قال الكاتب البريطاني ورئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي" ديفيد هيرست إن صورة الفتاة ذات الأحد عشر ربيعا وهي تهيم على وجهها في أحد شوارع فيتنام عارية وقد غطت حروق النابالم جسدها اعتبرت صادمة جدا في عام 1963 لدرجة أنها فازت بجائزة بولتزر.
وأضاف هيرست في
مقال له "لقد غدت صورة رعب الحرب أيقونة الحرب الفيتنامية، ويوجد اليوم في
غزة وفي لبنان الكثير جدا من صور البشر المحروقين، والخيام المحروقة، والجثث المكدسة بعضها فوق بعض في شوارع مخيم
جباليا للاجئين، وأعداد غفيرة من الناجين المعفرين بالتراب وهم يخرجون من بين الأنقاض يحملون في أيديهم أجساد أطفالهم الصغار وقد أزهقت أرواحهم، ومع ذلك لا يعبأ أحد بنشر أي من هذه الصور".
وأوضح أن صور "رعب الحرب" الذي ترتكبه "
إسرائيل" في غزة أو في لبنان لا تشارك في جوائز بولتزر، ولا تجدها تستدر بيانات الإدانة أو الاشمئزاز من رؤساء الولايات المتحدة أو من رؤساء الوزراء البريطانيين.
وأضاف أن التصريح بأن إسرائيل تتعمد قتل الأطفال في غزة يعتبر بمثابة "هجو الدم" الذي يذكر الروائي البريطاني هوارد جيكبسون بالمذابح التي تعرض لها اليهود في إنجلترا في القرن الثالث عشر، والتي أشعلتها إشاعات بأنهم كانوا يأكلون بقايا الأطفال المسيحيين في الخبز الذي يعد لعيد الفصح.
اظهار أخبار متعلقة
وذكر أن "القوات الإسرائيلية تتعمد قتل النساء والأطفال في غزة وفي لبنان بينما يحث الرأي المحلي في إسرائيل الجنود على المضي قدما".
وأكد أنه لا توجد محرمات في النقاش داخل "إسرائيل" حول الحل النهائي لشمال غزة أو لجنوب لبنان، ولا يوجد حرج من استخدام كلمات مثل "
الإبادة".
وهذا ما يفعله أوزي رابي، أحد أكثر خبراء "إسرائيل" في قضايا الشرق الأوسط شعبية، ففي مقابلة تلفزيونية الشهر الماضي، قال كبير المحاضرين في قسم دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في جامعة تل أبيب: "كل من يبقى هناك (في شمال غزة) سوف يحكم عليه بالقانون باعتباره إرهابيا، وبناء على ذلك سوف يمر إما بعملية تجويع أو بعملية إبادة".
خطة الجنرالات
قال هيرست إن "المؤرخين في إسرائيل لا يدوسون على الفرامل حينما يجري الحديث عن الإبادة الجماعية، بل تجدهم يحرضون عليها".
قال رابي إنه ينبغي على "إسرائيل" ألا تحاول حل المشاكل في المنطقة بقفازات أطفال غربية، مضيفا أن أفعال "إسرائيل" سوف تكون مطعمة "بالتوابل الشرق أوسطية".
أما بيني موريس، الذي كان قبل وقت طويل واحدا من "المؤرخين الجدد" الذين كشفوا عن المجازر التي ارتكبتها "إسرائيل" في عام 1948، فيريد الآن ضرب إيران بالقنابل النووية.
وذكر أن الخطة التي يتناقش حولها المؤرخون هي تلك التي وضعها الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي غيورا إيلاند، الذي يقر بأن تكتيكات إسرائيل في غزة قد أخفقت. ويلاحظ أنه في كل مرة يقومون فيها بتطهير المنطقة من مقاتلي حماس وينسحبون، تعود حماس وتظهر من جديد، إلا أن إيلاند ليس حمامة سلام.
وأضاف هيرست أن الحل الذي يطرحه (إيلاند) هو عدم التفاوض، بل إجبار سكان شمال غزة الأربعمائة ألف على الرحيل من خلال تخييرهم بين البقاء على قيد الحياة أو الموت، وذلك باعتبار أن هذا "هو السبيل الوحيد لتحقيق أهداف إسرائيل من الحرب".
