قضايا وآراء

الانعزالي الجديد

عوني بلال
"هذه الشهور الدامية كانت -وستبقى- فصلا فارقا للعمل المقاوم في زمن السطوة الإسرائيلية، وبرهانا أن واقعنا السياسي وخرائط المستعمِرين ليست قدرا محتوما"- جيتي
"هذه الشهور الدامية كانت -وستبقى- فصلا فارقا للعمل المقاوم في زمن السطوة الإسرائيلية، وبرهانا أن واقعنا السياسي وخرائط المستعمِرين ليست قدرا محتوما"- جيتي
* أواسط القرن الثامن عشر، بدأ رجل في جنوب لبنان يدعى حيدر الركيني تدوين ما يراه من حوله وما يصله من أخبار، سواء حروب العثمانيين مع الروس، أو موجات الطاعون واضطرابات السياسة، أو حتى غرائب الحيوانات ومغامرات أهل القرى وطرائف تربية الدجاج. من حيث علم أم لم يعلم، كان الركيني يخطّ وثيقة نادرة -في عفويتها الكاشفة- لواقع ذاك المكان من منطقتنا، وقد صدرت هذه الحوليّة لاحقا تحت عنوان "تاريخ جبل عامل". أحداث هذا الكتاب ليست أسيرة التقسيمات السياسية المعاصرة، وقصصه تتناول عكا وصفد أكثر بكثير مما تتناول بيروت. وعلى امتداد صفحاته لا تكاد تلمح كلمة "لبنان" ولا كلمة "فلسطين". لا مفاجأة هنا طبعا بالنظر للإطار الزمني (القرن الثامن عشر)، لكن انعدام المفاجأة بذاته يستحق الانتباه ويذكّر بأشياء يسهل نسيانها عن هذه البلاد ومَنشئها الأول.

* كان حيدر الركيني يكتب في زمنٍ شهد حروبا وتحالفات شتى بين شيوخ وأمراء المدن، منها حِلف عقده شيخ جبل عامل ناصيف النصار، مع حاكم عكا الظاهر عمر الزيداني، وأقسما فيه "على السيف والمصحف أن يكونا وشعباهما متضامنين متصافّين مادامت الأرض والسماء". لا أقتبس من عمل الركيني حتى أبني فاتحة درامية لحديث عن وحدة الدم والمصير وكلام عن زيف الحدود، فالمرء لا يحتاج كتابا من القرن الثامن عشر حتى يكتشف سمة التلفيق في الدولة العربية الحديثة وحدودها. لكن العودة لحولية حيدر الركيني وتاريخ جبل عامل مفيد لمن يريد أن يضبط إضاءة التاريخ وهو يحاول قراءة ما يجري اليوم على خط النار بين لبنان والكيان العبري.
عندما افتتح حزب الله جبهة إسناده في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي فهو لم يبدأ جبهة إضافية في الحرب وحسب، الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر كان ظاهرة جديدة في الاشتباك العسكري. هذا ليس حكما ولا تقييما، بل مسألة وصف وترسيم

* عندما افتتح حزب الله جبهة إسناده في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي فهو لم يبدأ جبهة إضافية في الحرب وحسب، الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر كان ظاهرة جديدة في الاشتباك العسكري. هذا ليس حكما ولا تقييما، بل مسألة وصف وترسيم. شيء كهذا لا يشبه غيره: طبيعة الجبهة، نوع القتال، المحددات التي فرضها الحزب على نفسه في المديات ونطاق الرمي، وقبل ذلك وبعده، المعركة نفسها وسياقها. وإذا كَنَس المرء جانبا ضجيج الدعاية المضادة واللغو الطائفي الذي يملأ الساحة، فالتباين في فهم هذه الجبهة كان ينبع غالبا من طبيعتها المغايرة. أنت تتعاطى مع مواجهة "من خارج المنهاج"، وأظن كثيرا مما كُتب في جبهات الإسناد كان يستلزم صبرا أكثر لانجلاء المسارات (الكتابة عن الحروب في خضم الحروب يستحق بذاته كتابة كثيرة). كان هذا هو الوضع على الأقل لحين انفلات إسرائيل التام من عقالها وبدء هجومها الأخير على لبنان، فالأمر الآن بات حربا من ضمن "المألوف"، مع تقديري لبشاعة التعبير.

