بعد عقدين أو ثلاثة، وكأي من الثورات والحروب، سينقسم المؤرخون حول «الطوفان» وفقاً للسنوات، بين أحداث العام الأوّل والثاني وإلى أن تقع الهدنة. ولأننا نعيش في اللحظة، وما تفرضه من صعوبات وآلام وعواطف، فمن الصعب التوقف والنظر إلى المشهدية التاريخية بشكل أوسع وأشمل. هنا تأتي أهمية قراءة الشواهد التاريخية النظيرة وعِبَرها وما تخبرنا به، فهذه فائدة دراسة التاريخ، وهذه أيضاً القيمة العابرة للزمن للتضحيات الثورية لمن سبقونا من الشهداء والمناضلين.
لنحدد تاريخ نماذج الثورة الصينية والحربين التحرريتين لفييتنام والجزائر. تؤرَّخ هذه الحروب بأعوامها، ولحظاتها الحرجة والمصيرية، إلا أن ما تعطينا إيّاه هذه التجارب مجتمعة وبالنظرة الكلية لها، هو نموذج لتقسيم المراحل التي تمرّ فيها كل ثورة وحرب تحررية من الاستعمار. يقوم هذا الاجتهاد على الشكل التالي:
(1) مرحلة المبادرة، فيكون رد فعل الاستعمار الجنون والإفراط في استخدام فائض قوته، فنتلقّى الضربات المدوية،
(2) مرحلة الصمود وصراع الإرادات،
(3) مرحلة تحصيل المكاسب الإستراتيجية.
تتشارك النماذج الثلاثة في مراحل المبادرة: هجمات أعوام 1927-1934 للحزب الشيوعي على قوات الكومينتانغ، وهجمات الفييتناميين بدأ من عام 1959، وبيان الأول من نوفمبر 1654 وهجمات 1955 وصولاً إلى مؤتمر الصومام 1956 في الجزائر. دخلت هذه الثورات بعدها أصعبَ مراحلها، التي قدّمت فيها ذروة التضحيات في القادة والمجتمع والبنية العسكرية.
ففي الصين، تقهقرَ الشيوعيّون تحت ضربات الكومينتانغ فانسحبوا إلى الريف، لتبدأ أكثر ملاحم الثورة الصينية في ما يطلق عليه «المسيرة الكبرى» التي استمرت حتى عام 1936، لتصبح أحد أبرز عناصر الهوية الصينية المعاصرة، ورمزاً للصمود والإرادة الوطنية، حدّ أنه أُطلق الاسم على أكثر برامج الفضاء الصينية طموحاً.
أمّا في فييتنام، فكانت أحد أكثر شواهد التاريخ صعوبة، إذ لم يكن الأميركيون في وارد تجرّع هزيمة تاريخية سيلاحقهم إرثها حتى اليوم. وعليه، توالت مراحل التصعيد والتوحّش الأميركي، من تصعيد كينيدي حتى 1963، ليتبعه تصعيد جونسون وحملات القصف «السجادي»، وانكسار هجمات «التيت» الفييتنامية عام 1968 (مثّل الانكسار مكسباً تكتيكياً للأميركيين ولكن المكسب الإستراتيجي كان للفييتناميين الذين فرضوا حضورهم من جديد) وصولاً إلى عام 1969.
أمّا عن أقرب نماذجنا العربية، وأكثرها تشابهاً بنموذجنا العربي ضدّ الصهيونية، فما بعد الفاتح من نوفمبر، والذي تحتفل الجزائر في هذه الأيام بذكراه السبعين، مرحلة ذروة التضحيات وذروة العنف والجرائم الفرنسية في حق الجزائريين ما بين 1956 و1959.
وهي المرحلة التي اغتيل واستشهد فيها أبرز الرموز التي نربطهم بالتحرير اليوم رغم أنهم لم يشهدوه: بن العربي بن مهيدي، زيغود يوسف، ديدوش مراد، علي لابوانت وغيرهم. دخل الجزائريون مع الاستعمار مرحلة تكسير للعظام، لتتوالى مشاريع جنرالات مختلفين لوأد الثورة، جاك ماسو وموجة جرائم 1957 ومعركة مدينة الجزائر، مشروع «خط الجنرالين شال موريس» مع الحدود مع تونس والمغرب بأسلاك كهربائية وألغام لحصار الإمداد العسكري والبشري للثورة.
وصولاً إلى الذروة، مع مشاريع ودسائس أقوى وجوه فرنسا منذ نابليون، الجنرال شارل ديغول، لتصفية الثورة وتفريقها والقضاء على حاضنتها. خلال هذه السنوات، علت أصوات الانهزاميين والمثبطين عن جدوى بيان الأول من نوفمبر، إلا أن أجيالهم تحتفل به اليوم.
