هو الملف الأكثر ألما من تداعيات الانقلاب
على الديمقراطية في
مصر في الثالث من يوليو / تموز 2013 وحتى الآن، عشرات الألوف
من المعتقلين السياسيين يتوزعون على العديد من السجون وأماكن الاحتجاز في مصر،
التي تم بناء المزيد منها لاستيعاب الزيادات المطردة أيضا في أعداد المعتقلين وسط
أحاديث لا تنقطع عن محاولات لحلحة هذا الملف بمعنى الإفراج عن المعتقلين تدريجيا
وصولا إلى تبييض السجون تماما.
الرقم الموثق من المنظمات الحقوقية العالمية
مثل هيومان رايتس ووتش وأمنستي إنترناشيونال وغيرهما هو 60 ألف معتقل، لكن هذا
الرقم يتم الحديث عنه منذ عدة سنوات في الوقت الذي لم تتوقف السلطات الأمنية عن
اعتقال المئات في حملات تتزامن مع بعض دعوات التظاهر، او حتى بدون دعوات، والمفترض
أن هذه الأعداد الكبيرة الإضافية من المعتقلين ترفع الرقم المعلن من قبل المنظمات
الحقوقية.
لم تعد أزمة المعتقلين قاصرة على التيار الإسلامي بل هي أزمة جامعة لكل القوى السياسية، ولكل الطوائف الدينية والمجتمعية، وإذا كانت المنظمات الحقوقية قد بذلت جهودا مقدرة خلال السنوات الماضية محليا وخارجيا لوضع هذا الملف في مكانه المناسب، إلا أن تلك الجهود اصطدمت بحرص النظام على إبقاء هذه الأزمة الإنسانية
المعتقلون في مصر ليسو مجرد أرقام، فهم بشر
من لحم ودم، ولهم عائلاتهم التي انهارت أو تضررت كثيرا بسبب اعتقالهم، وغيابهم
لسنوات طويلة، مات خلالها الآباء والأمهات، وكبر فيها الأطفال، ولم يعودوا يعرفوا
شكل أبائهم، واستشهد العشرات بل المئات داخل السجون نتيجة الإهمال الطبي، أو حتى
انتحارا يأسا من الأمل في الخروج للحياة مجددا، فالقانون ـ بعد تعديله ـ يحدد الحد
الأقصى للحبس الاحتياطي بعامين في الجرائم التي تكون عقوبتها السجن المؤبد أو
الإعدام، إلا أن هذا النص مجمد عمليا، وهناك المئات بل الآلاف الذين قضوا أضعاف
هذه المدة في حبس احتياطي ممتد، دون تقديمهم للحاكمة لعدم وجود أدلة حقيقية على
تورطهم في أي مخالفات قانونية، وقد تم الاستعاضة عن المحاكمة بهذا الحبس الاحتياطي
كعقوبة في حد ذاته.
قبل أيام تلقيت اتصالا من والد أحد الشباب
المعتقلين منذ أبريل / نيسان 2014، وكان عمره أقل من 16 عاما، وظل في حبس احتياطي
متجدد منذ ذلك الوقت ولأكثر من 10 أعوام، درس خلالها الثانوية العامة في سجن برج
العرب، ثم التحق بكلية العلوم، ونظرا لصعوبة الدراسة العملية فقد انتقل إلى كلية
التجارة وحصل منها على بكالوريوس إدارة أعمال، ولم يتم توجيه اتهام له، أو إحالته
للمحكمة حتى الآن، وقد صدرت بحقه عدة قرارات بإخلاء السبيل دون تنفيذ.
لم تتوقف الأصوات المطالبة بتصفية هذا الملف
عبر السنوات الماضية، سواء من داخل مصر أو خارجها، لكن السلطة الحاكمة تصم أذانها
عن سماع هذه الأصوات، فهي تعتبر أن هؤلاء المعتقلين أكبر ورقة ضغط على
المعارضة
بكل تنوعاتها لتخويفها من رفع سقف مطالبها، أو لمنع تحركاتها ضد النظام، وهي
تستخدم هؤلاء المعتقلين كأوراق مساومة، فتفرج عن بعضهم بين الحين والآخر بعد
تدخلات محلية أو دولية، ويكون الهدف من هذه الإفراجات الهزيلة هو مغازلة الخارج
بأن ثمة إصلاحات تتم على الأرض، وفي كل مرة يتم إخلاء سبيل بعض المعتقلين تستعيض
عنهم السلطة بأعداد مضاعفة من المعتقلين الجدد.
مؤخرا نظم الحوار الوطني جلستين نقاشيتين
حول بدائل الحبس الاحتياطي، وقد أصدر تصريحا صحفيا شكليا عن تلك النقاشات، لكنه لم
يشر إلى توصيات الجلستين، والتي وضحت من خلال تعليقات بعض المشاركين على صفحاتهم
الشخصية، وظهر أن هناك توافقا بينهم بمن في ذلك ممثلي حزب السلطة (مستقبل وطن) على
ضرورة تعديل قانون الحبس الاحتياطي لتخفيض مدد ذلك الحبس في حده الأقصى لتكون ستة
أشهر بدلا من سنتين، كما طالب كثيرون بضرورة المسارعة بالإفراج عن كبار السن
والنساء والمرضى كبداية لتبييض السجون، لكن الغريب أن السلطات الأمنية استبقت عقد
تلك الورشة باعتقال 3 صحفيين (أشرف عمر- خالد ممدوح) سبقهم أيضا الصحفي ياسر أبو
العلا وزوجته.
