خاطب زعيم إحدى الميليشيات، والذي يتزعم، في الوقت نفسه، حزبا مشاركا في مجلس النواب وفي الحكومة، رئيس مجلس الوزراء، بالقول إن توافق القوى السياسية هو الذي جاء به لأداء مهمات محددة متفق عليها، وأن ليس من صلاحيته أن يتدخل في مواضيع أخرى، وإلا جلب لنفسه المشاكل، ونصحه أن «يغلس» عنها، كما فعل من سبقه عن موضوع استهداف القوات الأمريكية في
العراق!
والزعيم الميليشياوي نفسه، ومن على قناة العراقية الرسمية، يصف الرؤية الشيعية التي تأتي برئيس مجلس الوزراء بالقول إن عليه «التمييز بين قرارات الدولة وقرارات الحكومة» وأنه ليس من صلاحيته احتكار قرارات الدولة، بل عليه أن يرجع إلى القوى السياسية في كل قراراته السياسية والاقتصادية والأمنية، وإن دور رئيس مجلس الوزراء أقرب إلى دور «المدير العام» وهو تنظيم عمل الحكومة!
مرت صناعة رئيس مجلس الوزراء في العراق بأكثر من دور، بدأ الأمر مع سلطة الائتلاف المؤقتة التي صنعت أياد علاوي رئيسا للحكومة المؤقتة المشكلة بنهاية حزيران 2004 ليتسلم السلطة شكليا من الأمريكيين، وبذلك انتهت مرحلة الاحتلال لتبدأ مرحلة وصف الوجود الأمريكي بالـ«قوات متعددة الجنسية» التي تعمل في العراق بناء على طلب من الحكومة العراقية (قرار مجلس الأمن رقم 1546).
أما المرحلة الثانية فقد تشكلت بموجبها الحكومة الانتقالية برئاسة ابراهيم الجعفري (2005 ـ 2006) ثم حكومة نوري المالكي الأولى (2006 ـ 2010). وقد جاء الرجلان عبر انتخابات داخلية ضمن التحالف الشيعي (الائتلاف العراقي الموحد) لكن ابراهيم الجعفري (فاز بالترشيح للمرة الثانية) فشل في أن يصل إلى موقع رئيس مجلس الوزراء بسبب الاعتراضات الأمريكية بالدرجة الأولى، والاعتراضات السنية والكردية بالدرجة الثانية، ليحسم المرجع الأعلى السيد علي السيستاني الأمر بارغام الجعفري على التخلي عن تشبثه بالمنصب.
بعد انتخابات مجلس النواب عام 2010 بدأت مرحلة مختلفة ودور آخر مرسوم لرئيس مجلس الوزراء؛ حيث دخلت إيران كقوة رئيسية في صناعة رئيس مجلس الوزراء، خاصة بعد الانقسام الشيعي الشيعي الذي شهدته تلك
الانتخابات، فتدخلها كان حاسما في وصول المالكي إلى الولاية الثانية، بعد أن تمكنت من «إقناع» السيد مقتدى الصدر بقبول هذا الأمر بعد رفض استمر لأكثر من ستة أشهر.
حدث تحول مهم بعد انتخابات العام 2014، وخاصة في الآلية التي تحكم اختيار رئيس مجلس الوزراء، فرغم حصول نوري المالكي/ دولة القانون على الأغلبية في تلك الانتخابات، وتمكنه من إقناع قوى سنية رئيسية من دعمه لولاية ثالثة، لكن تدخل المرجع الأعلى السيد علي السيستاني عطل إمكانية ذلك، لهذا كنا، للمرة الأولى، أمام رئيس مجلس وزراء لا يمتلك قوى برلمانية حقيقية تقف خلفه، فالدكتور حيدر العبادي الذي رشح لمنصب رئيس مجلس الوزراء انشق عن حزب الدعوة، ولم يكن يملك عمليا سوى بضعة نواب منشقين من حزب الدعوة، وهو ما أضعف موقع رئيس مجلس الوزراء لصالح القوى السياسية المهيمنة على مجلس النواب.
