أحداث متسارعة
وساخنة شهدتها
بنغلاديش في الأيام القليلة الماضية، كانت ذروتها هروب رئيسة وزراء بنغلاديش
حسينة إلى
الهند -ملاذها الآمن- فرارا من الغضبة الجماهيرية الجارفة، ثم توافق كل
الفرقاء على تعيين الخبير الاقتصادي العالمي محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل
للسلام وصاحب التجربة الرائدة في معالجة ظاهرة
الفقر في البلاد، رئيسا للحكومة
الجديدة. وقد حظي الرجل بتوافق الجميع؛ رئيس الجمهورية محمد شهاب الدين وقادة
الجيش وقادة مجموعة "طلبة ضد التمييز" وهي الحركة الطلابية التي حركت
المظاهرات العارمة التي أطاحت بحسينة واجد، وهو ما منح يونس خالص ثقة كبيرة للشروع
في مهمته ومنح الشعب البائس أيضا ثقة بأن هناك اتجاها حقيقيا للإصلاح من أهل الحكم،
خاصة أن يونس خالص أكد في أول تصريحات له لصحيفة "فايننشال تايمز"، أنه
لا يسعى لشغل منصب لا بالانتخاب ولا بالتعيين بعد الفترة الانتقالية، مؤكدا أنه
منشغل بالتعاون مع كل الأطراف المعنية بشأن الكيفية التي يمكن بها المساعدة في
العمل لبناء بنغلاديش.. وذلك مؤشر آخر على أن الرجل جاء لمهمة وطنية، ولم يأت في
إطار لعبة سياسية لتنفيس الغضب وتهدئة الشارع ثم تعود الأوضاع لما كانت عليه.
وقد تواكب ذلك
كله مع صدور قرار جمهوري بعد فرار حسينة بساعات بالإفراج عن رئيسة الوزراء السابقة
وزعيمة المعارضة خالدة ضياء، وعمن تم اعتقالهم خلال المظاهرات، وهو ما يساعد في
تحقيق مزيد من الهدوء في البلاد، ومحاولة إسدال الستار على فترات حالكة عاشتها بنغلاديش،
ثالث أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان (174,868,192 نسمة، 91. 4 في المئة منهم مسلمون سنة) منذ
استقلالها عام 1971.
ومن الأمانة ونحن
نتأمل ذلك المشهد المفعم بالتفاؤل الإشارة إلى أنه:
في معظم الغضبات أو الثورات الشعبية التي
اجتاحت العالم الثالث كان يتم التعامل معها بنفس الطريقة التي تتم مع ما يجرى اليوم
في بنغلاديش.. تنفيس الغضب ومحاولة التهدئة، والدفع بشخصيات عالمية تحظى بثقة
شعبية للإيهام بمصداقية الاتجاه نحو الإصلاح.. فإذا ما تحققت التهدئة وتم تبريد
غضبة الشعب عادت "ريمة لعادتها القديمة" كما يقول المصريون، وبعدها سيكون
من الصعب تجميع الجماهير مرة أخرى..
لا أبالغ إن زعمت أن لدي شكوك في أنه سيتم بعد ذلك التخلص من قادة الثورة تحت ذرائع ومزاعم عديدة بعيدة تماما عما جرى!.. مثلما حدث في مصر مع مخرجات ثورة يناير
ولهذا تظل هناك هواجس مشروعة تجاه ما يجري،
يزيد منها أن ظلالا من سلطات رئيسة الوزراء المقالة وسطوة النفوذ الهندي ما زالت
مسيطرة، وهما السبب الأكبر في البلاء الذي ضرب بأطنابه جنبات البلاد.. فقائد الجيش
الذي تحرك وسيطر على الأوضاع وقام بتشكيل حكومة جديدة هو من اختيار رئيسة الوزراء
الهاربة وهو مسكون بالولاء لها، فقد تم تعيينه رئيسا للأركان في 23 حزيران/ يونيو
الماضي -وفقا لويكيبيديا- كما أن المروحية التي حملت
حسينة واجد هروبا من بنغلاديش
إلى الهند هي مروحية عسكرية، أي تحركت بأمر من الجيش.. فكيف نثق في أن الجيش فرض
سيطرته إيذانا بفجر عهد وطني جديد؟ والحقيقة أن ذلك لا يعدو أن يكون دعما لاستمرار
نظام الحكم القائم وللنفوذ الهندي والغربي الذي ما زال مستفحلا.
