كتاب عربي 21

الشعوب تكسر الطوق والنظم تُحكِم المحاصرة والتطويق.. قاموس المقاومة (50)

سيف الدين عبد الفتاح
"الشعوب ترفض مسارات النظم الرسمية التي تخضع للرؤى الأمريكية والإسرائيلية"- جيتي
"الشعوب ترفض مسارات النظم الرسمية التي تخضع للرؤى الأمريكية والإسرائيلية"- جيتي
استوقفني مشهد عملية البحر الميت وكان دافعا لاختيار عنوان هذا المقال، ويؤكد أننا بين مشروعين، أولهما هو مشروع تطويق المقاومة وحصارها، وثانيهما يتعلق بالشعوب وكسر الطوق عنها وفك الحصار عن مقاومتها.. فاستوقفني هذا المشهد بتسلل ثلاثة من المواطنين الأردنيين إلى الأراضي المحتلة ليشكلوا بذلك عملا متراكما ومتواترا في استهداف العدو وأمنه الذي يزهو به، فإذا به يفقده من كل صوب وحدب، فتأتيه هذه الاختراقات من الأردن تارة ومن مصر تارة ومن لبنان وسوريا تارة أخرى رغم أنف الأنظمة. مثل هذه العمليات هي الرد العملي على مخططات الاستيطان ليس فقط لفلسطين، ولكن للمشاريع المفروضة من الخارج مثل مشروع الشرق الأوسط.

وقد كتبنا في مقال سابق عن مفهوم الشرق الأوسط ومفهوم دول الطوق؛ وأكدنا في عدة كتابات أن الشرق الأوسط ليس مجرد مفهوم فقط يرتبط بالمعاني، ولكنه في واقع الأمر مشروع يتعلق بالمباني المقصودة في فك المنطقة وإعادة تركيبها بما يحقق أهداف من أطلقه واصطنعه على عينه؛ هادفا إلى تحقيق استراتيجياته ومقاصده الكبرى ومصالحه الكولونيالية القديمة والجديدة على حد سواء.

وتوترات عدة أحداث خاصة بعد الطوفان لتوضح هوان الحال وفرض المصطلح الخطير في المجال؛ وجرى على ألسنة الزعماء المزعومين غافلين عن عمليات تسميمه وخطورته، وأخطر من ذلك استخدام المجرم "نتنياهو" لخرائط تهدف إلى تصنيف الدول وفقا لهواه؛ من دول وأهل الخير الذين خضعوا واستسلموا لخطة الكيان الصهيوني في الإبادة الجماعية لأهل غزة وفلسطين؛ أما أهل الشر فهم من قاوموه أو لديهم شبهة مقاومة.

الشرق الأوسط سواء كان قريبا أم بعيدا؛ كبيرا أم محدودا صغيرا؛ متسِعا أو مُضَيقا؛ قديما أم جديدا؛ هو مشروع تتجدد طبعاته؛ ويتسع ويضيق وفقا لمصالح من أطلقه، وهو في حقيقته تعتمل في جوفه مفاهيم أخرى تتسلل ثم تقوم بعمليات تسميم كبرى في عالم المعاني وكسر الإرادات، وتمرير نسخة السلام الأمريكي الصهيوني المسمى بصفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية

الشرق الأوسط سواء كان قريبا أم بعيدا؛ كبيرا أم محدودا صغيرا؛ متسِعا أو مُضَيقا؛ قديما أم جديدا؛ هو مشروع تتجدد طبعاته؛ ويتسع ويضيق وفقا لمصالح من أطلقه، وهو في حقيقته تعتمل في جوفه مفاهيم أخرى تتسلل ثم تقوم بعمليات تسميم كبرى في عالم المعاني وكسر الإرادات، وتمرير نسخة السلام الأمريكي الصهيوني المسمى بصفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية تحت عنوان التسوية.