في العراق لا الدستور، ولا القانون، ولا الأعراف، ولا المنطق، ولا الأخلاق، هو ما يحكم الدولة، بل علاقات القوة التي لا ترتبط بالضرورة بالقوة الذاتية للقوى السياسية
تكرس هذا الأمر بعد انتخابات عام 2018، بعد اتفاق الصدريين مع تحالف البناء على ترشيح عادل عبد المهدي، وقد كان قياديا في المجلس الاسلامي الأعلى، قبل أن ينشق السيد عمار الحكيم عنه منتصف عام 2017، حيث نأى عبد المهدي عن المنشقين والمنشقين عنهم، خاصة وأنه كان قد استقال من منصب وزير النفط الذي تولاه ممثلا للمجلس الأعلى عام 2016. فهذا الاتفاق (الذي تواطأ معه الجميع بمن فيهم المحكمة الاتحادية العليا نفسها التي كانت طرفا فيه) أطاح بالدستور الذي ينص على ترشيح رئيس مجلس وزراء من «الكتلة الأكثر عددا» فتم الترشيح هذه المرة من دون تحديدها من الأصل. وبذلك تكرست فكرة أن رئيس مجلس الوزراء هو فعلا مجرد «مدير عام» تعينه القوى السياسية الشيعية لرعاية مصالحها!
وقد تكرر السيناريو نفسه بعد اضطرار عادل عبد المهدي للاستقالة بسبب احتجاجات تشرين الأول عام 2019؛ حيث اتفقت القوى السياسية الشيعية مرة أخرى على تسمية شخصية لا تنتمي إلى أي من الأحزاب المهيمنة على مجلس النواب، أو الميليشيات المسلحة التي تحولت عمليا إلى دولة موازية عسكريا وسياسيا، وكانت هذه الشخصية هي السيد مصطفى الكاظمي الذي وصل إلى موقع رئيس مجلس الوزراء، وهو لا يملك قوة تأثير حقيقية داخل مجلس النواب أو في مؤسسات الدولة التابعة فعليا للأحزاب.
وقد كان السيد الكاظمي مدركا لدور رئيس مجلس الوزراء المتمثل في مقولة «المدير العام» لكنه فشل في الالتزام بها حين حاول أن يوقف هيمنة الدولة الموازية، لكنه سرعان ما اكتشف أن الأمر ليس مقبولا لدى الأطراف المتنفذة التي سعت الى ترشيحه، فاضطر الرجل للرضوخ على مضض!
بعد انتخابات عام 2021 المبكرة، وخطيئة التيار الصدري بالانسحاب من مجلس النواب، تمكن الإطار التنسيقي من الدفع بالسيد محمد شياع السوداني بالآلية نفسها التي جاء بها عبد المهدي والكاظمي؛ فالرجل لم يكن يملك لحظة ترشيحه سوى عضو مجلس نواب واحد ينتمي إلى حزبه «تيار الفراتين» وبالتأكيد لن تقبل القوى السياسية الشيعية المنضوية تحت «الإطار التنسيقي» ولا مسلحيها بأن يقفز السيد السوداني على مقولة «المدير العام» أو يسعى لاستخدام سلطاته لتشكيل تحالف سياسي ينافسهم في الانتخابات القادمة. لاسيما أن السياسة في العراق لا تعترف بالأخلاق، وسيلجأ الكثير من النواب والسياسيين إلى الانشقاق عن دكاكينهم السياسية والصعود في «باص» السيد السوداني حتى يتمكنوا من استخدام موارد السلطة لرشوة الجمهور الانتخابي، وبالتالي الفوز في الانتخابات القادمة نهاية عام 2025. وهذه المعادلة إن نجحت ستكون استنساخا لتجربة الدكتور حيدر العبادي لعام 2018، لكنها لن تنجح في إيصاله إلى ولاية ثانية.
في العراق لا الدستور، ولا القانون، ولا الأعراف، ولا المنطق، ولا الأخلاق، هو ما يحكم الدولة، بل علاقات القوة التي لا ترتبط بالضرورة بالقوة الذاتية للقوى السياسية، أو حتى للميليشيات، بل تمتد لتتداخل مع سلطات الدولة ومؤسساتها نفسها، بما فيها العسكرية والأمنية، كما تتداخل مع التغول الإيراني. وهذه القوى ليست مستعدة لإعادة تجربة نوري المالكي مرة ثانية، أي السماح لرئيس الوزراء ببناء سلطته الخاصة داخل سلطات الدولة وأجهزتها، بما يتيح له احتكار السلطة بعيدا عن الفاعلين السياسيين الشيعة الآخرين. لأن ثمة قرارا «شيعيا» بأن يقطع الطريق أمام تمكين أي رئيس وزراء من الولاية الثانية.