ولا أبالغ إن زعمت أن لدي شكوك في أنه سيتم
بعد ذلك التخلص من قادة الثورة تحت ذرائع ومزاعم عديدة بعيدة تماما عما جرى!.. مثلما
حدث في مصر مع مخرجات ثورة يناير، وأتمنى أن تثبت الأيام خطأ ما أذهب إليه، لأنني أتمني
لذلك البلد المسلم الكبير الإصلاح وتحقيق النهضة والانعتقاق من حياة الذل والتبعية.
الحرب على الهوية الإسلامية
وحتى تكون الصورة
أكثر وضوحا يحتاج الأمر إلى مزيد من الشرح، فبنغلاديش تتعرض لحرب شرسة على هويتها
منذ 79 عاما، تستهدف اقتلاع الإسلام من جذوره، ومحوه من مناهج التعليم والقضاء وباقي
مناحي الحياة، ومحاولة تبديد قيم الإسلام التي سادت بين أبنائه، والتي تتعرض للوأد
على يد الغرب وسمساره هناك (الهند)، حتى كاد الشعب لا يدري كثيرا عن دينه وبات الإسلام
مغيبا عن دنيا الناس إلا ما ندر، وباتت بنغلاديش علمانية هندوسية بامتياز، ومن
يرفض هذا الواقع أو يحاول تغييره يواجه بحرب شعواء من الطبقة الحاكمة، بدعم من
الهند والغرب.
لقد
زرت تلك المنطقة (شبه القارة الهندية) أكثر من مرة وشاهدت كيف تسيطر القوي والفكر
العلماني والهندوسي على تلك البلاد، وحظر الاقتراب كثيرا من الإسلام.
وخلال إحدى
زياراتي لباكستان التقيت في لاهور عام 2010م -تقريبا- بالسيدة حميراء المودودي،
كبرى أبناء الأستاذ أبو الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، بعد
زيارة قبره في حديقة منزله -يرحمه الله - ودار بيننا حوار طويل عن مذكراته التي كنت
أنشرها في مجلة المجتمع الكويتية، وتوقفت معها في لقائنا عند علاقتها بوالدها ومدى
تجاوبه خلال نقاشها معه مع النقد وحرية الرأي، فأفادتني بأنها كانت علاقة جيدة
وأنه واسع الصدر معها، وضربت على ذلك مثالا بأنها بعد تخرجها من الجامعة عملت معلمة
للغة الإنجليزية وجاء توزيعا في العمل إلي بنغلاديش التي كانت -في ذلك الوقت - جزءا
من باكستان بعد الاستقلال.. تقول: فوجئت بأن الهند تقوم بنشاط واسع لترسيخ ونشر
ثقافتها الهندوسية في عموم البلاد على حساب الإسلام، وقد مثل ذلك خطورة بالغة على هوية
الشعب البنغالي.. وعندما عدت إلى باكستان في الإجازة الصيفية رويت لوالدي ما شاهدت
وعلمت، وانتقدت انشغاله والجماعة الإسلامية عن بنغلاديش وتركها فريسة للفكر
والثقافة الهندوسية، وقد أقرني والدي -يرحمه الله- على ما قلت، لكن الوقت كان قد
فات.
ما
الذي حدث؟
في أربعينيات
القرن الماضي وأمام حصار المقاومة السلمية للاحتلال الانجليزي لشبه القارة الهندية
(الهند- باكستان- كشمير) وكانت كلها موحدة تحت علم الهند، اضطر الاحتلال الإنجليزي
للرحيل، ولكن بعد ترتيب المنطقة بما يحافظ على استمرار النفوذ الإنجليزي -مثلما
حدث في كل البلاد التي رحل عنها الاحتلال الإنجليزي- ولتحقيق ذلك قامت بريطانيا بأمرين:
1-
تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين: الهند وباكستان، وكانت بنغلاديش جزءا من
باكستان. ووضعت بريطانيا كعادتها بذور الشقاق والعداء بين هذه المكونات، حتى يدب
الضعف فيها ويسهل على بريطانيا قيادها من الخارج عبر وكلائها.
2- سلمت مقاليد المنطقة للهند لتقوم بتنفيذ
مخطط متكامل بالتعاون مع الغرب وبريطانيا للتمكين للهندوسية في مقابل حصار الاسلام
والحرب عليه، هوية وفكرا وثقافة ومحاولة اقتلاعه.
