جاءت
عملية إطلاق النار صباح الأحد التي قتل فيها ثلاثة من عناصر شرطة
الاحتلال، لتُدخل
الخليل على خط المواجهة المشتعل حاليا في شمال الضفة الغربية، وسط تواصل العملية العسكرية الإسرائيلية الموسعة لليوم الخامس على التوالي.
وقتل ثلاثة من عناصر شرطة الاحتلال في عملية إطلاق نار على سيارة عند حاجز ترقوميا غربي الخليل في جنوب الضفة الغربية، بينما انسحب المنفذون وسط حالة استنفار أمنية إسرائيلية.
وتنضم الخليل، بهذه العلمية والعملية المزدوجة التي سبقتها في مجمع "غوش عتصيون" الاستيطاني شمال المدينة، إلى مدن جنين ونابلس والعديد من البلدات
الفلسطينية التي نشطت فيها حالة
المقاومة مؤخرا بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية، وذلك تزامنا مع استمرار حرب الإبادة للشهر 11 ضد قطاع غزة.
وحذرت القيادة الوسطى في جيش الاحتلال من أن اتساع المواجهة في الضفة الغربية سيضع عبئا على قوات الجيش، بحسب ما نقلت صحيفة "إسرائيل اليوم".
تاريخ من المقاومة
للخليل تاريخ حافل بالفعل المقاوم للاحتلال الإسرائيلي منذ قبل أحداث النكبة عام 1948 ودوما ما اكتسبت خصوصية في انطلاق المقاومة والثورة الفلسطينية، لا سيما أنها تعرضت ربما أكثر من غيرها لمحاولات التهويد والسيطرة، باعتبار أنها من المدن "الأربع المقدسة" بحسب المعتقد اليهودي، إلى جانب القدس وصفد وطبريا.
اظهار أخبار متعلقة
وساهمت الخليل بشكل أساسي في "ثورة البراق"، وهي أول انتفاضة فلسطينية على محاولة تهويد القدس في عهد الانتداب البريطاني، بعدما اندلعت اشتباكات واسعة النطاق عند حائط البراق (الحائط الغربي للمسجد الأقصى) يوم 15 آب/ أغسطس 1929 رفضا لمخططات التهويد.
وشهدت الثورة صدامات بين الفلسطينيين من جهة واليهود وقوات الانتداب من جهة أخرى في الخليل وصفد والقدس ويافا ومدن فلسطينية أخرى، واستمرت أياما.
وبعدما قمعت بريطانيا الحراك الشعبي وتمكنت من السيطرة على الموقف بقسوة، قدمت للمحاكمة ما يزيد على الألف من العرب والفلسطينيين وحُكم على 27 منهم بالإعدام، بينهم يهودي واحد كان شرطيا دخل على أسرة عربية في يافا مكونة من 7 أشخاص فقتلهم جميعا.
وخففت سلطة الانتداب الأحكام إلى السجن المؤبد بحق 23 من الفلسطينيين، وأيّدت حكم الإعدام بحق ثلاثة بعد اتهامهم بقتل يهود، هم: فؤاد حسن حجازي، ومحمد خليل جمجوم، وعطا أحمد الزير. وهم جميعا من مدينة الخليل.
وتتضمن الأوساط الفلسطينية عبارة تاريخية مفادها أن "القدس توحدنا والخليل تجمعنا"، وهذا شعار الذي جمع بين القدس والخليل على مدار مئات السنين، يتعلق بالتشابه بطبيعة الهجمة الاستيطانية، فضلا عن الشبه الظاهري بين المدينتين.
ورغم قلة المراجع التي توثق "الهجرة الداخلية" من الخليل إلى القدس، إلا أن محادثات سرية تاريخية دارت بين رئيس بلدية الخليل حينها محمد الجعبري والمفتي العام للقدس أمين الحسيني على اعتبار أن القدس والخليل كانتا لواء واحدا، يطلب بها الحسيني من رئيس بلدية الخليل بأن يهبوا إلى إنقاذ القدس من الاستيطان خلال حقبة الانتداب البريطاني، وهذا ما حصل حتى أصبحوا جزءا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي.
ويعتقد المؤرخ الفلسطيني محمد ذياب أبو صالح أن الخليل ترفد القدس في جميع حقب التاريخ، وهي بوابة القدس، ولا تُفتح القدس إلا من جهة الخليل، لافتا إلى أنّ أهالي الخليل أدركوا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي أنّ مدينة القدس مستهدفة من الصّهيونية العالمية، فانتقلت إليها مئات العائلات الخليلية وسكنت فيها، وأصبحت النّسبة الأعلى من المدينة المقدّسة من الخليل، بحسب تقرير نشرته صحيفة
بلدية الخليل.