وقد خاضت الأنظمة شبه المستقلة حروبا نظامية متعددة منذ العام 1948 مع الكيان الصهيوني؛ تفوق فيها ذلك الكيان بدعم الغرب والمحاربة معه، ورغم كل تلك الهزائم لم تفق الأنظمة؛ ولم تكن صحوتها في حرب أكتوبر عام 1973 إلا عملا استثنائيا؛ سرعان ما خسرت تلك النظم ما كسبته عسكريا مطوقة بهزيمة سياسية من العيار الثقيل. وفي ظل توالي النكبات والهزائم العربية خرجت علينا المنظومة العربية والغربية معا بمعزوفة واحدة حول مقولة دول الطوق، وقد تطورت سياسات تلك الدول مع إسرائيل بشكل كبير على مر الزمن، وهذه التطورات يمكن تلخيصها في عدة مراحل رئيسة:

مرحلة الصراعات المسلحة: كانت هذه الدول، مثل مصر وسوريا والأردن، تتبنى سياسات معادية لإسرائيل، مما أدى إلى صراعات مثل حروب 1948 و1967 و1973، وقد كانت هذه الدول تدعم القضية الفلسطينية وقضيتها العادلة.

مرحلة اتفاقيات السلام: وهي تلك المرحلة التي شهدت توقيع اتفاق كامب ديفيد، وقد ترتب عليها الكثير من الأمور في المنطقة خاصة بعد مقاطعة الدول العربية لمصر، كما زاد من تعقيد هذا المشهد العدوان الإسرائيلي على لبنان مطلع الثمانينيات، واستكملت هذه المرحلة بتوقيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل، سواء أوسلو أو وادي عربة مطلع التسعينيات من القرن الماضي.

مرحلة الهرولة نحو التطبيع: حيث شهدت السنوات الأخيرة تطورات جديدة في العلاقات، مثل اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول مثل الإمارات والبحرين والسودان عبر اتفاقات أبراهام 2020، وتراجع الدعم للقضية الفلسطينية، والتماهي مع العربدة الإسرائيلية في المنطقة.

المرحلة الحالية، انحدار ما بعد التطبيع: وفيها تصاعد الصراعات وتفاقمها في معظم دول الطوق، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية وخطورتها، إلا أن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أسس لرؤية جديدة في التعامل مع إسرائيل، وأوقف المشروع الصهيوني؛ سواء فيما يتعلق بترتيب أوضاع المنطقة، أو على مستوى تطوير علاقاتها التطبيعية مع الدول العربية. كما أن هذا الحدث المؤسس يعبّر بدرجة مركزية عن جهود الشعوب العربية في مقاومة ومواجهة الكيان الصهيوني، وكيف أن الشعوب ترفض مسارات النظم الرسمية التي تخضع للرؤى الأمريكية والإسرائيلية، ومن ثم فإن السابع من أكتوبر جاء ليبلور هذا الدور الشعبي ويرمزه، ومن هنا نستطيع أن نلقي نظرة سريعة على المقاومة الشعبية في دول الطوق في مواجهة الكيان الصهيوني.

لا يمكن الوقوف بشكل حصري على كل وقائع وعمليات وأحداث المقاومة الشعبية التي واجهت إسرائيل من دول الطوق العربية، بما في ذلك العمليات التي تمت من داخل الأراضي المحتلة، فهي أكبر من أن يحاط بها في مقال واحد، وإنما الأمر من الممكن أن يدرج في إطار استعراض أبرز العمليات التي واجهت بها الشعوب العربية الاستيطان الإسرائيلي؛ ووجهت رسائل مباشرة إلى العدو الصهيوني بأنه احتلال غاشم ودخيل ولا يمكن أن يتم استيعابه أو قبوله بين شعوب ودول المنطقة، وأن مسارات التطبيع التي تتم بين الحين والآخر تخص فقط من قام بالتوقيع عليها ولا تعبر عن الشعوب العربية بأي حال من الأحوال.

