مع استمرار الضغوط العسكرية من
لبنان والضفة وغزة، فلا حاجة لتوسيع نطاق المواجهة إلى حرب إقليمية شاملة؛ لأن إسرائيل ستتعرض لنزيف يضعف قدرتها على التحمل.
فشلت الدبلوماسية في مواجهة العناد الإسرائيلي وتصميم نتنياهو على تغيير معادلات التوازن على الأرض، وإصراره على إبقاء القوات الإسرائيلية في محوري نتساريم، الذي يفصل شمال قطاع
غزة عن جنوبه، وصلاح الدين (فيلادلفي) الموازي للحدود مع مصر، وإغلاق معبر رفح.
وأعلنت
المقاومة الفلسطينية على لسان حماس، أنها ما تزال مستعدة للتوصل إلى صفقة تضمن تبادل الأسرى والمحتجزين، وإنهاء الحرب في غزة، بواسطة اتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، على أساس المقترح الأمريكي بتاريخ 2 تموز/يوليو.
ولا تلوح حاليا في الأفق فرصة جديدة لتحقيق الصفقة، التي أفرط الرئيس الأمريكي بايدن في الترويج لها، على أنها باتت قريبة وفي متناول اليد. كما لا يبدو ذلك ممكنا من الناحية العملية حتى موعد الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. كما انكشف للعالم كله كذب الإدارة الأمريكية التي تروج لأن حماس هي المسؤول عن فشل التوصل إلى اتفاق.
هذا الوضع الذي انتهت إليه مفاوضات الدوحة والقاهرة، بمشاركة البلدين مع وفود من واشنطن وتل أبيب، يضع المواجهة العسكرية في الشرق الأوسط على مسار التصعيد وليس على مسار التهدئة. لكن مسار التصعيد هذه المرة يختلف عما كان عليه طوال الأشهر الأخيرة، عندما كانت غزة تعد الميدان الرئيسي المحرك لاتجاه التصعيد. وهناك مؤشرات جديدة تدل على أن جبهات المواجهة في كل من غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وجنوب لبنان، تقترب من العمل معا لتغيير التوازن على الأرض لمصلحة المقاومة. وهناك عدد من المؤشرات الرئيسية التي تؤكد ذلك من أهمها:
أولا: تعاني إسرائيل من صعوبة تغطية جبهات القتال في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، والحدود الشمالية مع لبنان، بالقوة البشرية العسكرية الملائمة. وعلى الرغم من التفوق التكنولوجي، فإن الأعداد المطلوبة من الجنود تفوق قدرة إسرائيل على توفيرها. وتحاول إسرائيل مواجهة ذلك بتمديد فترة الخدمة العسكرية في قوات الاحتياط، وزيادة أعداد المستدعين للخدمة، إضافة إلى تنظيم حملات قوية في الخارج، من أجل تجنيد متطوعين أجانب للقتال في صفوف الجيش الإسرائيلي.
ومع اتساع جبهات القتال، وطول مدة العمليات خارج نطاق المدى المتوقع، فإن إسرائيل ستقع تحت ضغوط عسكرية واقتصادية، من شأنها أن تضعف قدرتها على التحمل العسكري والاقتصادي كلما استمرت الحرب. وبينما كانت القيادة الإسرائيلية تتوقع انتهاء الحرب في عدة أشهر، فإن التوقعات الحالية تذهب إلى أن الحرب ستستمر حتى الربع الأول من العام القادم.
ثانيا: يعاني الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة من صعوبة في تحديد خطوط التماس مع قوات المقاومة. وما ذكره وزير الدفاع يؤاف غالانت من أن قواته تمكنت من القضاء على لواء رفح في غزة، هو قول ساذج لا يقف على أي أساس. والثابت من تقارير الجيش الإسرائيلي نفسه، أن قوات المقاومة الفلسطينية التي تضم حماس وغيرها من الفصائل، تنفذ يوميا عمليات عسكرية في أماكن مختلفة من اختيارها، بعد تحديد الأهداف المعادية. ويمثل تكرار عودة القوات الإسرائيلية إلى مناطق مثل خان يونس ودير البلح، دليلا على فشل القوات الإسرائيلية في المواجهة مع قوات المقاومة وليس العكس. ومع توسع المقاومة في تطبيق تكتيكات حروب المدن/ فإنها لن تقف على خط تماس ثابت ومحدد في مواجهة القوات الإسرائيلية، وإنما تتحرك من موقع إلى آخر، كلما تم تحديد الصيد المستهدف. حرب المدن ليست حرب مواقع ثابتة، ومن ثم فلا يوجد فيها خطوط تماس، الأمر الذي يمنح المقاومة ميزة نسبية في التحركات، في مواجهة القوات الإسرائيلية المتمركزة في مواقع ثابتة، مثل تلك التي ترابط على محور نتساريم في القطاع الأوسط ومحور صلاح الدين في القطاع الجنوبي. هذه الميزة النسبية تفسر زيادة أعداد القتلى العسكريين الإسرائيليين في الأشهر الثلاثة الأخيرة. هذا لا ينكر بالطبع حقيقة أن المقاومة تتكبد خسائر كبيرة، وأن المدنيين الفلسطينيين يدفعون ثمنا فادحا للاعتداءات الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن كل الظروف الصعبة لم ولن تمنع استمرار المقاومة وتعاظمها.