وفي الثورة الفلسطينية عام (1936) ضد الانتداب البريطاني قاد كثيرون من أبناء الخليل هذه الثورة ضدّ الاحتلال، وذهب منهم كثيرون شهداء، من بينهم عطّا الزير، وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم، فيما يبين أنّ الخليل كانت تتصدّر دوما احتفالات التعبئة في عهد الحج أمين الحسيني، وكان المشاركون يعزفون الأهازيج الوطنية لحشد قواهم ضد الحملة الشرسة.
محرك المقاومة
وخلال الانتفاضة الأولى والثانية، كانت الخليل في صدارة المدن التي قاومت وتصدت للاحتلال، بينما كانت في انتفاضة 2015 المعروفة شعبيا باسم "انتفاضة السكاكين" أكثر من قدم الشهداء والمصابين، سواء من خلال تنفيذ العمليات، أو حتى التعرض للقتل والتنكيل الإسرائيلي.
وأوضحت دراسة إحصائية، أعدّها مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني، أن عدد شهداء "هبة السكاكين"، التي انطلقت في الأول من شهر تشرين أول/ أكتوبر 2015، بلغ 251 شهيدا.
وأشارت الدراسة إلى أن محافظة الخليل تصدرت قائمة المحافظات التي قدمت شهداء خلال الانتفاضة، حيث ارتقى على أرضها 77 شهيدا، تليها القدس بـ 53 شهيدا.
وبسبب ذلك، أعلن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام ذاته أنه وجه أوامره للأجهزة الأمنية بتكثيف عملياتها في الخليل بحجة أنها مصدر أغلب "العمليات التخريبية" أو جميعها.
محاولات العزل
عمل الاحتلال الإسرائيلي على تعزيز العشائرية في الخليل واستغلال وضعها الخاص بهدف إغراقها في الخلافات الداخلية، وذلك في إدراك منها أن استغلال عامل العشائرية هو المدخل الأول والأهم لتخريب النسيج الاجتماعي الذي يشكل حاضنة للثورة، بحسب ما جاء في
مقال نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
وللخليل خصوصية ثانية ساعدت "إسرائيل" في محاولة اختراق العشائر، فهي المدينة الوحيدة التي يوجد بها مستوطنون ضمن شبكة من خمس بؤر استيطانية تتوزع في قلب المدينة، ويتصل بعضها ببعض بطرق أمنية تمزق جغرافيا المدينة وتشقّ وحدتها الاجتماعية.
اظهار أخبار متعلقة
وفي ضوء ذلك تم تقسيم المدينة جيوسياسيا إلى جزئين: "إتش1" و"إتش2" ضمن اتفاقية الخليل الموقّعة في سنة 1997، والتي بموجبها تخضع المنطقة الثانية للسيادة الإسرائيلية، علما بأنه "يعيش فيها أكثر من 40 ألف فلسطيني مقابل 700 مستوطن إسرائيلي، ما أسس لتحولات عميقة في البُنى الاجتماعية أُطلق عليها مسميات شعبية من قبيل "الخليل التحتا" أو "الحارة التحتا"، وهذه التسمية لها دلالات اجتماعية تحيل إلى الخطر والخوف والقلق، إذ تحولت هذه المنطقة خلال ربع القرن الماضي إلى حَرْبَة في الخاصرة الخليلية، فصارت "قاعا مدينيا موبوءاً" يسيطر عليه اللصوص والهاربون من العدالة والخارجون على القانون وتجار المخدرات والسلاح، كما أن إمدادات السلاح كلها لعشائر الخليل مصدرها تجار السلاح في تلك المنطقة، بحسب ما جاء في المقال.
وتمكن الاحتلال من استنهاض العشيرة في الخليل أكثر من غيرها من المدن الفلسطينية، مستغلا غياب أو ضعف الأطر الجامعة الأُخرى مثل الأحزاب والمؤسسات المدنية التي تستبدل روابط الدم بروابط سياسية واجتماعية وثقافية.
وساهم في ذلك بحسب مؤسسة الدراسات الفلسطينية التنافس بين الأحزاب العلمانية والدينية على استمالة العشائر، الأمر الذي عزز من مكانة العشيرة السياسية بشكل غير مسبوق بحيث صارت العشيرة قوة سياسية يُحسب لها في الخليل ألف حساب.
