الكتاب: بريطانيا
وإيران: تشكُّل الخليج العربي الحديث
الكاتبة: ولاء إبراهيم
حسن حامد.
الناشر: مركز أركان
للدراسات والنشر، الكويت، 2022م
الصفحات: 242 صفحة
تشكل الخليج العربي الحديث:
ظلّت منطقة الخليج العربي تحظى بأهمية كبيرة لدى الحكومة البريطانية، معتمدة على مجموعة من القواعد العسكرية؛ منها قاعدة الجفير في البحرين، والقاعدة الجوية في مسقط، فضلا عن قوة كشافة عُمان، التي كانت تحت قيادة بريطانيا ومسلّحة من قِبلها، وعلى الرغم من النفوذ البريطاني الواسع في المحيط الهندي والخليج العربي، فإن مكانة بريطانيا بدأت تتراجع في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لا سيما بعد إعلان استقلال الهند عام 1947، الذي فقدت على إثره الكثير من ممتلكاتها، وتضاءلت مسؤولياتها الدفاعية فيما وراء البحار.
الأسباب التي دفعت بريطانيا للانسحاب من
الخليج العربي :
1 ـ باستقلال الهند عام 1947، لم يعد الخليج
مهمّا لبريطانيا كطريق لمستعمراتها الكبرى للهند، وهو السبب الرئيس الذي لأجله
سيطرت بريطانيا على منطقة الخليج العربي.
2 ـ تراجع الاقتصاد البريطاني، لا سيما بعد
انخفاض قيمة العملة منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، وهو الأمر الذي أجبر حكومة العمال على إنقاذ
اقتصادها، عن طريق اتخاذ تدابير شديدة لتخفيض المصروفات، بما في ذلك إخلاء جميع
القوات البريطانية من شرق آسيا، والخليج العربي.
3 ـ ميل الحكومة البريطانية لإرضاء الرأي العام
الداخلي المعارض لالتزامات بريطانيا في الخارج، لا سيما فيما يتعلق بتحمل بريطانيا
عبء الدفاع عن المصالح النفطية، التي لم تكن آنذاك مقتصرة على بريطانيا فحسب، بل
كانت تهمُّ دولا أخرى؛ كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان.
4 ـ تطور الأسلحة العسكرية، لا سيما بعد ظهور
القوة النووية وحاملات الطائرات؛ وهو ما جعل الوجود البريطاني التقليدي في
المنطقة لا قيمة له.
تقول الكاتبة:" ظل أمر الفراغ الذي
يُحدثه الانسحاب البريطاني الشغل الشاغل لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية،
وحاولت بريطانيا ترتيب أوضاع الخليج العربي؛ لضمان الاستقرار بعد الانسحاب
البريطاني، تأكيدا لمقولة ونستون تشرشل: "إذا حكمت بريطانيا بلدا مائة عام،
فإن سياستها ستحكم البلد بعد انسحابها منه مائتي عام أخرى".، طرحت الولايات
المتحدة من أجل الحفاظ على مصالحها في منطقة الخليج العربي؛ مبدأ نيكسون عام 1969،
ولكن دون تدخل أمريكي مباشر، عبر الاعتماد على حلفاء أقوياء كإيران، والمملكة
العربية السعودية؛ للقيام بمسؤولية حفظ الأمن.
الثورة الإسلامية واحدة من أهم الأحداث التي جرت في الربع الأخير من القرن العشرين؛ فقد أشار السفير البريطاني في طهران، أنتوني بارسونز، إلى أن الثورة الإيرانية أحدثت زلزالا سياسيّا مشابها للزلزالين اللذين صاحبا الثورتين العظيمتين في التاريخ الأوروبي الحديث: الفرنسية 1789، والروسية عام 1917.
