مع توجه الناخبين الأمريكان إلى صناديق
الاقتراع فإن السؤال المركزي الذي ينبغي أن يشغلنا ليس هوية الفائز، بل احتمالية
تحول هذه الحرب إلى محطة أزمة سياسية ـ ولو مؤقتة ـ تسهم في خلخلة معسكر حرب الإبادة.
ثلاثة عشر شهراً مرّت والولايات المتحدة
الشريك الأول للكيان الصهيوني في حرب الإبادة على غزة ثم الضفة ولبنان، في استمرار
لرصيد طويل من رعاية الكيان الصهيوني لنحو ثمانين عاماً كان فيها محل اتفاقٍ بين
الإدارات المتعاقبة، وإن اختلفت فيما بينها أحياناً على الطريقة المثلى لدعمه،
وهذا ما ولّد قناعة شعبية بانعدام الفارق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي فيما
يتعلق بعالمنا العربي والإسلامي، وهي قناعة حقيقية في العموم فليس في السياسة
الخارجية الأمريكية ملائكة؛ إنما فيها شياطين بأنياب وشياطين بثياب ملائكة.
الجديد اليوم في المشهد الأمريكي هو أن
الانتخابات ليست مفتوحة على سؤال واحد يقتصر على هوية الفائز، بل باتت منذ
انتخابات عام 2020 مفتوحةً على سؤال إمكانية الانتقال السلمي للسلطة واحتمالية
إحاطته بالعنف، والسبب في ذلك واضح؛ فالمجتمع الأمريكي دخل مرحلة أزمة الهوية مع
زيادة نسبة المهاجرين، بين من يرى في الولايات المتحدة دولة الأنجلوساكسون البيضاء
البروتستانتية التي تستوعب المهاجرين في بنيتها، وبين توجه باتت التغييرات
السكانية والثقافية تفرضه لتصبح فيه الولايات المتحدة دولة جميع مواطنيها، ما
يجعلها منفتحة على
رئاسة الملونين والنساء والشـ.ـواذ وفئات أخرى مع تفشي المفاهيم
النيوليبرالية للجنس.
المجتمع الأمريكي دخل مرحلة أزمة الهوية مع زيادة نسبة المهاجرين، بين من يرى في الولايات المتحدة دولة الأنجلوساكسون البيضاء البروتستانتية التي تستوعب المهاجرين في بنيتها، وبين توجه باتت التغييرات السكانية والثقافية تفرضه لتصبح فيه الولايات المتحدة دولة جميع مواطنيها، ما يجعلها منفتحة على رئاسة الملونين والنساء والشـ.ـواذ وفئات أخرى مع تفشي المفاهيم النيوليبرالية للجنس.
يلخص ترامب هذا الاستقطاب في مقولته
الانتخابية المتجددة "لنجعل أمريكا عظيمة من جديد"، لأن أمريكا التي
يحكمها أوباما وتترشح هيلاري كلينتون أو كامالا هاريس لرئاستها ليست عظيمة، أمريكا
التي يفقد فيها العرق الأبيض تفوقه المطلق وتستطيع فيها أفواج المهاجرين المتدفقة
عبر الحدود أن تصبح الكتلة التصويتية الأكبر ليست عظيمة، أمريكا التي تفقد فيها
الكنيسة مركزيتها وينتشر فيها الإلحاد ليست عظيمة، أمريكا التي تفقد قيمة الأسرة
ومركزية الرجل وينتشر فيها الإجهاض والشـ.ـذو.ذ ليست عظيمة، أمريكا التي تترك
مصانعها تنتقل إلى المراكز الصناعية النامية وتحل فيها نخبة تكنولوجيا المعلومات
وصِبية التواصل الاجتماعي محل عمالقة النفط والصناعة والاحتكار الزراعي ليست عظيمة..
ولعل هذه المفارقات توضح خطوط الاستقطاب
العرقي والديني والاقتصادي التي باتت تتمترس اليوم بين الحزبين، وهي خطوطٌ
أيديولوجية واجتماعية وبيولوجية أيضاً، ولم تعد "خلافات برامجية" كما هو
الفهم الرائج لطبيعة الأحزاب الأمريكية لدى بعض النخب العربية، ويعبر عن ذلك مشروع
أمريكا 2025 الذي تتبناه "مؤسسة التراث" اليمينية المحافظة، والذي يتبنى
برنامجاً لاستعادة الحكم من يد الدولة العميقة، ويتوازى في طروحاته مع برنامج
ترامب الانتخابي ويعمل على تجنيد الإمكانات البشرية والمالية المطلوبة لما أسماه
رئيسها كيفن روبرتس: "ثورة أمريكية ثانية، ستبقى بلا إراقة دماء إذا سمح لها
اليسار بذلك".
اليوم ومع بدء الاقتراع تتوجه الولايات
المتحدة إلى تجدد الصراع على هوية الدولة وطبيعة النخب التي تحكمها، ما يقوض الحد
الأدنى للإجماع الذي يسمح للأوراق أن تقرر في الصندوق بشكلٍ سلمي، لكن المعطى غير
الواضح هو مدى حدة هذا الصراع وتراكم العناصر التي تسمح بانفجاره، ومدى قدرة
النظام بمؤسساته القائمة على توفير صِيغ توفق بين الإرادات المتباعدة تحول دون
الوصول إلى محاولة التعبير خارجه أو حتى محاولة تقويضه.
