في حين يعاني
المجتمع
المصري منذ عدة أعوام من أزمات متلاحقة في اختفاء الأدوية وارتفاع أسعارها التي زادت حدتها في الأيام الأخيرة؛ فقد أعلنت هيئة
الدواء المصرية عن استضافة
وفد شركة أمريكية كبرى لبحث الخطط المستقبلية لإجراء
التجارب السريرية في مصر. وقد
جاءت تلك الخطوة في توقيت غريب؛ وكأن هيئة الدواء المصرية تمارس أسلوب الانسحاب من
مسؤولية حل أزمة الدواء، التي تعد بمنزلة الدور الأساسي لها، وتركها والقفز إلى
الأمام، والمشاركة في مجالات أخرى ضمن منظومة مبادرات متعددة تهدف إلى الاستفادة من
عدد السكان الكبير في مصر، والتوجه نحو الاستثمار في البشر، مثل مشروع تجميع
وتصنيع بلازما الدم ومشتقاتها، ومبادرة تشغيل المصريين في الخارج، التي تبدأ بإنشاء
وتطوير المركز الوطني للهجرة؛ لدعم منظومة التشغيل من أجل التوظيف على المستوى
الوطني.
التجارب
السريرية الطبية مجال مهم جدا ولها مراحل وتحكمها محددات للتنفيذ:
تعد التجربة
السريرية بحسب منظمة
الصحة العالمية؛ هي أية دراسة بحثية تقوم مقدما بتوزيع
المشاركين أو المجموعات البشرية على تدخل أو أكثر من التدخلات المتعلقة بالصحة
لتقييم التأثيرات على النتائج الصحية، وبحسب المنظمة، فإن التجارب السريرية يجب
أن تبدأ على الحيوان أولا، ثم تمر بأربع مراحل لتطبق على الإنسان.
بداية المرحلة
الأولى: وفيها يتم اختبار الدواء على مجموعة صغيرة من المتطوعين لبضع عشرات من
الأشخاص؛ لتقييم أمان وسلامة العقار، تليها
المرحلة الثانية: وفيها يتم
اختبار الدواء على مجموعة أوسع لبضع مئات من الأشخاص؛ للتأكد من فاعلية الدواء، ثم
المرحلة
الثالثة: في هذه المرحلة يتم
اختيار ومراقبة مجموعة أكبر ونطاق أوسع يشمل بضعة آلاف من البشر، وقد تؤدي هذه
المرحلة في عدة مراكز مختلفة لإعطاء صورة توضيحية بشكل أفضل للمادة الدوائية،
وأخيرا تبدأ
المرحلة الرابعة: وتعرف عادة بمرحلة التسويق أو مرحلة التوعية
أو الرقابة الدوائية، وقد يسحب الدواء حتى ولو تم تسويقه في السوق، في حال تسجيل
حالات خطيرة من الأعراض الجانبية، أو الوفاة.
مصر الأولى عربيا وأفريقيا من حيث إجراء التجارب السريرية، ويرجع ذلك إلى انتشار الفقر بنسبة 34 في المئة، يعني حوالي 37 مليون مواطن مصر تحت خط الفقر وفي حالة من العوز، وليست لديهم القدرة المالية على تكاليف العلاج التي تستنزف أكثر من 10 في المئة من دخل الأسرة المصرية، مع القصور الشديد في خدمات الرعاية الصحية الحكومية.
ونظرا لأهمية
التجارب السريرية وحرصا على أمن وصحة وسلامة المتطوعين أو المبحوثين، فقد توافق
العالم على إصدار بيان هلسنكي عام 1964 ليشمل الضوابط والمعايير والقيم
الأخلاقية التي يجب أن تتم تلك التجارب والأبحاث في إطارها، مع مراعاة القوانين
والنظم في كل بلد حسب ظروفها.
ظلت التجارب
السريرية في مصر تجري على المرضى لسنوات، دون تشريع حقيقي ينظم عملها الخطير
والحساس؛ لأنه بالرغم من تشكيل لجنة "أخلاقيات البحث العلمي" في وزارة الصحة
عام 2005؛ وكانت هي الجهة الرسمية في الدولة المنوط بها الموافقة على إجراء
التجارب السريرية في مصر ومهمتها متابعتها، إلا أنها ظلت بعيدة عن النور، وبعضها
يُجرى في سرية وبشكل غير شرعي، على الرغم من أن دستور عام 2014 ينص في مادته الـ60
على أن "لجسد الإنسان حرمة، ولا يجوز إجراء أية تجربة طبية أو علمية عليه بغير
رضاه الحر الموثق، وفقا للأسس المستقرة في مجال العلوم الطبية على النحو الذي
ينظمه القانون".
وأخيرا، صدر
القانون رقم 214 لسنة 2020 تحت اسم "قانون تنظيم البحوث الطبية الإكلينيكية"،
والمعروف بقانون التجارب السريرية، ليصبح أول قانون ينظم عمل التجارب الإكلينيكية
بعد تركه لسنوات على الغارب. وتزامن
إصدار القانون المنظم لعمل التجارب السريرية مع تفشي فيروس كورونا، والحاجة إلى
مشاركة مصر في التجارب السريرية التي تجريها بعض الدول من أجل إيجاد لقاح للفيروس.