"وصول متأخر لكن مؤثر"
عندما كانت جنين ونابلس والقدس ومدن أُخرى تقدم نماذج للعمل المقاوم الفردي والجماعي، كانت الخليل تكتوي بنار ثاراتها الدموية، علاوة على أنها تعرضت لاعتداءات وإجراءات قاسية من طرف جيش الاحتلال والمستوطنين، مثل: قتل فلسطينيين من زوار الحرم الإبراهيمي؛ إحداث تغييرات في عمارة الحرم وبناء مصعد كهربائي فيه؛ وتسريب عقارات فلسطينية في قلب المدينة للمستوطنين.
وبينما ودعت في عام 2020 عاما كئيبا من الصراعات الداخلية والاعتداءات الإسرائيلية من دون ردّ، خرج على نحو مفاجئ وغير متوقع محمد كامل الجعبري، وهو معلم ورب أسرة في الثلاثينيات من عمره، والذي حمل سلاحه الشخصي تحت "عباءة سوداء" ونفّذ عمليته الفدائية في مستوطنة "كريات أربع" المتاخمة لمدينة الخليل حيث قتل مستوطنا معروفا بعدائه الشديد للخليل وجرح خمسة آخرين، بحسب
ووصفت مؤسسة الدراسات الفلسطينية عملية الجعبري بـ "الصفعة في وجه عشائرية غارقة في ثاراتها، فالفدائي أخفى سلاحه تحت العباءة في إشارة ذكية إلى مخاتير لا يجيدون قراءة ما وراء المشهد.. أراد محمد أن يقول إن العباءات التي تغطي السلاح العشائري يمكن أن تخبىء السلاح الثوري أيضا".
وأضافت أن "محمد الجعبري ليس مثلا فريدا في الخليل، فكثيرا ما كانت الخليل في ذاكرة الاستعمار بمثابة الأسد النائم الذي إن نهض أبدع في أساليب المقاومة، هكذا يقول التاريخ؛ ولعل واحدة من أهم مرتكزات السياسات الأمنية الإسرائيلية إزاء الخليل هو إبقاؤها نائمة. لكن في المقابل فإن ما يميز المقاومة في فلسطين هو صعوبة التنبؤ بانفجاراتها ومآلاتها، فمدينة الخليل التي يبدو أنها تغفو على جروحها القديمة، من الممكن أن تنهض من كبوتها وتلقي عن كاهلها عبء ثاراتها وتلتحق بركاب الثورة".
دلالات العمليات الحالية
أكد المختص في الشؤون الإسرائيلية عمر نصر الدين، أن عمليتي الخليل تأتيان ردا من الفصائل الفلسطينية على الاحتلال بأن سياسة التفرّد في بعض المناطق، والقيام بعمليات عسكرية فيها، لا يعني أن الفصائل تنتظر أن يفرغ الاحتلال من هذه المناطق لينتقل إلى أماكن أخرى، وهذا تكريس لفكرة أن الحالة الوطنية النضالية متكاملة، وإن اختلفت الأدوات والمقدرات وفق الظروف الأمنية.
وأضاف نصر الدين أن العملية تحمل رسالة مفادها أن مناطق الضفة لم تستسلم للواقع الأمني المفروض، بقدر ما كانت حالة الهدوء تشير إلى محاولات ترميم هادئة للتنظيمات المقاومة، والشاهد على ذلك قدرة الفصائل على الانتقال تدريجيا وبصورة منظمة إلى حالة فاعلة في مختلف مناطق الضفة، بحسب ما قال لموقع "قدس برس" المحلي.
اظهار أخبار متعلقة
بدوره، أشار الكاتب أحمد الطناني إلى أن عملية الخليل الأخيرة "مهمة جدا من حيث التوقيت والمكان، وهي تنقل كل الحسابات الأمنية الإسرائيلية في الضفة إلى طور جديد، كما تؤكد أن المزيد من الضغط العسكري والأمني لن يفضي إلا إلى المزيد من المقاومة"، بحسب ما أفاد به لذات الموقع.
وأوضح الطناني أن "الأشهر الأخيرة تكشف وجود تغيير نوعي في طريقة عمل المقاومة وتشكيلاتها في الضفة الغربية، خصوصا من حيث قوة التنظيم والصلابة الأمنية والتطور التكتيكي، حيث نجح عدد من العمليات بدون وجود إشارات ساخنة لدى الاحتلال حول نوايا تنفيذ عمليات في هذه المناطق".