مدونات

صانعو الشهد

محمد فهيم
"لا يغرنك أنك مريض وتعرف أنت أنه لا غير الموت يخلصك من ألم المرض وعتمة السجن"- الأناضول
"لا يغرنك أنك مريض وتعرف أنت أنه لا غير الموت يخلصك من ألم المرض وعتمة السجن"- الأناضول
لم ينم ليلته من فرط السعادة، ويبدو أن جفونه استعادت شبابها حينما كان يافعا يحرس حدود كتيبته في نوبة "البرنجي" و"الكنجي" و"الشنجي"، وتلك الأخيرة التي كان يقايض بها أقرانه، ليظل فيها وحيدا مستمتعا بأجواء ملائكية في الثلث الأخير من الليل.

جاءه صوت من بعيد: إنه الصول فاضل، بمفاتحه التي تنوء بها العصبة من العساكر، والتي يحملها على كتفه وتطوق ذراعه الأيمن، يفتح الأقفال المغلقة وينثر الأمل الذي سيأتي بعد قليل.

الصول فاضل: اجهز يا نمرة أنت وهو، سيادة المأمور في انتظاركم.

انتفض مصطفى واقفا، حاملا بين يديه أشعة وتحاليل وروشتات مستشفى السجن مدة 15 عاما، قضاها في مرض يذهب ليزرع مكانه آخر أشد قسوة وفتكا، ولا تهون آلامه سوى بعض الوصفات التي برع فيها وتعلمها عن أبيه وجده "النحال".

فتح الصول فاضل، زنزانة مصطفى، ونظر في وجهه قائلا: ربنا معاك يا دكتور ولا تنسانا من وصفاتك بعد أن تخرج.

استبشر مصطفى، وتهللت أساريره وراح يحلم بلحظة مغادرته ليمان طرة، إلى قريته حيث منحل العسل الذي تربى فيه بين أهازيج النحل وأناشيده، وطنين فرقه الموسيقية وجمال أسرابه وروعة ألوان أجنحته، ولذيذ عسله وشهد إنتاجه.

خرج مصطفى إلى ساحة السجن حيث يقف المأمور، يلمع نسران و6 دبائر وكاب فوق كتفيه ورأسه، فتعكس جميعها أشعة شمس تموز/ يوليو الحارقة في الوجوه، فتهوي العيون إلى الأرض ذليلة منكسرة، يزيد انكسارها ما يلمع من رتب حوله لضباط ومساعدين، وما استجد عليهم اليوم من أصحاب الملابس البيضاء من أطباء وزارة الداخلية، التي أتت لفحص حالات المسجونين الذين يتوجب لهم الإفراج الصحي.

لحظات وتجمع عشرات المسجونين، وجميعهم يحمل من الأوراق ما يثبت أنه عليل على شفا الموت، هنا تراجعت آمال مصطفى، وظن أن الأمر سيكون لمن يدفع أو يملك واسطة من الجنائيين، وتجار المخدرات، والحرامية، وناهبي المال العام، وأصحاب أصحاب السلطة.

تقهقر بعض الشيء، ولعبت برأسه الظنون، وأقنعه شيطانه بأنه "لا أمل لك، فأنت سجين سياسي سجنك حاكم ظالم، ولا يغرنك أنك مريض، ولا يغرنك أنك طبيب، وتعرف أنت أنه لا غير الموت يخلصك من ألم المرض وعتمة السجن، وذل البعد عن زوجة تركتها بعد أسابيع من زفافها، وحضن أب وأم ماتا دون أن تواريهما التراب بيديك، وتستقبل فيهما عزاء الأحباب".

يبدو أن شيطاني كان محقا، قال لنفسه مصطفى، بعدما رأى أنه في لحظات تبدل المشهد المرتب، وساد الهرج والمرج حتى خرجت العصي وحاصر الجمع زبانية السجن، يلهبون ظهر من يخرج عن الطابور، وصاح المأمور، قائلا: "أُلغي الأمر، أعيدوهم جميعا إلى الزنازين".