إصرار النظام على الاحتفاظ بكل تلك الآلاف من المعتقلين السياسيين ليس دليلا على قوته، فالقوي لا يأبه بخروج معتقلين أيا كان عددهم، والذين هم بحاجة لسنوات للتعافي والاندماج،
كتبت من قبل، وأكرر اليوم أن هناك تيارين
داخل المنظومة الأمنية للنظام أحدهما يتبنى نظرية التنفيس (باعتبار أن قليلا من
التنفيس كفيل بإطالة عمر النظام)، بينما يرى الاتجاه الآخر العكس تماما، أي أن
قليلا من التنفيس يقود إلى فوضى وانفجار شعبي، وبينما يتحرك الاتجاه الأول لتنفيذ
خططه في التنفيس (المتحكم فيه بشدة) ومن ذلك تبنيه للحوار الوطني ولجنة العفو
الرئاسي، والسماح ببعض المنصات الإعلامية ذات السقف المختلف نسبيا عن السائد، فإن
الاتجاه الآخر يحرص على إفشال كل خطوة في هذا المسار، فالحوار الوطني الذي دعا له
السيسي في إفطار الأسرة المصرية في العام 2022 لم ينعقد إلا بعد مرور عام كامل على
تلك الدعوة، وفي يوم الافتتاح ألقت الشرطة القبض على أحد أعضاء نقابة الصحفيين (
حسن القباني) وعلى بعض أقارب النائب البرلماني السابق أحمد طنطاوي الذي أعلن
اعتزامه الترشح للرئاسة في ذلك الوقت، وكان الهدف هو إفساد زفة الحوار الوطني، وقد
تكرر السلوك ذاته مؤخرا مع الدعوة لجلسة حول الحبس الاحتياطي بهدف حلحلة هذا الملف
الحساس، فإذ بالشرطة تضيف معتقلين جددا بينهم هذين الصحفيين.
لم تعد أزمة المعتقلين قاصرة على التيار
الإسلامي بل هي أزمة جامعة لكل القوى السياسية، ولكل الطوائف الدينية والمجتمعية،
وإذا كانت المنظمات الحقوقية قد بذلت جهودا مقدرة خلال السنوات الماضية محليا
وخارجيا لوضع هذا الملف في مكانه المناسب، إلا أن تلك الجهود اصطدمت بحرص النظام
على إبقاء هذه الأزمة الإنسانية، وخلال الأيام الماضية أعلنت بعض أسر المعتقلين
السياسيين عن مبادرة تدعو النظام لإطلاق سراح ذويهم المعتقلين مقابل أي شروط تحددها السلطات، وتتعهد بعدم انخراطهم في العمل
السياسي!!، كم هي مريرة ومؤلمة تلك الكلمات!!، لكن الأكثر مرارة منها بالنسبة لتلك
الأسر هو غياب عائلها لسنوات، دون أن يتمكنوا حتى من زيارتهم!!.
إصرار النظام على الاحتفاظ بكل تلك الآلاف
من المعتقلين السياسيين ليس دليلا على قوته، فالقوي لا يأبه بخروج معتقلين أيا كان
عددهم، والذين هم بحاجة لسنوات للتعافي والاندماج، كما أن هناك العديد من البدائل
للحبس الاحتياطي ذكرها المتحدثون في جلسة الحوار الوطني الأخيرة ـ مثل الأسورة
الإلكترونية التي يتم من خلالها تحديد نطاق لحركة الشخص، ومثل المتابعة والتوقيع
في أحد أقسام الشرطة، أو أداء الخدمة العامة، أو حتى الإقامة الجبرية في المنزل،
وق سبق طرح هذه البدائل أكثر من مرة سلفا، كما تم تقديم تعديلات لقانون الحبس الاحتياطي
ووصلت البرلمان خلال السنوات الماضية لكن غياب الإرادة الحقيقية لحلحلة الملف حالت
دون تحقيق أي تقدم.
لو كانت هناك إرادة حقيقية لإنهاء تلك
المأساة الإنسانية فإن النظام ليس بحاجة لأي تعديلات تشريعية، بل يكفيه تطبيق
القانون الحالي ـ رغم كل مظالمه ـ كبادرة لحسن النية، فتطبيق القانون الحالي سيخرج
فورا مئات بل آلاف المحبوسين الذين قضوا الحد الأقصى للحبس الاحتياطي (سنتين)،
والذين تقوم السلطات بتدويرهم على قضايا جديدة بالاتهامات القديمة ذاتها من داخل
محبسهم لتبدأ معم دورات حبس احتياطي جديدة.