قضايا وآراء

"الواقعية السياسية" بين السلطة والمعارضة التونسية

عادل بن عبد الله
"قوة الرئيس تعود أساسا إلى ضعف المعارضة، بل ضعف كل الأجسام الوسيطة الذي يعكس هشاشة الانتقال الديمقراطي وبؤس النخب"- عربي21
"قوة الرئيس تعود أساسا إلى ضعف المعارضة، بل ضعف كل الأجسام الوسيطة الذي يعكس هشاشة الانتقال الديمقراطي وبؤس النخب"- عربي21
تصدير: "لا فرق بين الاستعمار والاستحمار سوى أن الأول يأتي من الخارج، والثاني يأتي من الداخل" (المفكر علي شريعتي)

بعد صدور القائمة الأولية للمترشحين المقبولين للانتخابات الرئاسية التونسية، أعلن الناطق الرسمي باسم المحكم الإدارية عن تقدم سبعة مترشحين بطعون في قرار هيئة الانتخابات. وستظهر نتائج الطعون يوم 19 آب/ أغسطس الجاري، ثم سيُفتح يوم 22 من هذا الشهر باب الطعن أمام هيئة الانتخابات وأمام المترشحين الذين رفضت المحكمة طعونهم بصورة ابتدائية. وبحكم مصداقية القضاء الإداري مقارنة مع القضاء العدلي منذ عهد المخلوع، وبحكم إلزامية قراراته لهيئة الانتخابات، فإن قرارات المحكمة الإدارية في طورها الاستئنافي ستكون "نظريا" ذات أثر بالغ في إعادة هندسة المشهد السياسي الحالي أو في تكريسه بعد صدور قرارها النهائي يوم 6 أيلول/ سبتمبر القادم، لأن قرارها يكون "باتّا ولا يقبل أي وجه من أوجه الطعن ولو بالتعقيب".

رغم تجريم المشرع للامتناع عن تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية، فإنّ السلطات الحاكمة قبل الثورة وبعدها تعاملت مع قرارات تلك المحكمة بنوع من الانتقائية أو اللامبالاة. فبحكم ما أشار إليه أحد الباحثين (القاضي عماد الغابري) من عدم وجود "إطار قانوني وترتيبي صريح يُنظّم شروط وإجراءات وآليات تنفيذ أحكام القضاء الإداري"، أصبح القضاء الإداري التونسي (على خلاف القضاء العدلي) يُنعت بالقضاء الذي لا تُنفّذ أحكامه. ولكنّ هذا الحكم السلبي لا يسرى على علاقة هيئة الانتخابات بأحكام القضاء الإداري، إذ لم تمتنع تلك الهيئة في الاستحقاقات الانتخابية التي أُجريت قبل "تصحيح المسار" عن تنفيذ أي قرار من قرارات المحكمة الإدارية.

وإذا ما اعتبرنا أن الالتجاء للقضاء الإداري للطعن في قرار هيئة الانتخابات هو تعبير عن ثقة المعنيين بالطعون في هذا القضاء -على الضد من مواقفهم من القضاء العدلي المتهم حسب المعارضة بالتحول إلى "قضاء تعليمات"- فإننا أيضا نستبعد أن ترفض هيئة الانتخابات الأحكام النهائية للقضاء الإداري رغم كل الشكوك المتعلقة باستقلاليتها وحياديتها وشفافية أعمالها (خاصة فيما يتعلق بفرز التزكيات وغياب أي مراقب مستقل لهذه العملية).