لكن تدخل الضابط الطبيب الذي لا نعرف رتبته، التي لن تكون أقل من عقيد أو مقدم، مخاطبا المأمور: "سيادتك هم سينضبطون ويلتزمون الصمت، واسمح لنا باستكمال المهمة".

حصل الضابط الطبيب على موافقة المأمور، وسط فرحة صامتة، وبدأ العمل، وانهمك ولجنته في جمع وقراءة الأوراق، والكل منتظر دون حراك يُلفت أو نفس يُسمع، حتى راح الضابط الطبيب يعيد أوراق المساجين ويلقيها أرضا، ويقف فجأة قائلا: "كلكم مدعون، كلكم كاذبون، كلكم لا تستحقون عناء قراءة أوراقكم، ولا تستحقون الإفراج الصحي".

هنا، قررت العودة إلى زنزانتي دون أي محاولة للحديث أو لفت الانتباه بأن أوراقي ما زالت بيدي ولم أسلمها كغيري، بل وأكلها سيل العرق المنهمر من شدة الحر، ومن هول الموقف، وفقدان الأمل مع كثرة مدعي المرض وفي عدل اللجنة، ومع بطش مأمور مغرور، يظن نفسه ظل الحاكم بما أقطعه من عساكر وسياط وأساور داخل تلك الأسوار.

في هدوء انسحبتُ، وفي هدوء غادرت، وفي هدوء تمالكت جسدي قبل السقوط أرضا، وبينما أقترب من مغادرة ساحة السجن، استوقفني المأمور، الذي ظن بي سوءا، وأمر بإحضاري مع التأديب، فتجمع جمع من الزبانية حولي، والتقطوني كما التقط زبانية فرعون جسد موسى الصغير من اليم، وطرحوني أرضا فضربا وركلا لا يتوقف، منتظرا أمر التوقف الذي لم يأت حتى غبت عن الوعي.

وبين نفس يدخل بصعوبة وآخر يخرج ويكاد ينزع عني روحي، وسيل دماء تنزف وتكاد تملأ نهرا جف، وآلام تتفجر من هول شدتها الصخور، تذكرت أيام التعذيب الأولى وأيادي الزبانية الأقدمين.

أفقت على وجه الضابط الطبيب الذي راح يسألني معنِّفا: لماذا غادرت ولم تسلم أوراقك؟

ذرفت عيناي موجة دموع دافقة، مسحتها بكمي بدلتي الزرقاء التي لم تفارق جسدي منذ أعوام، وستظل صاحبتي التي تمسح عن دموعي مدة 10 أعوام أخرى، فأنا أضمن لها أن تظل بحالتها لا تبلى، أو تتمزق وفي القمامة تلقى، أو تفتك بها قوارض السجن، أو حتى يعلق بها تراب الزنزانة، فلعلها تكون ردائي للنهاية، أو حتى كفني إلى الآخرة.

على وقع دموعي، تغير وجه الضابط الطبيب، وبدت منه قسمات طيبة شعرت بها تنساب من قلبه، وقال لي هذه المرة بلطف: ما هي مشكلتك؟

أعطيته الأوراق المبللة، فالتقطها وراح يقرؤها بعناية رغم ما أصابها من عطب، وينظر تارة إلى جسدي المتضائل، وثانية إلى وجهي الشاحب، وثالثة داخل عينيّ اللتين أكلهما ظلام الزنزانة، ولم يعد يمكنهما الصمود حتى أمام شعاع شمس ضعيف هارب من غيوم وسحب شتاء ريف مصر في كانون الثاني/ يناير.

سألني: ما مهنتك؟

قلت: عملي طبيب، ومهنتي صانع الشهد، فقد ورثت عن أبي وجدي منحلا للعسل في إحدى قرى محافظة الشرقية، وتعلمت في "قصر العيني" كيف أداوي جراح القلوب، وأنثر فيها الأمل، وأعيد ضخ الدم النقي في شرايين الجسد.