المخاوف
والمخاطر المترتبة على توسيع نطاق التجارب السريرية في مصر رغم إصدار القانون
المنظم لها:
نشرت
مجلة "نيتشر ميدل إيست" في آب/ أغسطس 2023 تقريرا أكدت فيه أن مصر الأولى عربيا وأفريقيا من حيث إجراء التجارب السريرية، ويرجع ذلك إلى انتشار الفقر بنسبة 34 في المئة، يعني حوالي 37 مليون مواطن مصر تحت خط الفقر وفي حالة من العوز، وليست لديهم القدرة المالية على تكاليف العلاج التي تستنزف أكثر من 10 في المئة من دخل الأسرة المصرية، مع القصور الشديد في خدمات
الرعاية الصحية الحكومية.
الإشكالية
الرئيسية في تطبيق قانون التجارب السريرية، تكمن في قضية مهمة نصت عليها اتفاقية
هلسنكي الدولية بخصوص "الموافقة المستنيرة" من كل فرد يخضع لتلك
التجارب والبحوث الإكلينيكية، خاصة مع ارتفاع نسب الجهل والأمية والفقر، ما يشكل
عائقا مهما أمام تطبيق هذا الشرط الضروري في مصر،
إضافة إلى أن مصر
في المرتبة 135 من أصل 140 دولة على مؤشر سيادة القانون
لعام 2022 الصادر عن منظمة مشروع العدالة العالمية، وذلك لتدني مستوى
مؤشرات القياس، وتشمل الرقابة، وغياب الفساد، والشفافية، وتوافر الحقوق
الأساسية، ودقة النظام والأمن والعدالة المدنية والعدالة الجنائية، وهذا يثير
القلق الواقعي نحو ضياع حقوق المتطوعين الصحية والقانونية.
وعلى اعتبار أن
كلا من القانون ولائحته التنفيذية يمثلان خطوات جيدة في اتجاه الحفاظ على حقوق
الخاضعين للتجارب، فإن المأخذ الأساسي عليهما هو غياب تمثيل منظمات المجتمع المدني، مثل نقابتي الأطباء والصيادلة والجمعيات العاملة في مجال الحق في الصحة وروابط
المرضى وغيرها من المعنيين عن الإطار التنفيذي والرقابي في القانون واللائحة، وغيابهم عن تشكيل المجلس الأعلى لمراجعة أخلاقيات
البحوث الطبية الإكلينيكية.
ومن ناحية أخرى، وحسب "إعلان هلسنكي"، فإنه يجب أن تكون صحة
الشخص الخاضع للتجربة بعد الانتهاء من الدراسة جزءا من التقييم الأخلاقي الشامل،
بما في ذلك ضمان حصوله على أفضل رعاية في أثناء وبعد إجراء التجارب السريرية، وهذا
يعني بالضرورة أن يكون المتطوع أو المبحوث ينعم بمظلة تأمين صحي وهذا غير متاح في مصر
حاليا؛ حيث إن مظلة التأمين الصحي الحالي تشمل نسبة 59 في المئة فقط من المصريين، إضافة
إلى وجود قصور واضح في نسبة التغطية بالتأمين الصحي الشامل الجديد، الذي ما زال
متعثرا في مرحلته الأولى وبنسبة تغطية 5 في المئة فقط من السكان.
ومن ثم فإنه من
الواجب عدم توسيع دائرة التجارب السريرية في الوقت الراهن، والالتزام بمراعاة
تطبيقها على المبحوثين المتمتعين بمظلة تأمين صحي شامل حقيقية، تضمن لهم الأمن والسلامة.
من الواجب عدم توسيع دائرة التجارب السريرية في الوقت الراهن، والالتزام بمراعاة تطبيقها على المبحوثين المتمتعين بمظلة تأمين صحي شامل حقيقية، تضمن لهم الأمن والسلامة.
التضارب الموجود بين توسيع دائرة التجارب السريرية وقانون تأجير المستشفيات للمستثمرين:
جاءت مبادرة
هيئة الدواء المصرية في إطار متفرد، وفي توقيت غير مناسب للتنفيذ في المستشفيات؛ نظرا
لبدء تنفيذ "قانون تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل
وتطوير المنشآت الطبية في مصر"، والمعروف إعلاميا بأنه "قانون تأجير
المستشفيات"؛ بما يعني خصخصة الصحة، ومن ثم فلن يكون هناك سلطة مباشرة
لهيئة الدواء المصرية أو لغيرها من الجهات الحكومية، على تغيير نظام العمل الطبي الخاص
وفرض بروتوكولات مخالفة عليه، إضافة إلى تكاليف الإقامة والرعاية للمتطوعين أو
المبحوثين، خاصة أن القانون لا يُحدد نسبة من الأسرة للصحة أو للعلاج على نفقة الدولة
وغيرها، مما يعني صعوبات بالغة في التنفيذ، ومخاطر محتملة نحو صحة المواطنين بما
يفوق سلطات ومهام هيئة الدواء المصرية.
وهنا تجدر الإشارة
إلى أنه من واجب هيئة الدواء المصرية، التركيز على القيام بدورها الأساسي في توفير
الدواء وضبط أسعاره بصورة عادلة ومتساوية ومتاحة لجميع المصريين وبصورة عاجلة؛ حرصا على صحة المواطنين وسلامتهم.