وصدر قرار
التقسيم من الإمبراطورية البريطانية في مساء 15 آب/ أغسطس 1947م، فأدي إلى إنشاء
دولتين مستقلتين، الهند بغالبيتها الهندوسية وباكستان المسلمة والتي كانت تتكون -في
ذلك الوقت- من منطقتين تقعان على جانبي الهند: جمهورية باكستان الإسلامية وجمهورية
بنغلاديش الشعبية (المسلمة).
وقد أدى هذا
التقسيم إلى نزوح ما بين 15 إلى 20 مليون مسلم من الهند إلى باكستان الدولة الإسلامية
الوليدة، مما تسبب في أزمة كبيرة للمهاجرين الجدد، وفي نفس الوقت صبت الهند -بتخطيط
ومساعدة بريطانيا والغرب عموما- مزيدا من نار الخلافات الدينية والطائفية لتحقيق
مزيد من إضعاف المسلمين وللحفاظ على سيطرتها على المنطقة.
وإلى جانب ذلك، استمر
النزاع بين الهند وباكستان على إقليم كشمير، فالهند تسيطر على الجزء الأكبر من هذا
الإقليم وترفض في نفس الوقت تنفيذ قرار الأمم المتحدة القاضي بإجراء استفتاء بين
السكان على حرية تقرير المصير، ولم تضغط الأمم المتحدة ولا النظام الدولي على الهند
لتنفيذه، لتظل المنطقة ملتهبة، وليتواصل الصراع، ومن يدفع الثمن هم مسلمو كشمير من
دمائهم وثرواتهم واستقرارهم واستقلالهم، بينما الغرب يواصل دعم الفتنة وتواصل
الأمم المتحدة الصمت!!
في هذه الآونة
حرص الغرب الاستعماري عن طريق الهند على صناعة حكومة موالية له في بنغلاديش، تلتزم
بمواصلة مشروعه المحارب للإسلام في المنطقة كلها، وتم إنشاء "
رابطة عوامي"
من أربعة من الأحزاب
العلمانية الرافضة للإسلام، وقادت هذه الرابطة خالدة ضياء وحسينة
واجد، أشهر امرأتين علمانيتين تبادلتا الحكم في بنغلاديش بدعم من الغرب ورعاية
الهند. وبالمناسبة، فحسينة واجد (المولودة في 28 أيلول/ سبتمبر 1947م) هي ابنة
الشيخ مجيب الرحمن، الأب المؤسس وأول رئيس لبنغلاديش، حكمت بنغلاديش لأكثر من
عشرين عاما متقطعة ولم تترك الحكم إلا بعد أن خلعتها الثورة الشعبية مؤخرا.
رابطة عوامي.. حرب على الإسلام
وخلال قيادة
رابطة عوامي ماجت البلاد بأحداث وتقلبات؛ كانت كلها موجهة ضد الإسلام ومحاولة
اقتلاع الهوية الإسلامية عبر العديد من الإجراءات وأبرزها:
- شطب "بسم الله الرحمن الرحيم"
من مقدمة دستور البلاد.
- إلغاء المبدأين: الإيمان والثقة بالله
والعدالة الاجتماعية من الدستور، لتحل مكانهما العلمانية والاشتراكية.
-
فرض السياسة العلمانية المعارضة للقيم الإسلامية.
-
حظر كافة الأحزاب الإسلامية.
- عدم التزام الحكومة بمواصلة الروابط
الأخوية مع الدول الإسلامية.
وشرعت الحكومات
العلمانية المتعاقبة (حسينة واجد وخالدة ضياء بالذات) في صبغ البلاد بالصبغة
العلمانية الهندوسية ومحاولة تأميم العمل الإسلامي، وتم الزج بمئات من العلماء والآلاف
من أعضاء الجماعة الإسلامية في السجون، ولكن ذلك لم يوقف العمل الإسلامي، فشرعت
تلك الحكومات في تنفيذ مخطط خبيث لاستئصال قادة الجماعة الإسلامية وكوادرها
الفاعلة بتهمة مقاومة استقلال بنغلاديش، وقادت ذلك رابطة "عوامي "وحلفاؤها
من القوى اليسارية والعلمانية التي وقفت بالمرصاد لأي بروز للقوى الإسلامية، وأكدت
كل المؤشرات في ذلك الوقت على أن "رابطة عوامي" تضع على رأس أولوياتها استئصال
الهوية والقوى الإسلامية والوطنية التي عبروا عنها -إعلاميا- بالقوى الأصولية والطائفية.
