من وحي
تصورات أستاذنا الدكتور حامد عبد الله ربيع كان هذا المقال. إن القتال المعنوي ما هو
إلا صورة من صور القتال النفسي ولكنه أكثر اتساعا في دلالته من
الحرب النفسية، إذ يضم
فضلا عنها "التسميم السياسي" الذي يعني إعادة تشكيل
القيم التي يؤمن بها
العدو أو التلاعب بمواقفه الفكرية. وإذا كانت الحرب النفسية تفترض
الصراع بقصد تحطيم
الخصم، فالقتال المعنوي هو حركة الصراع، وهو بهذا المعنى قتال لكنه صراع فكري يدور
حول المفاهيم والأفكار، ومن ثم فإنه قد يتخذ صورة الحرب النفسية فتغدو عملية يُقصد
بها تحطيم الخصم وذلك عن طريق تحطيم معنوياته بوصفها نتيجة للقضاء على التماسك الفكري
لقيمه ومعتقداته.
ولكن القتال
المعنوي أكثر اتساعا من الحرب النفسية؛ إذ قد يأخذ صورة القتال من خلال الفكري
والجماعي بقصد إكراه الطرف الآخر على الاستسلام لمفاهيم وقيم معينه فرضها عليه الطرف
الغازي، إنه سعي نحو الاستحواذ المباشر أو غير المباشر ويأخذ واحدة من صور ثلاث: صراع
الأفكار والمفاهيم والقيم، وخلق التجاذب والارتباط، وتحطيم الثقة. الأول يمثله الصراع
الفكري مع العدو، والثاني يختلط بمفهوم الدعوة وإن استقل عنها ضمن النظام العقائدي،
والثالث أكثر اقترابا من الحرب النفسية.
عملية التسميم السياسي، بهذا المعنى، مرحلة من مراحل المعركة مع الخصم أو مقدمة لمعركة قادمة، وهي تستهدف تبديل القيم أو التحلل من قيم معينة بشكل تدريجي وغير مباشر. والأخطر من كل هذا أن التسميم لا يمارسه العدو مباشرة، وإنما يتم استعمال نخب فكرية وثقافية وفئات مختارة
وهنالك
دائرة تتقابل بها الحرب النفسية وغسل الدماغ والتسميم السياسي، رغم أن كلا منهما له
ميدانه المستقل، وبعبارة أخرى أن القتال المعنوي بغض النظر عن تطبيقاته يسعى إلى إجراء
عملية تغيير في حقيقة الهيكل النفسي المرتبط بالذات موضوع الهجوم والغزو الفكري، حيث
إن القتال المعنوي لا يمكن أن ينجح إلا حيث يستطيع أن يجري عملية تغيير كلية أو جزئية
في علاقة التصاعد التي تربط بين مختلف نظام القيم المستتر خلف الوجود الذاتي.
إن ظاهرة
القتال المعنوي تضم على قمتها ما يمكن تسميته بالتسميم السياسي (intoxication)؛ ففي علم الاتصال السياسي هناك ظاهرة مهمة هي
"التسميم السياسي" كتب عنها العالم الراحل حامد ربيع وغيره من علماء السياسة
العرب، وهي تشير إلى محاولة زرع أفكار معينة أو قيم دخيلة من خلال الكذب والخديعة،
ثم العمل على تضخيم هذه القيم تدريجيا لتصبح قيم عليا في المجتمع المستهدف.
وعملية
التسميم السياسي، بهذا المعنى، مرحلة من مراحل المعركة مع الخصم أو مقدمة لمعركة قادمة،
وهي تستهدف تبديل القيم أو التحلل من قيم معينة بشكل تدريجي وغير مباشر. والأخطر من
كل هذا أن التسميم لا يمارسه العدو مباشرة، وإنما يتم استعمال نخب فكرية وثقافية وفئات
مختارة لتُنقل لها -في مرحلة أولى- الأفكار الدخيلة، ثم تُترك هذه النخب والفئات -في
مرحلة ثانية- لتنقل تلك الأفكار إلى الجماهير من خلال أدوات الدعاية والإعلام المختلفة.