إنّ ما تخبرنا به هذه النماذج أنّ مفتاح نجاحها وتحصيلها للمكاسب الإستراتيجية، من معارك 1947 حتى إعلان إقامة الجمهورية الشعبية في بكين عام 1949، إلى اكتساب الفييتناميين موقع القوة في مفاوضات باريس ودحر الأميركيين عام 1973، ودخول سايغون 1975، وصولاً إلى فرض الجزائريين على ديغول الاعتراف بحقهم بتقرير المصير 1959 والصراع والتفاوض حتى الاستقلال 1962، كان النجاح عبر الثبات والصبر في مراحل «ذروة العنف» الاستعماري. والأهم هنا، أنه لم يكن هذا الثبات والصبر حالة نفسية جامدة، بل استدعيا تطوير الأدوات والأساليب القتالية والسياسية والاجتماعية والمعنوية.
في كل تجارب الانتصار على الاستعمار كانت المسألة تخضع للقاعدة التالية: أن المنتصر هو القادر على الصمود أكثر لا الإيذاء أكثر. وعليه، فإن معيار قوة كل جبهة تحررية هو مقدرتها على الصمود، وهذا مضمون تسميتها بحركات «مقاومة» بالأصل.
لا أنها في موقف رد الفعل كما يحاول مثقفو الهزيمة تمريره، بل لأن أصل فعلها ودورها التاريخي هو أنها مؤسسات بشرية فريدة من نوعها، حيث يقوم بناؤها العسكري والأيديولوجي على ضمان الفاعلية والقدرة على الصمود والإرادة والصبر.
افتتح عامنا الأول في «الطوفان» بالمبادرة مع بيان السابع من أكتوبر المجيد، ليمرّ عام الحرب مع توحّش في ضربات الصهيونية، من حرب الإبادة والاغتيالات وصولاً إلى ضربة أيلول المدوّية ومشاريع تهجير شمال
غزة. إنّ ما نعيشه اليوم هو «ذروة العنف» الاستعماري، أي في مشهدية التاريخ الأوسع نحن في قلب مرحلة الصمود وصراع الإرادات.
تحدّث أنطونيو غرامشي عن تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، ومَن منّا خلال الحرب لم يغرق في تشاؤم العقل، كانت لحظة اغتيال إمامنا السيد حسن نصرالله ذروة هذا التشاؤم، وكنّا نتكئ على الإيمان وتفاؤل الإرادة وحدهما. لكني أجادل وقد أكملنا الشهر على استشهاده، أننا دخلنا مرحلة عنوانها مشهد عصا أبي إبراهيم
السنوار وإرادته، وهي أننا في مرحلة تفاؤل العقل والإرادة.
ذلك ما تخبرنا به التجارب التاريخية. وما نستدل به على قدرة الصمود وفعاليته كتائب معسكر جباليا، وتكافل وصمود أهالي شمال غزة وعمومها، والفعالية والثبات الأسطوري للمقاومة الإسلامية في
لبنان وحاضنتها، فهذه الفعالية هي الدليل العقلي على قوة هذه المقاومة، وأن الإيمان اليوم بقوة هذه المؤسسات الجهادية وبيئتها عليه أن يكون أكثر من أي وقت مضى، وفقاً للتجربة والبرهان لا التفاؤل فقط.
نحن اليوم في لحظتنا الأصعب، ولكننا ولحكمة قرار «الطوفان» فنحن في اللحظة التاريخية التي يكون فيها الصبر والصمود مثمرَين ولهما مكسب إستراتيجي، وهذا ما تخبرنا به الصين والجزائر وفييتنام. كنا سنصبر ونصمد أيضاً في عالم لم يحدث فيه «الطوفان»، والمؤامرات الخليجية الإسرائيلية الأميركية تحاك ونحن بلا حيلة، لا يمكن لعاقل إخبارنا أن لذلك الصبر ثمرة لا الخسران. لكننا اليوم، ولأننا في ظرف صعب، فالشاهد التاريخي يقول لنا إن العدو بذاته يعيش ظرفاً صعباً. وعليه، نعي أن هذا هو حتماً طريق القدس وما صعوبته سوى الدليل إليه.
بالعودة إلى «المسيرة الكبرى»، فإنّ القارئ لغسان كنفاني، كأحد أبرز منظري الثورة الفلسطينية وتاريخها منذ الشيخ عزالدين القسّام، سيرى أن كل ما كان يبحث عنه، هو هذه المرحلة، كان يقولها بالحرف إننا نحتاج إلى مسيرتنا الكبرى، لأنه كان يعلم أن لا طريق للتحرير سوى ذلك، أن لا طريق للتحرير سوى «الطوفان».
الأخبار اللبنانية