وأكد أن "هذه الخطة لقيت دعما واسع النطاق داخل الجيش، وداخل الكنيست، وفي وسائل الإعلام، يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنه يعكف على دراستها".
وأشار إلى "خطة إيلاند ليست تفكيرا قليل القيمة. كان نتنياهو في ديسمبر الماضي قد كلف كبير مساعديه رون ديرمر بالبحث عن السبل الكفيلة بتخفيف الكثافة السكانية في غزة".
ويعتقد كثيرون اليوم بأن الجيش يقوم فعليا بتنفيذ أجزاء من الخطة. فقد أصدر الجيش أوامر إخلاء ورد ذكرها في الخطة باعتبارها المرحلة الأولى.
ومفتاح إجراءات الحصار في خطة إيلاند، محور نتساريم الذي يقسم القطاع جنوب مدينة غزة، تم إنشاؤه وتزويده بحامية خاصة به.
أثناء القيام بعملية الإنشاء في شباط/ فبراير الماضي، قال شيمون أوركابي، الضابط المسؤول عن تعبيد الطريق، إن إحدى غايات الطريق هي "منع العبور من الجنوب إلى الشمال والتحكم به بدقة بالغة".
في تصريح لصحيفة "هآرتس" هذا الأسبوع، قال ثلاثة جنود يخدمون في غزة إن الخطة قيد التنفيذ.
ونقلت الصحيفة عن جندي يخدم في محور نتساريم القول إن "الهدف هو منح السكان الذين يعيشون شمالي منطقة نتساريم مهلة نهائية للانتقال إلى جنوب القطاع. بعد ذلك التاريخ، كل من يبقى في الشمال سوف يعتبر عدوا وسوف يتعرض للقتل".
آلة القتل
وأكد الكاتب البريطاني أن "القتل العشوائي لم يزل مستمرا. إضافة إلى المزيج اليومي من القصف الذي لا ينقطع، والمسيرات التي تسقط قنابل زنة الواحدة منها ألفي رطل على الخيام، أدخل الإسرائيليون أحدث آلة للقتل: روبوتات متفجرة لديها القدرة على تدمير ستة منازل في صف واحد".
وأكد أن سكان شمال غزة جربوا "تدميرا بالمتفجرات" بلغت شدته حدا لا عهد لهم به وهم الذين عاشوا عاماً كاملاً من الحرب المستمرة.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال صحفي يعيش في هذا الجحر من الجحيم: "القصف مختلف تماما عما جربناه من قبل. صوت التدمير بالمتفجرات مرتفع جدا، لم يسبق لنا أن سمعنا مثله من قبل.
وعلى الرغم من ذلك، يتمسك الناس، وخاصة في جباليا، ببيوتهم ويأبون مغادرتها. يقول الناس إننا نؤثر الموت في الشوارع على أن نغادر إلى الجنوب لأنه حتى الناس في الجنوب يقولون من الأفضل أن نموت في مدينة غزة بدلاً من أن نموت في الجنوب، لأنه ولئن كان الموت واحداً فإن الحياة في الجنوب لا تُحتمل وهي أصعب بكثير مما عليه الحال في الشمال. يعيش الناس في الخيام وفي الذل".
يحظى هذا القتل الذي يجري يومياً بتشجيع حماسي. وكلما زاد رفض
الفلسطينيين للرحيل زادت الأصوات في "إسرائيل"، مثل صوت المعلق الشهير إلياهو يوسيان، وهي الأصوات التي تعلن أنه لا يوجد في غزة مدنيون أبرياء.
في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كتب البروفيسور آفي باريلي، المحاضر حول "إسرائيل" وتاريخ الصهيونية في جامعة بن غوريون يقول، إن الفلسطينيين "مجتمع يعبد الموت ويرفع راية القتل الإجرامي".
وأشار الكاتب إلى أن "رابي وباريلي وموريس وكل الجنرالات والجنود الذين يرتكبون جرائم الحرب ضد المدنيين يعيشون في أمان".