وهو أكثر المفاهيم حداثة، ويعود تأصيله ويكثر استخدامه في الفقه السياسي الفرنسي، ويعني
عملية التلاعب بالتكوين المعنوي الذي يمثل قمة التوجيه والمثالية السياسية والمعنوية
للخصم شعبا وأمة، إنه نوع من عملية غسل الدماغ ولكن على المستوى الجماعي. ويشتمل التسميم
السياسي على عمليتين أساسيتين هما:
أولا: زرع قيم
دخيلة في نظام القيم السائدة في المجتمع السياسي ثم تضخم تلك القيم تدريجيا لترتفع
إلى مستوى القيمة العليا، بما يعنيه ذلك من إضعاف لتلك القيم العليا وإحالتها إلى مستوى
القيم الفرعية التابعة والثانوية، فإحلال القيم المادية والاستهلاكية لتكون قيمة عليا
بدلا من القيم الأساسية العليا في المجتمع أنموذجا لذلك. كما أن الإخلال بالثوابت الأساسية
لأي شعب وأمة تجاه قضية معينة صورة أخرى لهذا التلاعب القيمي، فاحتلال أرض شعب يتطلب
موقفا واحدا لا يقبل اللبس، وهو تحرير الأرض وإزالة
الاحتلال، ويستند في ذلك إلى مبادئ
مطلقة وقيم ثابته وشرعية تتأسس على قيم العدالة وقدسية الأرض والمقاومة.. الخ، وهي
مبادئ وقيم لا تقبل المساومة والتنازل.
تبدأ هنا عملية التسميم السياسي عبر زرع قيم جديدة لدى طبقات في المجتمع المحكوم، الطبقة المثقفة والنخبة السياسية نزولا إلى عامة الشعب، تدور حول ضرورة الاعتراف بالآخر المحتل وقبول التعايش معه في ظل منطق العصر ومزايا السلام والتنمية بعيدا عن مآسي الحرب التي لن تقدم حلا للمشكلة، وفي مرحلة تالية يتم تضخيم هذه القيم عبر أدوات الاتصال والتعليم والتنشئة لتتصاعد هذه القيم الجديدة شيئا فشيئا إلى قمة السلم الهرمي للقيم
وتبدأ
هنا عملية التسميم السياسي عبر زرع قيم جديدة لدى طبقات في المجتمع المحكوم، الطبقة
المثقفة والنخبة السياسية نزولا إلى عامة الشعب، تدور حول ضرورة الاعتراف بالآخر المحتل
وقبول التعايش معه في ظل منطق العصر ومزايا السلام والتنمية بعيدا عن مآسي الحرب التي
لن تقدم حلا للمشكلة، وفي مرحلة تالية يتم تضخيم هذه القيم عبر أدوات الاتصال والتعليم
والتنشئة لتتصاعد هذه القيم الجديدة شيئا فشيئا إلى قمة السلم الهرمي للقيم، وعندئذ
تحدث عملية إحلال شعورية أو لا شعورية، فإذا بها تحل محل القيم والثوابت القديمة كمحدد
للموقف وإطار متحكم بالسياسات والممارسات المختلفة، وما جرى للقضية الفلسطينية أنموذج
لذلك.
ثانيا: زرع أفكار
معينة من خلال الخديعة والكذب، بحيث تؤدي إلى تصور معين لموقف ما يختلف عن حقيقته بما
يترتب عليه عند اكتشاف تلك الحقيقة نوع من الصدمة النفسية، الأمر الذي يؤدي إلى شلل
نفسي وبالتالي عدم القدرة على المواجهة لما توجده من تمزيق في الشخصية. والتسميم السياسي
بهذا المعنى قد يكون مقدمة لمعركة أو قد يكون لاحقا لها، يقدم بحيث يسمح بتحقيق النصر
المعنوي بأقل تكلفة؛ ولاحقا لها بحيث يكمل الانتصار بالقضاء المطلق على الخصم كوجود
ذاتي لا يزال يناضل في سبيل التمسك ببقائه الحضاري. وتتم ممارسة هذه العملية في إطار
التسميم السياسي عبر آليتين متكاملين هما:
(1) أداة
التضليل و"الخديعة" الذي تقوم على التوظيف المخالف للواقع
والمسيء للقيم السياسية والدينية.
(2)
أداة الترويض التي تجعل تلك القيم والمواقف الجديدة ليست مستغربة وإنما
هي مطلوبة ومتسقة مع الإطار والنظم القائمة، بصرف النظر عن طبيعتها الواقعية، وتتم
من خلال ثلاث مراحل:
أ- التعامل مع أدوات حمل العدوى الفكرية في مجتمع الخصم
ممن لا يتجاوب مع مجتمعه القومي ليكون أداة في تحقيق أهداف التسميم السياسي، ثم تأتي
عمليات التخريب وقتل القادة واختلاق الخيانات لتكتمل وتساند العملية الأولى بهدف خلق
الدم الثقة في الذات القومية.