شهد عام 1973 حدوث أزمة الطاقة العالمية،
وتأثيرها المباشر في سياسة الدول وعلاقاتها الخارجية. وفي هذه المرحلة، أصبحت
إيران بلدا مهمّا في السياسة العالمية؛ لما تحتويه من ثروات نفطية هائلة، إضافة
إلى استكمالها بناء قواتها العسكرية والأمنية بمساعدة الدول الأوروبية، ومن ثم
تطلعت إلى سياسة خارجية مختلفة، تؤمّن مصالح إيران القومية، وتلبّي طموحات الشاه
محمد رضا الشخصية، وذلك بعدما اعترفت غالبية دول العالم بوقوفه في وجه التحديات
الداخلية والخارجية، إذ هيأت الأحداث الدولية لإيران مجالا آخر للتحرك الخارجي،
وأبرزها أحداث عام 1973.
تقول الكاتبة عن القروض التي قدمتها إيران
لبريطانيا: "أسهمت القروض الإيرانية التي قدمتها للبنوك البريطانية، في مساعدة
بريطانيا على تجاوز أزمتها المالية في 1968_ 1972؛ فقد أخذت المصارف البريطانية
تعمل بالأموال الإيرانية منذ بداية السبعينيات، فضلا عن تقديم إيران الأموال
للمصارف الأمريكية، ومشاركتها في تأييد الرؤساء الأمريكان في الدعايات والحملات
الانتخابية، وهذا الأمر شجع بريطانيا على تأييد سياسة الشاه الخارجية".
اقترضت بريطانيا من بنك ملي الإيراني قروضا
لبريطانيا تقدر بقيمة 200 مليون دولار لبلدية لندن العاجزة عن توفير الخدمات، كما
قدم البنك نفسه قرضا لشركة جرومان الأمريكية لصناعة الطائرات بقيمة 75 مليون
دولار، أي إن الوظيفة الأكثر أهمية التي تقوم بها المصارف الإيرانية، هي الدور
التسليفي الذي حل محل مصارف البلدان الصناعية الأخرى، واستطاعت إيران -من خلال
القروض- توريد الأسلحة والطائرات الحديثة، واستمرت في سياسة تقديم القروض
لبريطانيا. وخلال عام 1975 قدمت طهران 2.5 مليار دولار كقروض طويلة الأمد، أو
استيفاء جزء منها على شكل أسلحة ومعدات عسكرية وتشييد المصانع الحديثة.
كثّفت بريطانيا والدول الأوروبية مبيعاتها
من الأسلحة المتطورة والمواد الأساسية لإيران، رغبة منها في سحب عائدات النفط
الإيرانية من خلال توريد الأسلحة لإيران، وهذا التوجه الغربي أسهم في تلاقي مصالح
إيران وسياسة بريطانيا، على الرغم من انتقاد دول أوروبا سياسة إيران الخارجية تجاه
أزمة النفط، حيث اضطرت بريطانيا إلى تأييد سياسة الشاه الخارجية؛ حفاظا على
مصالحها الاقتصادية، ولم تُبد أي عمل نحو موقف الشاه وإصراره في زيادة الأسعار.
إن الخطوة التي دفعت إيران لمدّ خيوط التعاون
مع الاتحاد السوفييتي، هي ضمان تقبُّلها إستراتيجية إيران لإنشاء مفاعل نووي دون
معارضة، علما أن اتفاق إنشاء برنامج إيران النووي كان عام 1957م، وفي زيارته
الأخيرة للاتحاد السوفيتي، طلب رئيس وزراء إيران من السوفيت الإسهام في إنشاء
المفاعل النووي الذي تنوي إيران بناءه داخل أراضيها، وبالرغم من أن إيران تعلم بأن
رفض الاتحاد السوفيتي لتلك التوجهات سيكون حاضرا لمثل هذه الطلبات، فإنها جزء من
المناورة الخارجية لإيران، وإن رفض السوفيت يشجع إيران على المضي قدما تجاه بريطانيا
والدول الرأسمالية.
جاء التغير الذي طرأ على السياسة الأمريكية
تجاه إيران، ودخولها شريكا في البرنامج النووي الإيراني؛ نتيجة الضعف الذي أصاب
الجانب البريطاني في الجانب السياسي؛ لذا كان من الضروري تعويض الدور البريطاني،
الذي أخذ يعوّل على الجانب الاقتصادي. وكانت الولايات المتحدة تدرك أنها إذا رفضت
التعاون مع إيران، فسوف تلجأ الأخيرة إلى منافسيها في المنطقة، وأبرزهم الاتحاد
السوفيتي، الذي كان سينتهز الفرصة ليعطي لإيران ما تريده.