وأوضح انهم "لا يخشون، ولا ينبغي لهم أن يخشوا، أن يتم توقيفهم وإلقاء القبض عليهم عندما يحلون في المرة القادمة بشارع أكسفورد ستريت في لندن للتبضع في موسم أعياد الميلاد أو وهم يبحثون عن آخر العروض الموسيقية في حي الويست إند، وذلك بسبب الغياب التام للتنديد أو الضغط من قبل العدد المتناقص من البلدان التي ما زالت تدعم إسرائيل".
صمت أم تواطؤ
وقال هيرست أن "وسائل الإعلام إما أنها تمارس الصمت أو تمارس التواطؤ. في بداية الأمر وصفت قناة سكاي نيوز الجنود الذين قتلوا في هجوم حزب الله الصاروخي على قاعدة للجيش بأنهم "ضحايا من الفتيان"، بينما أشارت في نفس العنوان الإخباري الرئيسي إلى الثلاثة والعشرين الذين قتلوا في قصف إسرائيلي لإحدى المدارس بالعدد فقط".
اظهار أخبار متعلقة
وأضاف: "أما محطة الـ بي بي سي فباتت بشكل روتيني تشير إلى حصيلة القتلى بين المدنيين بأنه ما تزعمه حماس، وليس حتى ما تزعمه وزارة الصحة "التي تديرها حماس". في نفس النمط، أجرى محرر الشرق الأوسط في الـ بي بي سي جريمي بوين مقابلة مع إيلاند متعاملاً معه بحيادية مدروسة، وكأنما ما قدمه من خطة ما هو سوى وجهة نظر مشروعة".
وقال: "لم يذكر بوين، ولا بمجرد الإشارة، حقيقة أن ثمة قضيتين قانونيتين يتم التداول بشأنهما حول جرائم الحرب والإبادة الجماعية في اثنتين من أعلى المحاكم الدولية، وأن خطة إيلاند دليل رئيسي على ارتكاب هذه الجرائم".
وبين أنه "لربما يعتقد بوين أن تلكما القضيتين لا قيمة لهما أو أن معاهدات جنيف المتعلقة بالإبادة الجماعية مجرد حبر على ورق".
وقال: "يكرس إيلاند نفسُه جهدا ووقتا كبيرا في الزعم بأن كل ما تقدم به من مقترحات فهو قانوني، إلا أن بوين بوصفه مراسلاً صحفياً لم يتحداه أو يطلب منه إثبات صحة ما ذهب إليه من مزاعم".
وتساءل: "هل كانوا سيتحدثون عن مجزرة صبرا وشاتيلا بهذه الطريقة؟ نفس الشيء يحدث الآن في مخيم جباليا للاجئين".
وأضاف: "لربما لا ترى مؤسستنا الإعلامية العامة أن واجبها إزاء الجمهور يحتم عليها الإشارة في تقاريرها إلى الكم الهائل، وقد يقول البعض الساحق، من الآراء القانونية الدولية التي باتت موجودة الآن حول هذا الموضوع".
وأكد أن "كلا من الـ بي بي سي وسكاي نيوز تقومان بشكل روتيني بفرض غشاوة على الفرق بين المقاتلين المسلحين والمدنيين العزل، وهذا بالضبط ما تسعى إليه إسرائيل".
الصمت يشتري الوقت، والوقت يشتري الموت
وأشار إلى أن "مسعى بايدن الأخير لتقييد الحصار والتجويع المفروض على شمال غزة لا يعدو كونه تكراراً لمحاولته الفاشلة لمنع نتنياهو من احتلال رفح حينما هدد حينها بوقف تسليم القنابل الثقيلة".
وأضاف: "لم يوقف تهديده تصدير الأسلحة ولم يمنع الاحتلال الكامل للمنطقة الحدودية مصحوباً بالمجازر اليومية".
يقول برنامج الغذاء العالمي إن كل المساعدات توقفت عن الدخول إلى شمال غزة منذ ستة عشر يوماً، إلا أن وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن ووزير الدفاع منحوا الإسرائيليين ثلاثين يوماً إضافية قبل البدء "بإعادة تقييم" المساعدات العسكرية.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قالت ناتاشا هول، كبيرة الباحثين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (سي إس آي إس): "من وجهة نظر تتعلق بالإغاثة الإنسانية، تعتبر مهلة الثلاثين يوماً حكماً بالإعدام، وخاصة بالنسبة لمن يقيمون في شمال غزة حيث يواجهون المجاعة".