ب- تطويع الطبقات المختارة (النخبة) والمثقفة التي تمثل
عناصر المقاومة في الجسد السياسي وإضعافها.
ج- الإغراق الجماهيري، أي بمعنى الصراع المباشر على المستوى
الجماهيري، حيث يوسع نطاق القيم المزروعة من قبل القائم بعملية التسميم السياسي، ولتبدأ
القيم التقليدية القومية بالانحسار لتحل محلها مرتفعة إلى مستوى القيم الأساسية.
لا شك
أن هناك حربا إعلامية تتوازى مع الصراع العسكري على فلسطين، فصورة الذات والتاريخ التي
تحاول إسرائيل ترويجها لخلق رأي عام متعاطف، تقابلها صورة حقيقية تنقلها وسائل الإعلام
لزيف ادعاءات الديمقراطية والشرعية الصهيونية المزعومة. من جانبها تسعى إسرائيل لتطبيع العقل العربي مع وجودها
الاستيطاني، وإعادة تطويع الشخصية الوطنية والقومية والإسلامية، عبر تغيير الطابع القومي
وغسيل المخ الجماعي.
ويذكر
الدكتور حامد ربيع في نظريته عن "التسميم السياسي" أن من أهم جوانب الوظيفة
الاتصالية للدولة العبرية ما يسمى بإعادة تشكيل أو تطويع الطابع القومي للشعوب العربية،
وإزالة الفروق والحدود لتصبح جزءا من شرق أوسط كبير أو صغير، وفي الوقت ذاته تؤكد في
مشروعها السياسي على يهودية الدولة، وترفض حتى أطروحات مواطنة متساوية وصوت واحد لكل
مواطن دون تمييز.
إذا كان التسميم السياسي الإسرائيلي والأمريكي قد نجح في طبقات الحكام وقطاعات من النخبة المثقفة، فلا بد أن يوجد من يبرهن على أن الأمة العربية والإسلامية عصية على التطويع، وأن من يراهنون على اختفائها حضاريا سيفشلون
فالدعاية للطابع القومي اليهودي تسير
في أكثر من اتجاه يعكس طبيعة التصور الحاكم والقيادة السياسية للنموذج الصهيوني الذي
يسير عليه المجتمع الإسرائيلي، وهو نموذج يتصف بالعنف والسلوك الاستفزازي والصفات القيادية
والتعصب، والإيمان بوظيفة تاريخية.
وما نشاهده
هذه الأيام في ممارسات السياسة الخارجية للكيان الصهيوني يؤكد ذلك؛ وكذا فإن ذلك غدا
معلنا بوضوح من قبل الإدارة الأمريكية الحالية في تعاملها مع المنطقة في السنوات الثلاث
الأخيرة على الأقل، وإن كان يتم في أجزاء كثيرة من العالم العربي والإسلامي دون ضجة
أو إعلان منذ قرابة ربع قرن على الأقل.
والخطاب
السياسي للقيادة الأمريكية هو خطاب يؤكد الحاجة إلى تغيير البناء الثقافي والحضاري
والعقدي للأمة، وإعادة رسم خرائط المنطقة، وهو ليس بمستغرب على عقلية استيطانية أمريكية
تدعم مشروعا استيطانيا صهيونيا لأسباب عقدية وأيضا اقتصادية. وإذا كان التسميم السياسي
الإسرائيلي والأمريكي قد نجح في طبقات الحكام وقطاعات من النخبة المثقفة، فلا بد أن
يوجد من يبرهن على أن الأمة العربية والإسلامية عصية على التطويع، وأن من يراهنون على
اختفائها حضاريا سيفشلون؛ بل سيكون عدوانهم محدثا رجفة ويقظة في الجسد الذي استرخى وقد
تكاثرت عليه الطعان، وأن في قيادات الأمة الثقافية والفكرية جنودا في كتيبة جيش التحرير
الفكري يقومون بواجبهم في صد غارات العدو الصهيوني ويمارسون وظيفتهم الكفاحية في مواجهة
الكيان الغاصب، ومن أجل تماسك الأمة في هذه المواجهة والريادة العلمائية فيها.. والحديث موصول.
x.com/Saif_abdelfatah