بصرف النظر عن طبيعة الانتقادات الكثيرة الموجهة للمسار الانتخابي برمته، فإن مجرد القبول بشروط اللعبة السياسية كما فرضتها السلطة الحاكمة يُفقد تلك الانتقادات الكثير من مصداقيتها وشرعيتها أمام الرأي العام. فأن تدخل السباق الانتخابي بمنطق التداول على السلطة أو إسقاط "تصحيح المسار" عير صناديق الاقتراع في اللحظة النهائية التي تستكمل خارطة طريقه، فإن ذلك قد يجعل منك شجاعا أمام مناصريك، ولكنه لا يعني بالضرورة أنك تتحرك بمنطق "الواقعية السياسية"

بصرف النظر عن طبيعة الانتقادات الكثيرة الموجهة للمسار الانتخابي برمته، فإن مجرد القبول بشروط اللعبة السياسية كما فرضتها السلطة الحاكمة يُفقد تلك الانتقادات الكثير من مصداقيتها وشرعيتها أمام الرأي العام. فأن تدخل السباق الانتخابي بمنطق التداول على السلطة أو إسقاط "تصحيح المسار" عير صناديق الاقتراع في اللحظة النهائية التي تستكمل خارطة طريقه، فإن ذلك قد يجعل منك شجاعا أمام مناصريك، ولكنه لا يعني بالضرورة أنك تتحرك بمنطق "الواقعية السياسية". فأية واقعية هي تلك التي تجعل المترشحين يحلمون بالتنافس مع سردية سلطوية تعتبر الصراع مع الخصوم جزءا من "حرب التحرير"، وتعتبر استهداف المعارضين ضرورة لتظهير البلاد من الخونة والعملاء والمتآمرين؟ وأية واقعية في القبول بأن تكون الهيئة المعينة من الرئيس ذات ولاية عامة على الانتخابات؟ بل أية واقعية في الحديث عن حملات انتخابية في ظل عدم وجود هيئة تعديلية ورقابية لوسائل الإعلام العمومية والخاصة (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري)، وكذلك عدم وجود أغلب الأحزاب الوازنة في الديمقراطية التمثيلية بحكم استهدافها المُمنهج من "الديمقراطية القاعدية" التي تُبشّر بنهاية زمن الأحزاب؟

إننا لم نطرح أعلاه مسألة "الواقعية السياسية" لنقد التبرير الأهم للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، ولم نطرح تلك المسألة أيضا لبيان ما تعكسه من تناقضات تخدم السلطة الحاكمة (الاعتراف بشرعية النظام القائم وشرعية الانتخابات تحت سقف دستور 2022)، ولكننا أردنا أن نبين أن واقعية المعارضة تتقابل مع واقعية أخرى هي واقعية السلطة. فالسلطة -كما ذكر الرئيس نفسه- تعتبر أن المشاركة في الانتخابات الرئاسية دون ما سبقها من استحقاقات (الاستشارة الوطنية حول التعليم، الاستفتاء على الدستور، انتخابات غرفتي البرلمان.. الخ) هو ضرب من الانتهازية أو النفاق السياسي.

ولا شك عندنا في أن السلطة الحاكمة كانت تُفضّل أن تبقى المعارضة على رفضها الاعتراف بشرعية تصحيح المسار ومؤسساته، فهذا الرفض سيجعل التقابل بينها وبين خصومها صلبا وواضحا. أما المشاركة في الانتخابات الرئاسية فإنه يعني تحويل هذا الاستحقاق من "تفويض جديد" للرئيس إلى سباق انتخابي سيُظهر بالضرورة أن "تصحيح المسار" لا يحتكر تمثيل الإرادة الشعبية، ولا يمكنه بالتالي احتكار السلطة ورفض منطق التشاركية فيها.

تبرز واقعية السلطة في قدرتها إلى حد الآن على امتصاص الصدمة التي أحدثتها مشاركة شخصيات وازنة في الانتخابات. فرغم "تحييد" الأحزاب ذات العمق الشعبي واستهداف رموزها (خاصة حركة النهضة والحزب الدستوري الحر وحراك تونس الإرادة.. الخ)، فإن مشاركة بعض الشخصيات القريبة من تلك الأحزاب سيجعل من خزاناتها الانتخابية تصطف خلفها. ولذلك اقتضت "الواقعية السياسية" للسلطة القيام ببعض "التعديلات" على القانون الانتخابي استعدادا لهذه الفرضية. فالسلطة لا تبدي أي استعداد لمغادرة مربعها الأيديولوجي الصلب الذي يعتبر أننا في "جمهورية جديدة" لا مكان فيها لرموز الحكم ووسائطه خلال "العشرية السوداء"، وأننا في "حرب تحرير وطني" لا مكان فيها للعملاء والخونة والمتآمرين (أي لا مكان فيها لأي بديل أو شريك، لأن الحكم السلبي موجّه للمعارضة بشخوصها وأجسامها الوسيطة دون استثناء).