تم فرض سياسة علمنة التعليم والقوانين وتنحية كل ما له صلة بالإسلام، ولكن تمسك الجماعة الإسلامية بمواصلة رسالتها الإسلامية الأصيلة في الدعوة والتعليم وتربية الناس على التمسك بالإسلام عرقل تلك السياسة، فما كان من بد إلا اعتقال وإعدام قادة تلك الجماعة وكوادرها المهمة
لقد تم فرض سياسة
علمنة التعليم والقوانين وتنحية كل ما له صلة بالإسلام، ولكن تمسك الجماعة
الإسلامية بمواصلة رسالتها الإسلامية الأصيلة في الدعوة والتعليم وتربية الناس على
التمسك بالإسلام عرقل تلك السياسة، فما كان من بد إلا اعتقال وإعدام قادة تلك
الجماعة وكوادرها المهمة، ووجدت حكومة عوامي بقيادة حسينة واجد بغيتها عام 2009م
في إحياء ما يسمى بقضية "مجرمي الحرب"، وزجت بقادة وكوادر الجماعة
الإسلامية في تلك القضية ليصبحوا في نظر القانون متهمين بمقاومة استقلال بنغلاديش عن
باكستان، وتمت محاكمتهم بتهمة الخيانة العظمي بعد مرور تسعة وثلاثين عاما على القضية
التي برزت للمرة الأولى عام 1971م.
وبناءً على هذه
السياسة المجرمة تم إبعاد كبار الموظفين المدنيين من مناصب هامة وتعيين الموالين لحكومة
رابطة "عوامي"، كما تمت إحالة المئات من الأجهزة الأمنية والقوات
المسلحة للتقاعد، وتم إخضاع أجهزة الدولة بكاملها للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية،
وتزامن ذلك مع حملة مماثلة على أجهزة القضاء والمحاكم والجيش. وقد كتب ابن رئيسة
الوزراء حسينة واجد، وهو المقيم في أمريكا ومتزوج من فتاة يهودية، مقالا تحريضيا
يدعو لمزيد من تطهير الجيش، زاعما أن 30 في المئة من رجال الجيش من
الإسلاميين
الإرهابيين!!
وقبل هروبها من
البلاد أعربت حسينة واجد عن رغبتها في تنفيذ سياسة ما يسمى "تنمية المرأة"،
والتي كانت تعتزم بموجبها إلغاء الميراث الشرعي والمساواة بين الذكر والأنثى من
الأبناء، وهو القانون الذي لم تجرؤ سلطات الاستعمار البريطاني على تعديله.
وضمن تلك الحملة
الشعواء على العمل الإسلامي وقادته تم الزج في السجن بالبروفيسور غلام أعظم، مؤسس
الجماعة الإسلامية والبالغ من العمر-حينها- 89 عاما، وتوجيه 62 تهمة ملفقة له بارتكاب
جرائم حرب خلال حرب استقلال بنغلادش عام 1971م، وترك الرجل وحيدا في زنزانة
انفرادية رغم مرضه دون رفيق أو رعاية او علاج حتى لقي الله.. يرحمه الله.
وتوالت أحكام
الإعدام من محكمة جرائم الحرب التي أسستها حسينة واجد عام 2009م على قادة الجماعة
الإسلامية، والتي طالت ستة من رؤسائها وأمنائها العامين إضافة لعدد من القيادات
الأخرى.
وظلت بنغلاديش
ترزح تحت حكم "رابطة عوامي" العلمانية المنفذة للسياسة الهندوسية والمرضي
عنها غربيا، وضاقت الحريات على البلاد والعباد حتى اختنق الناس وبلغ الفقر درجة
مفزعة مما دفع الشعب إلى ثورة عارمة اضطرت حسينة للهرب إلى الهند ملاذها الآمن.. فهل
يستمر هروبها للأبد وتبدأ البلاد عهدا جديدا من الحرية والتنمية والنهضة، أم أنها فترة
استراحة تعقبها عودة حسينة لتسيم الشعب الفقر والتبعية والذل والهوان؟!