ربط الاتحاد السوفييتي التعاون العسكري
والنووي مع إيران بابتعاد سياستها الخارجية عن بريطانيا والدول الرأسمالية، مع
السيطرة على الشركات النفطية والأمنية في إيران؛ إذ كان الاتحاد السوفيتي يضغط على
إيران لتأميم النفط على غرار ما قام به العراق تجاه الشركات البريطانية، وقد جاء
هذا الطلب السوفيتي، بعد رفض إيران تجديد الاتفاقية النفطية الموقعة عام 1954 مع
الكونسوريتوم، إذ اعتبر السوفييت الرفض الإيراني خطوة إيجابية في تحييد سياسة
إيران الخارجية عن بريطانيا وأوروبا، وتغيرا واضحا في طريق الاستقلال السياسي.
رأت الكاتبة أن سياسة إيران الخارجية خلال
الفترة 1975_1977، متشابكة وواسعة في المنطقة والعالم الخارجي؛ إذ بدأت بتشجيع
الدول العربية على الابتعاد عن الدعم الغربي، والاعتماد على إيران وقدرتها
العسكرية. وقد ازداد ارتباط إيران بالغرب، والأكثر من هذا أخذت إيران تنفتح على
إسرائيل أكثر من السابق حتى إعلان الثورة الإيرانية 1979م.
أحدثت الثورة الإسلامية في إيران العديد من
المتغيرات في السياسة الإيرانية، التي ألقت بظلالها على طبيعة الروابط بين إيران
وبريطانيا. فبعد أن انتهت الحاجة إلى وجود الخبراء والفنيين العسكريين
البريطانيين، الذين كانوا يعملون في وزارة الدفاع الإيرانية في أثناء العهد
البهلوي، عاد هؤلاء إلى بلادهم في الخامس من آذار/مارس 1979، وقد دقّ هذا الحدث توترا
في العلاقات العسكرية، التي كانت قائمة بين بريطانيا وإيران، وهو الأمر الذي دفع
حزب المحافظين إلى الإعلان بأن الوضع في الشرق الأوسط أصبح خطيرا للغاية، وأن
الاتحاد السوفيتي سيكون هو المستفيد الأكبر من جراء انسحاب إيران من التزاماتها
الدفاعية مع الغرب، ولا سيما في منطقة الخليج العربي، في وقت لم تكن إيران قد
أعلنت انسحابها رسميّا من اتفاقيات الدفاع المشترك، التي كانت قد عقدتها مع الدول
الغربية، بيْد أن توجهات القادة الإيرانيين، دفعت بعض الساسة البريطانيين إلى
الاعتقاد بأن الخطوات المستقبلية للحكومة الإيرانية ستكون بذلك الاتجاه.
يبدو أن تخوف بعض المسؤولين البريطانيين من
انسحاب إيران من منظومة الدفاع الغربية كان في محله؛ ففي الخامس من نيسان/ أبريل 1979،
أعلنت حكومة إيران انسحابها رسميّا من الحلف المركزي، وهو الأمر الذي دفع الحكومة
البريطانية منتصف الشهر نفسه إلى إرسال وفد من وزارة الدفاع البريطانية؛ للتباحث
مع نظرائهم الإيرانيين حول مسألة الديون البريطانية المتعلقة بصفقات الأسلحة، التي
عقدها النظام الإيراني السابق، والتي بلغت قيمتها قرابة 85 مليون جنيه إسترليني.
وعقب انتهاء المحادثات التي جرت بين الطرفين، سلّم الوفد البريطاني المفاوض حال عودته
إلى بلاده الحكومة البريطانية تقريرا مفصلا عن المفاوضات، واصفا إياها بأنها
"جرت في جو ودّي وبنّاء، وأن وزارة الدفاع الإيرانية أعربت عن عزمها على دفع
جميع الأموال المستحقة".
تبين بوضوح أنه ليس لبريطانيا حليف دائم، وإنما مصالح دائمة؛ فحليفها وشريكها السياسي رضا شاه، كانت هي المسؤولة عن وصوله إلى الحكم؛ بعد أن وجدت أن مصالحها آنذاك تتطلب وجود حكومة قوية قادرة على المحافظة عليها.