لقد حرص الرئيس التونسي في أكثر من مناسبة على تأكيد أنه لن يُسلّم السلطة إلا للوطنيين، وإذا كان خصومه بالضرورة غير وطنيين، فإن علينا أن نبحث عن أولئك الوطنيين في معسكر "تصحيح المسار". ولكنّ الإشكال هنا يطرح في مستويين:

لا نستطيع اختزال هذا الانتصار المتوقع للرئيس في سيطرة السلطة التنفيذية على العملية الانتخابية برمتها، بل نرده إلى بؤس الواقعية السياسية للمعارضة باعتبار تلك "الواقعية" هي الملجأ الأخير للفاشلين والمشتتين والعاجزين عن التوافق حتى على الحد الأدنى للعمل المشترك. بل إننا نعتبر تلك "الواقعية" هي اللحظة النهائية في الأزمة البنيوية للعقل السياسي المعارض، وعجزه عن بناء خطاب مطابق لرهانات السياق الحالي

أولا، نحن لا نجد في هذا النظام شخصا يمكن أن نعتبره "الرجل الثاني"، كما لا نجد "الرجال الثقات" أو "الصادقين" الذين لم يشملهم العزل الدوري للعديد من المحسوبين على الرئيس ومشروعه، والذين يمكن اعتبارهم مرشحين جديين لخلافة الرئيس.

ثانيا، لا يمكن بمنطق الرئيس (هو يعتبر نفسه مكلفا برسالة وأمانة) أن نفترض تنازله عن الحكم أو تسليمه لغيره من "الوطنيين" لأن ذلك سيكون نوعا من خيانة الأمانة، ولذلك سيكون علينا أن نعدل جزئيا في الجملة السياسية للرئيس لنتحدث عن "توريث السلطة" في مشروع تصحيح المسار لا تسليمها. فالرئيس سيبقى في الحكم -ما دام قادرا ذهنيا وصحيا- على ذلك، ولا معنى للتداول على السلطة في "الجمهورية الجديدة" بوجود صاحب المشروع ذاته. ذلك أن التفويض الشعبي نهائي ومطلق؛ لأنه يمثل إرادة غير متلاعب بها ومسنودة بتكليف إلهي لإصلاح عمل المفسدين (أي عمل كل السلطات السابقة في "العشرية السوداء" وقبلها).

يبدو أن انتصار واقعية السلطة على واقعية المعارضة هو الافتراض الأرجح مهما كانت الأحكام النهائية لمحكمة التعقيب. ونحن لا نستطيع اختزال هذا الانتصار المتوقع للرئيس في سيطرة السلطة التنفيذية على العملية الانتخابية برمتها، بل نرده إلى بؤس الواقعية السياسية للمعارضة باعتبار تلك "الواقعية" هي الملجأ الأخير للفاشلين والمشتتين والعاجزين عن التوافق حتى على الحد الأدنى للعمل المشترك. بل إننا نعتبر تلك "الواقعية" هي اللحظة النهائية في الأزمة البنيوية للعقل السياسي المعارض، وعجزه عن بناء خطاب مطابق لرهانات السياق الحالي. وهو ما يعني أننا لا نتفق مع المعارضة في قولها بأن قوة الرئيس ترجع إلى سيطرته على أجهزة الدولة (خاصة القوى الصلبة)، بل إننا نرى أن قوة الرئيس تعود أساسا إلى ضعف المعارضة، بل ضعف كل الأجسام الوسيطة الذي يعكس هشاشة الانتقال الديمقراطي وبؤس النخب التي تحكمت في مساراته ومخرجاته ومآلاته الحالية.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)