وجهت رسائل مباشرة إلى العدو الصهيوني بأنه احتلال غاشم ودخيل ولا يمكن أن يتم استيعابه أو قبوله بين شعوب ودول المنطقة، وأن مسارات التطبيع التي تتم بين الحين والآخر تخص فقط من قام بالتوقيع عليها ولا تعبر عن الشعوب العربية بأي حال من الأحوال

ومن الممكن أن نبدأ بالانتفاضات الفلسطينية، سواء الانتفاضة الأولى أو الثانية، وصولا إلى عمليات المقاومة الأكثر مباشرة وشجاعة وهي تلك التي يواجه فيها فرد واحد أو اثنان آلة الصلف والغرور الإسرائيلي، إضافة إلى الحروب التي قامت بها المقاومة ضد الكيان الصهيوني، وصولا إلى ذلك اليوم الذي سيبقى في تاريخ المقاومة الفلسطينية ضد الكيان وهو يوم السابع من أكتوبر. ولم تتوقف العمليات الفلسطينية اليومية منذ ذلك التاريخ سواء من غزة أو من الضفة، وهي جميعها علامات فارقة في تاريخ المقاومة والحروب وتؤخذ منها الدروس والعبر في الإقدام والشجاعة والكفاءة القتالية، وليس آخرها الصمود الأسطوري الذي قدمه القائد يحيي السنوار (أبو إبراهيم)، وكذلك مواجهة لبنان للصلف والغرور الإسرائيلي سواء بكسر أنفه عام 2006، أو العمليات المزلزلة التي يتعرض لها في الوقت الحالي خلال محاولاته اقتحام الجنوب اللبناني، حيث تقدم المقاومة اللبنانية أروع الأمثلة في مواجهة هذا الاحتلال وتكبيده الخسائر الكبيرة.

المقاومة التي تواجه الكيان الصهيوني تضامنا مع طوفان الأقصى من كل من مصر والأردن لها سوابق تاريخية؛ من مثل سليمان خاطر، وأيمن حسن، ومحمد صلاح، وصولا إلى بعض العمليات التي تزامنت مع طوفان الأقصى. وفي الأردن لم تكن عملية البحر الميت أو عملية جسر الملك حسين هما فقط ما قدمه الشعب الأردني للمقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، فقد سبق هذا العديد من العمليات التي عكست عن وعي الشعب الأردني وإيمانه بقضيته العادلة في مواجهة الكيان الصهيوني.

فقد كشفت السلطات الإسرائيلية خلال العام الماضي توقيفها لعدد من الأردنيين بحوزتهم أسلحة لاستهداف الإسرائيليين، إضافة إلى العملية التي نفذها محمد فيصل السكسك عام 2007، وأحمد الدقامسة عام 1997، وفي العام نفسه عملية سونا الراعي، وعملية مروان عرندس وخليل زيتون ورائد الصالحي عام 1991، وسلطان العجلوني عام 1990، وقد شهد ذلك العام أكثر من عملية سواء باستهداف الإسرائيليين بالسلاح الناري أو السكين.

فقد أكدت مثل هذه العمليات وجود رفض شعبي لهذا الكيان، وأن الشعوب تتشوق لنصف فرصة لمواجهة هذا الكيان، فعملية البحر الميت الأردنية مثّلت استكمالا لعملية جسر الملك حسين، وقد جاءت هذه العمليات لتعبر عن تضامن شباب الأردن المباشر مع ما يحدث في غزة، ورفضهم للصلف والغرور الصهيوني وانتداب أنفسهم لدعم عزة والدفاع عنها، وفي ذلك كانت وصاياهم بضرورة استمرار مواجهة العدو الصهيوني والوقوف في وجهه.

اكسروا الطوق؛ دعوة إلى شعوب دول الطوق، وخطاب لدول الطوق خاصة الأردن ومصر؛ طوق لمن؟! طوق لفلسطين وقضيتها ومقاومتها فتحمونها وتدعمونها؟ أم طوق عليها لحصارها وطوق حماية للكيان الصهيوني؟ وإسرائيل لا تزال تقيم الأسوار والجُدر والسواتر وتطوق نفسها حتى تأمن، فيأتيها الاستهداف من كل صوب وحدب؛ نعم لن يأمن الكيان الصهيوني ولن يهنأ بأمن؛ فسيكون يوم تُهدم فيه الجدر والأسوار؛ وسيكون يوم تزحف فيه الشعوب من دول الطوق إلى الحدود؛ وتطوق أنظمة الخنوع والهوان المستأسدة على شعوبها باستبدادها وطغيانها.

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)