ثالثا: على الرغم من زيادة القوة النيرانية الإسرائيلية المستخدمة لضرب المقاومة في الضفة الغربية، فإن استخدام سلاح الطيران وتكثيف الهجمات باستخدام المدرعات والمدفعية، لم يؤد إلى كبح جماح المقاومة. على العكس من ذلك، فإن المقاومة تتسع، وبدأت تتخذ أشكالا أوسع نطاقا، تعيد إلى الذاكرة المظاهر التي رافقت انفجار الانتفاضتين الأولى والثانية، إذ تزايد مفعول الدوافع الفردية لمواجهة عنف المستوطنين الإسرائيليين، والجيش والشرطة على السواء. كما أن مواقف اليمين الديني الصهيوني المتطرف، من حيث تشجيع وتسليح وتمويل عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، تؤدي يوما بعد يوم إلى تزايد تنظيم أعمال المقاومة، على نطاق الضفة الغربية والقدس الشرقية. وتتضمن أعمال المقاومة حوادث دهس ضد جنود الجيش والشرطة والمستوطنين، وزرع العبوات المتفجرة على جوانب الطرق. وتخشى إسرائيل من عودة الفلسطينيين إلى استخدام التفجيرات الانتحارية. ويعتقد رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي رونين بار، أن عنف المستوطنين يتجاوز حدود «الجريمة»، ويدخل نطاق «الإرهاب»، الأمر الذي يستوجب التوقف عن دعمه وتأييده. هذا التقييم لجانب من جوانب الوضع في الضفة الغربية، ينزع عن المقاومة صفة «الإرهاب»، ويؤسس للحق المشروع في استمرار الكفاح الوطني المسلح.
رابعا: تشير العمليات الأخيرة، سواء من جانب حماس أو «حزب الله» أو قوى المقاومة في الضفة، إلى سعي مؤكد من أجل نقل المعركة إلى داخل إسرائيل. إذ أصبحت حماس تستهدف بصواريخها الداخل الإسرائيلي، وكذلك يفعل «حزب الله». كما أن المحاولة الأخيرة، التي جرت لإدخال سيارة مفخخة إلى تل أبيب تسير في الاتجاه نفسه. هذا النمط القديم الجديد من العمليات العسكرية، يسبب قلقا كبيرا في أوساط العسكريين الإسرائيليين، خشية أن يتطور بسرعة؛ نظرا لوجود دوافع قوية. وقد حدد مائير شبات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي سابقا، أربعة من هذه الدوافع على النحو التالي: الأول هو الدافع الكبير بين الفلسطينيين من الضفة الغربية لإلحاق الأذى بإسرائيل، والثاني هو توافر الأسلحة والمتفجرات والمختبرات لتصنيع وتجميع القنابل، والثالث هو التوجيهات من عناصر القيادة على الأرض أو في الخارج، أما الدافع الرابع، فإنه يتمثل في الثغرات الأمنية على طول خط التماس بين إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة وكذلك جنوب لبنان. ومن الواضح أن إمكانات «حزب الله» اللبناني في مجالات توجيه ضربات إلى إسرائيل باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ، أصبحت تمثل تهديدا ماديا ومعنويا شديدا لإسرائيل. وقد كانت الضربات المتبادلة بين الطرفين يوم الأحد الماضي، حين استخدمت إسرائيل حوالي 100 طائرة لتوجيه ضربات إلى الأهداف التابعة لـ«حزب الله»، دليلا على فشل إسرائيل في تنفيذ استراتيجية للردع. ونتيجة لهذا الفشل، فإن مدينة كريات شمونة تحولت عمليا إلى مدينة أشباح، ولم تتمكن إسرائيل من إعادة أكثر من 70 ألفا من النازحين إلى مساكنهم في الشمال.
خامسا: مع استمرار الضغوط العسكرية على إسرائيل من الشمال (جنوب لبنان) والشرق (الضفة الغربية) والجنوب (قطاع غزة)، فلا حاجة لتوسيع نطاق المواجهة العسكرية إلى حرب إقليمية شاملة؛ لأن إسرائيل ستتعرض لنزيف يضعف قدرتها على التحمل حتى وإن كان بطيئا؛ وذلك نظرا لأن المعضلات السياسية والعسكرية التي تواجهها إسرائيل سوف تزداد تعقيدا. من أمثلة ذلك، أن توجيه مجهود عسكري أكبر إلى جنوب لبنان، يستلزم تخفيف الضغوط على القوات في غزة، وهو ما يسبب نزاعا بين قيادة الجيش والقيادة الأمنية من جانب والقيادة السياسية من الجانب الآخر. كذلك فإن تصاعد المقاومة في الضفة يمكن أن يتحول، على التوازي مع عنف المستوطنين وتواطؤ الشرطة والجيش، إلى انتفاضة ثالثة، وهو ما يخشاه رونين بار رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، وعبر عنه في خطاب أرسله إلى نتنياهو أخيرا، حذر فيه من أن إرهاب المستوطنين يضع إسرائيل على شفا كارثة جديدة. وإذا استطاعت قوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة إضافة إلى «حزب الله» تنسيق عملياتها، وتركيز الضربات إلى داخل إسرائيل، خصوصا القواعد العسكرية والاستخباراتية، فإن ذلك سيضع الحكومة الإسرائيلية في موقع ضعيف أمام الرأي العام، الذي أصبح يعلم جيدا أن مسألة استعادة المحتجزين، لا تعني نتنياهو بقدر ما يعنيه استمرار الحرب. ويحتاج تنسيق العمليات بين قوى المقاومة إلى مجهود سياسي وعسكري ولوجستي كبير، لكنه يحتاج قبل أي شيء إلى وحدة البيت الفلسطيني؛ لأن الغاية الكبرى للكفاح الوطني الفلسطيني واحدة، ألا وهي التحرر من
الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
(القدس العربي)