لقد أسهم التقارب بين الاتحاد السوفييتي
وإيران آنذاك في المتغيرات التي حدثت في سياسة بريطانيا تجاه إيران؛ إذ شعرت تاتشر
بمدى خطورة ذلك على مصالح الغرب في المنطقة، ولا سيما بعد المحادثة التي أجرتها في
السادس والعشرين من حزيران/ يونيو 1979 مع رئيس الوزراء السوفيتي أليكسي كوسيجين، الذي أكد
من خلالها أن نقص الطاقة لم يعد عاملا مفيدا للتوسع الاقتصادي السوفيتي، وأن سبب
ذلك يعود بالدرجة الأساس إلى الاعتماد على الغاز الإيراني، الذي يدفع ثمنه من
المشاريع الصناعية السوفيتية في إيران.
أوضحت الكاتبة في ختام تتبع العلاقات
البريطانية-الإيرانية خلال الفترة ما بين 1951_ 1979، الآتي:
1 ـ قامت العلاقات بين بريطانيا وإيران، على
أسس غير متكافئة؛ فبريطانيا كانت هي الإمبراطورية ذات السيادة، وصاحبة النفوذ
الكبير في الشرق الأوسط والخليج العربي، أما إيران، فقد كانت لها أهمية كبيرة من
وجهة النظر البريطانية؛ لوقوعها على أحد الطرق المؤدية إلى الهند، المستعمرة
البريطانية الأكثر أهمية.
2 ـ تبين بوضوح أنه ليس لبريطانيا حليف
دائم، وإنما مصالح دائمة؛ فحليفها وشريكها السياسي رضا شاه، كانت هي المسؤولة عن
وصوله إلى الحكم؛ بعد أن وجدت أن مصالحها آنذاك تتطلب وجود حكومة قوية قادرة على
المحافظة عليها.
3 ـ سارت العلاقات بين بريطانيا وإيران، في
عهد محمد رضا شاه بشكل جيد، حتى قيام الحكومة الإيرانية برئاسة مصدق بتأميم النفط
عام 1951، الذي كان مسيطَرا عليه من قِبل شركة النفط الأنجلو-إيرانية؛ وهو ما
تسبب في تصدع كبير في العلاقات بين البلدين.
4 ـ اتسمت العلاقات البريطانية الإيرانية
بعد سقوط مصدق بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وانشغال الجانبين
بالمباحثات النفطية، إذ كانت بريطانيا قد تأثرت بسبب تأميم شركاتها، بيْد أنها
تمكنت من العودة مرة أخرى إلى استثمار النفط الإيراني ضمن اتحاد الكونسورتيوم،
الذي كانت قد ضمنت لنفسها النسبة الأكبر فيه كما أوضحنا.
5 ـ أوضحت الدراسة أن المساعدة العسكرية كان
لها دور كبير في توجيه دفة العلاقات بين نظام محمد رضا شاه وبريطانيا؛ فبينما كان
الشاه يسعى لتقوية جيشه وأنظمته الدفاعية لقمع المعارضة، وتحقيق أطماعه التوسعية
على حساب دول الخليج، معوِّلا على المساعدة البريطانية والأمريكية في هذا الخصوص، كانت بريطانيا والولايات المتحدة تعُد إيران للقيام بدور الحارس للمصالح الغربية
في الخليج العربي، وتقابلت المصلحتان.
6 ـ ثبت من خلال الدراسة، أن الثورة
الإسلامية واحدة من أهم الأحداث التي جرت في الربع الأخير من القرن العشرين؛ فقد
أشار السفير البريطاني في طهران، أنتوني بارسونز، إلى أن الثورة الإيرانية أحدثت
زلزالا سياسيّا مشابها للزلزالين اللذين صاحبا الثورتين العظيمتين في التاريخ
الأوروبي الحديث: الفرنسية 1789، والروسية عام 1917.
اقرأ أيضا: بريطانيا وإيران: تشكُّل الخليج العربي الحديث.. قراءة في كتاب (1 من 2)