاولات التشطيرية أو أي تلاعب بفكرة
الهوية اليمنية والمصالح السيادية العليا للبلاد، على الرغم من أنّها تعرضت
لعمليات إزاحة سياسية وقيادية، وضعُف تأثيرها على القرار السيادي لليمن مذ أُجريت
التعديلات السياسية المتعلقة بهيكل السلطة في البلاد؛ وميلاد مجلس القيادة الرئاسي
الحامل المركزي لمشروع الدولة اليمنية أو هذا ما يفترض عليه أن يكون. وهذا التيار
لا تبدو عليه ممانعة بخصوص السلام المرتقب؛ غير أنه يشكو من ضعف تمثيله في
المحادثات ومن رغبات أطراف خارجية وداخلية بتقليص أثره ودوره في رسم خارطة اليمن
المستقبلية.
أخيرا، لدينا كتلة سياسية وعسكرية هي
بمثابة النقيض التقليدي للقوى السابقة، ونعني هنا جماعة" أنصار الله".
وهذه الجماعة رغم تكوينها الحربي واستعداداتها الدائمة لجولات من المواجهات مع
الداخل والخارج، غير أنها تتقن إدارة لعبة السلام كما تتقن الحرب. وهي في جوهرها
لا تكترث بالسلام كعملية تفضي لدولة مدنية حديثة؛ بقدر ما تحرص على ضمان حصتها
الكبرى من الخارطة المرتقبة لليمن. كما تُقدّم نفسها كممثل للمركز السياسي للبلاد
-صنعاء وما حولها من مناطق خاضعة لسيطرتها- وترفض خوض مفاوضات مباشرة مع مجلس
القيادة الرئاسي، معتبرة السعودية خصمها في الحرب ونظيرتها في السلم.
إنّها تحاول دحر الشرعية ومنازعتها
على الصفة. وبالنظر لميول السعودية للسلام، فجماعة الحوثي تستثمر هذا النزوع لدى
المملكة لحصد تنازلات سياسية واقتصادية منها. ومعروف عن هذه الجماعة؛ قدرتها على
المناورة طويلا والتلويح بالقوة مع بقاء يدها مفتوحة لأي مكسب سوف تناله من
خصومها. ويبدو أنها الجماعة الأكثر ربحا في الحرب والسلم.
في اليمن ملوك الطوائف يتناحرون، وحين يجمِّدون أسلحتهم يكون البديل حالة "اللاحرب واللاسلم"، وهي حالة لا تقل سوءا عن الحرب الوضحة، حيث الشعب عالقا في فوهة بركان، فاقدا لليقين بالغد ومتخوفا من احتمالات انفجار المعركة، كما هو فاقد للثقة بسلام حقيقي
ويبقى السؤال المفتوح: ما هو مصير
الدولة اليمنية في ظل التنازع الحاصل بين كل هذه القوى الداخلية والخارجية؟ ومن
يمثل الكتلة الكبرى من الشعب؛ الأغلبية الصامتة، كما يحلو لمثقفين ومراقبين وصفها،
حيث الملايين يحترقون بنيران الحرب ويعيشون أسوأ أزمة إنسانية في العالم -بعد
أبناء غزة وإن كان هناك احتلال يستبيح الأرض ويحرق ما فوقها-؟
ففي اليمن ملوك الطوائف يتناحرون،
وحين يجمِّدون أسلحتهم يكون البديل حالة "اللاحرب واللاسلم"، وهي حالة
لا تقل سوءا عن الحرب الوضحة، حيث الشعب عالقا في فوهة بركان، فاقدا لليقين بالغد
ومتخوفا من احتمالات انفجار المعركة، كما هو فاقد للثقة بسلام حقيقي يضمن له معيشة
محترمة وحياة كريمة.
هنا، تظل العيون مترقبة لميلاد كتلة
وطنية تفرض نفسها وتوازن اللعبة المختلة، كتلة سياسية وحتى عسكرية، يرتفع صوتها
عاليا وتضع حدا لهذا العبث كله، بطريقة أو بأخرى. وهذا الحلم الأخير ليس بمستبعد،
إذا وضعنا في اعتبارنا وجود طيف كبير من اليمنيين في الداخل والخارج ساخطين ضد
الجميع، وإذا ما توفرت فرصة كي ينتظموا داخل مظلة سياسية معينة، سيولد معهم تيار
وطني خالص، ينجح في مدافعة الواقع المشبوه ويتمكن من الدفاع عن الغلابى والمقهورين؛
الأغلبية الباحثة عن صوت يمني حر وموثوق، يصدح باسمها ويمثّل إرادتها الخالصة بعيدا
عن الإرادات المشبوهة والمتاجرة القديمة والمتجددة بمصيرهم. فلا يوجد شعب ضحى
بسخاء كالشعب اليمني، لكن النهايات تخذله دائما، في ظل غياب الممثل الأصلي للجموع
الكبيرة، الصامتة والمهمومة بشؤون معيشتها من الخبز والماء، والتعليم والدواء قبل
أي شيء آخر.