إسرائيل الصغرى، إسرائيل الكبرى
وأوضح الكاتب البريطاني أنه "فيما لو نجحت خطة إسرائيل بشأن شمال غزة، فإن جنوب لبنان سيكون التالي. قال مائير بن شابات، وهو مستشار سابق في الأمن القومي ورئيس سابق للعاملين في مجلس الأمن القومي، إن أمام إسرائيل خيارات ثلاثة في عمليتها الحالية في لبنان: إما إقامة منطقة أمنية خاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي، أو منح تسوية سياسية تسمح لإسرائيل فرض نظام جديد على الحدود، أو إخلاء الأرض الواقعة في المنطقة الحدودية بأسرها".
وأوضح أن "شابات يفضل الخيار الأخير قائلاً: فرض الأمن داخل المنطقة المحايدة سوف تقوم به إسرائيل من خلال مزيج من الاستخبارات والنار. ميزة هذا الخيار هو التكلفة المنخفضة نسبياً لعملية فرض الأمن وحقيقة أنه يمكن جعل ذلك ممكناً بشكل روتيني بدون مآزق خطيرة. وثمة ميزة أخرى لذلك، ألا وهي الرسالة التي يحملها، ومفادها أن الإرهاب يفضي إلى فقدان الأرض".
وأضاف: "أي.. هاجموا إسرائيل الصغرى وتحصلون على إسرائيل الكبرى، تماماً كما استخدم زعماء إسرائيل الأوائل بن غوريون وليفي إشكول وإسحاق رابين غزو الأراضي وسيلة لمعاقبة أولئك الذين يهاجمون إسرائيل، وكما أن الهزيمة وخسارة الأرض أفضت إلى صفقات سلام مع مصر والأردن، إذن ينبغي على إسرائيل الآن استخدام نفس الأسلوب في لبنان وسوريا. ذلك بالضبط ما يتم الدفع باتجاهه حالياً".
وتساءل: "ألم يزعم الصهاينة المتدينون أن القدس تمتد إلى دمشق؟ إلا أن الرد الوحيد الذي سوف ينجم عن مثل هذه الخطط هو الحرب الدائمة على كل الجبهات من قبل جميع شعوب العالم العربي. ومن يقفون متفرجين اليوم، لن يكتفوا بذلك غداً. بل سوف يدفعهم الشعور بالعار لا محالة نحو الفعل".
اظهار أخبار متعلقة
وأكد أنها فحسب مسألة وقت، ثم سرعان ما تنال هذه الحرب وهذه الأساليب كل بلد مهدد بغارات "إسرائيل" العقابية وحدودها التي لا تتوقف عن التمدد.
وقال: "سيأتي الوقت الذي يمزق فيه الأردن معاهدة السلام مع إسرائيل، بينما تجد إيران وحزب الله نفسيهما مضطرتين للقتال من أجل البقاء على قيد الحياة".
وأضاف: "احتاج الأمريكيون إلى بضعة أسابيع لإسقاط نظام الطالبان في عام 2001، واحتاج الطالبان إلى عشرين سنة أخرى ليجبروهم على المغادرة، وتطلب إسقاط تمثال صدام حسين في بغداد في نيسان/ إبريل 2004 بضعة أسابيع، ثم لم يلبث بعد ثمانية أعوام أخرى أن انتهى بهزيمة مخزية الدور القتالي للولايات المتحدة في العراق".
وبين أن "هذه سوابق غير سارة لحرب تتعلق بأكثر من مجرد إسقاط أنظمة قمعية غير محبوبة في أفغانستان والعراق. بل إن هذه الحرب تتعلق بالهويات السنية والشيعية على حد سواء لكل من سوريا والأردن والعراق وإيران، وسوف تكون هذه الحرب حربا وجودية لكل من يشارك فيها".
وختم قائلا: "سوف تكون هذه حربا حتى النهاية. هل سوف تنتهي بفتح أم بتقهقر؟ لست متأكدا من أن إسرائيل بقي لديها شيء من القدرة على إعادة الحساب، على التوقف وإعادة التفكير، وهي تسير في حالة من العمى نحو الهاوية، نحو الزوال".