حتى الآن، تشهد هذه الانتخابات أعلى مؤشرات
العنف الانتخابي منذ انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية تقريباً، إذ شهدت محاولتي
اغتيال لأحد مرشحيها أدت إحداهما إلى قتل أحد الحضور وإصابة اثنين بينهما المرشح
الجمهوري دونالد ترامب، وشهدت تحذيراً لاحقاً من الرئيس الديمقراطي الحاكم جو
بايدن لإيران من أن "اغتيال ترامب ستكون له عواقب".
في الوقت عينه شهدت مرحلة التصويت بالبريد 4
محاولات إحراق لصناديق إيداع الأصوات، بينها محاولتان ناجحتان أتلفت فيهما مئات
الأصوات، ومرة أخرى زعمت وسائل إعلام قريبة من الحزب الديمقراطي هي نيويورك تايمز
وإي بي سي نيوز أن بيانات من جهات "داعمة لفلسطين" وجدت بجوار بعض تلك
الصناديق، في محاولة لتصدير الأزمة على خطوط الصراع الخارجي، كما شهدت الانتخابات
حتى الآن إرسال طرودٍ مشبوهة للجان الانتخاب في 16 ولاية، وكذلك وُجهت تهمة تهديد
سلامة طاقم الانتخابات إلى عشرين شخصاً حتى اليوم السابق للانتخابات.
كل هذه السوابق تأتي بينما يرفض المرشح
الجمهوري دونالد ترامب ونائبه جاي فانس التصريح علناً عن موقفهما من النتائج في
حال الخسارة، وتركيزهما على قبول النتائج في حال الفوز، وهو ما يعني ضمناً
استعدادهما لتحدي النتيجة في حال الخسارة، وإن كانت الكثير من التحليلات تقلل من
قدرتهما على التحدي مقارنة بانتخابات 2020 التي كان فيها ترامب رئيساً في البيت
الأبيض، خصوصاً مع تفكيك المليشيات العسكرية المنظمة التي ظهرت في 2020 مثل
"الفتية الفخورون" و"حفَظة القسَم" وسجن قادتها.
تبدو الأزمة المرشح الأبرز للانتخابات هذا العام، ولعل هذه المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الأمريكية التي يوشك فيها "السيناريو المفضل" بالنسبة لنا عربياً وإسلامياً أن يكون هو "السيناريو المحتمل"، فأي أزمة سياسية أمريكية سيكون لها دور إيجابي في خلخلة معسكر حرب الإبادة الذي تشكل الولايات المتحدة الفاعل الأكبر والأقوى فيه، مهما كانت تلك الأزمة محدودة أو مؤقتة
أخيراً، فإن النتائج المتقاربة جداً التي
تشير إليها استطلاعات
الرأي ونماذج التوقع يمكن أن تصب في صالح ترامب في مسعاه
لرفض نتيجة الانتخابات إذا خسرها، لأن الفوارق في هذه الحالة ستكون قليلة ومتقاربة
وتغري بالتحدي والدعوة لإعادة العد، بخلاف الفارق الذي كان قائماً بينه وبين بايدن
في انتخابات 2020 والذي وصل إلى سبعة ملايين صوت شعبي، و74 من أصوات المجمع
الانتخابي، علاوة على كونها فرصته السياسية الأخيرة مع بلوغه 78 سنة من عمره.
في الخلاصة، وبناء على ما سبق فإن
الانتخابات الأمريكية تبدو متوجهة نحو واحد من ثلاثة احتمالات:
الأول: فوز بفارق ضئيل لمرشحة الحزب
الديمقراطي الحاكم كامالا هاريس يتحداه ترامب وجمهوره ويذهب به إلى أزمة قد تدوم
لأسابيع أو أكثر.
الثاني: فوز بفارق ضئيل لترامب تتبعه
محاولات من الحزب الديمقراطي والدولة العميقة لمنعه من الوصول للبيت الأبيض بما
يشمل ملاحقته القضائية أو محاولة اغتياله خصوصاً وأنها محاولات لها سوابق وخطاب
سياسي يضعها في إطار الصراع الخارجي.
الثالث: الانتقال السلس للسلطة.
باختصار، تبدو الأزمة المرشح الأبرز
للانتخابات هذا العام، ولعل هذه المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الأمريكية التي
يوشك فيها "السيناريو المفضل" بالنسبة لنا عربياً وإسلامياً أن يكون هو
"السيناريو المحتمل"، فأي أزمة سياسية أمريكية سيكون لها دور إيجابي في
خلخلة معسكر حرب الإبادة الذي تشكل الولايات المتحدة الفاعل الأكبر والأقوى فيه،
مهما كانت تلك الأزمة محدودة أو مؤقتة؛ ويبقى مدى الأزمة وعمقها محكوماً بعناصر قد
يصعب التدخل فيها من بينها مقدار ما يمارس فيها من عنف وقدرة مؤسسات النظام السياسي
الأمريكي على استيعابها.