تابع حديثه اللين، وكاد يفتك به الفضول": وما تهمتك؟

قلت: سياسي.

صمت برهة، وتبدل الوجه الذي كان عليه، رويدا رويدا، وقال في حدة مصطنعة: فلماذا إذا لم تعرض أوراقك وتركت الصفوف؟

قلت: فقدت الأمل في لجنتكم مع كثرة عارضي أمراضهم؟

عاد إلى لطفه المفقود وقال: لكنك من بين كل من طالعت أوراقهم، تستحق الإفراج الصحي، وستكون أول من يحصل على توقيعي؟

سقط لساني عن فمي، وقادت عني دموعي حملة الرد والجواب.

                                              * * *

لم تنم ليلتها، لكنها غفت قليلا بعدما أعياها الفكر وأعجزها النظر إلى السماء وعد النجوم عن البقاء مستيقظة، حتى علا صوت ديك الجيران، وانطلق آذان الفجر من مأذنة مسجد الشيخ متولي الشربيني، فاستيقظ زوجها مصطفى، الطبيب صانع الشهد السبعيني المريض، فوجدها جاثية على ركبتيها ورأسها متدلية تكاد تسقط كثمرة عجز عودها عن حملها.

 رفع رأسها بكفه الأيمن، فأمطرت دموعها يده اليسرى. ربّت على كتفها وقبل رأسها وضمها قائلا: أم علي، لا تحزني سيرده الله إلينا، فإنا صناع الشهد، وإن لنا عنده أبوابا مفتوحة، ومن له عنده لن تضيع وديعته.

قالت: أشعر بالبرد رغم ما فوق جسدي من أغطية، وما في الغرفة من تكييف وأبواب وشبابيك محكمة، أعرف أنه برد الشوق إلى علي، فصدري وعيناي ويداي تشتاق لضمة دافئة ونظرة مشبعة ولمسة حانية، تبرد فؤادي وتشرح صدري وتهون عليّ فراق علي.

قال مصطفى: أهو قنوط أم تعجل؟ تعالي أذكرك كيف غادرت أنا دنياكي قبل 50 عاما بعد أيام من ليلة زفافنا، وظللت 15 عاما في محبس غاب عنه الأمل حتى جاءني الإفراج الصحي، وعدت إليك نبدأ من جديد.

وحُرمنا الإنجاب، حتى ظن كل من حولنا أننا أخذنا كامل رزقنا ولا رزق آخر لنا في السماء، حتى أتانا علي، فنوّر حياتنا وأدخل الفرحة بيتنا، وصار وريثا لأجداده في صناعة الشهد، وراح الكل يغبطنا كإبراهيم وسارة، وزكريا واليانصيب، وينادونه بإسحاق تارة ويحيى تارة أخرى، حتى خطفه الزبانية، كما خطفوا أباه.

طمأنها حديث مصطفى ونزل كحبات برد على قلبها، لكنها عادت للبكاء لتقول متلعثمة: أتذكر يوم أن كبر وصار يافعا وذهب دون رغبتي وبتشجيع منك مع أصحابه إلى الإسكندرية، فغدر البحر بالثلاثة وعاد هو لنا سالما، فرحنا به وكأنه ولد مرتين، وحلمنا أن يقوده تفوقه الدراسي لأن يكون طبيبا كأبيه وصانعا للشهد في مناحل العسل، يسقي المرضى ويسعد السلامي، كأجداده.

غفا الأب، وراحت الأم في نوم عميق بعد صلاة فجر وصبح ودعاء، جاءهما علي في المنام، يقول: أبي، أمي، من منكما بكى فأبكاني؟ انتظراني إما في دنيا أشجارها يانعة، وإما في جنة ظلالها وارفة، فإنا صانعو الشهد، كُتب علينا دفع الثمن لخلاص الوطن من الطغاة، وتطهير العرض من الفجرة، ورفعة الدين دون كارهيه.
التعليقات (0)