* أغلب إشكالات القراءة لهذه الجبهة القتالية تأتي من طغيان الحدث العسكري، النيران وأقواس الدخان ومرأى الصواريخ تسطو بطبيعتها على الحواس، وكثيرا ما يضيع الدقيق الأهم خلف الصاخب المدوي. المُركّبة السياسية لما فعلته المقاومة الإسلامية في لبنان منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 هي مركبة غير عادية، وهي جديرة بأكثر مما قيل وكُتب فيها.

* في أزمنة كالتي نعيشها تحتاج أطلسا بجانبك وتأملا يوميا في الخرائط؛ الخرائط التي بها وعليها ولأجلها يدور كل شيء. أتأمل في المسافة الفاصلة بين أقصى الجنوب اللبناني وأقصى شمال غزة، هناك 200 كيلومتر تفصل بين الطرفين، لكن المدهش في مسافة كهذه منحصر في مترها الأول؛ المتر الذي تعبر عنده الخط الحدودي. هناك مائة عام غائرة في ذلك الخط منذ أن رسمه مَن رسموه، لا أقول "مائة عام" من باب التفخيم واستحضار الكثرة. بل العكس. المدهش هو قصر الفترة قياسا على ما جرى خلالها لترسيخ هذا الخط وجعله أعتى من صدوع الجغرافيا وحواجز الطبيعة الصلدة، هذه مائة سنة أريدَ لها (ولِخطّها) أن تغلب دهرا كاملا سبقها. هنا يَقرأ المرء القيمة الأكبر لما فعله حزب الله، وعندما أطلق قائد القسام نداءه صبيحة الطوفان، داعيا لتوحّد الساحات، فهو دشّن عمليا حملة تمرد جماعي على خارطة هذا الركن من العالم. هذا هو الطوفان في جانب من أهم معانيه السياسية التي يراد طمسها.

* في كل تحرك غربي لإسكات الجبهة اللبنانية، كان المدخل واحدا: فك ارتباط الجبهة عن غزة، ولعامٍ كامل كان الإصرار على هذا الفصل أشد من الإصرار على وقف النيران ذاتها. "فصل الجبهات" ليس طلبا عارضا، فصل الجبهات هو عنوان القراءة الغربية لهذا المكان من العالم، حيث الملّة والعشيرة هي أساس هندسة المجتمع، والدولة القُطرية أساس هندسة الإقليم. أهم ما فعله حزب الله في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر أنه تطاول على هذه الحدود الثلاث (الطائفة والعشيرة والدولة القطرية) وشنّ عليها عدوانا حميدا رغم كل الصعوبات التي جرّها على نفسه بذلك.

* حتى في خضم قتاله داخل الأرض اللبنانية، لا زال حزب الله يُصدِّر بياناته بتلك العبارة المتمردة: "إسنادا للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة". لقد ربط الحزب خطابَه وفعله العسكري بجماعة مِن خارج لفظِه الطائفي والقُطري، ولكن من قلب جُملته العقائدية والقيمية. ولا أدري إن كان كثير مما كُتب في الهجوم على ما فعله الحزب نابعا من غفلةٍ عن هذا الكامن السياسي الكبير، أم بالعكس تماما.. أنه أتى من إدراكٍ تامٍّ له، ورُعبٍ سياسي مما يعنيه.

* ما جرى لم يكن "تطاولا" على كيان سياسي يدعى إسرائيل في المقام الأول، ما جرى كان أوسع من ذلك لأنه حمل تعديا على هندسة المنطقة أيضا؛ الهندسة التي لا ترى سكان هذا المشرق إلا عشائر وطوائف وأصحاب ثارات، وتجعل من الدولة القُطرية الحديثة أداة شوهاء لتأبيد هذا الوضع. تستحق توليفة من هذا النوع جائزة نوبل خاصّة بالإبداع المكيافيلي ودهاء الاستعمار.

هؤلاء هم الانعزاليون الجدد، الذي يرطن بعضهم بالقومية العربية وينادي بعضهم بالوحدة الإسلامية؛ فيما سقف الفكر والتحرر في قاموسهم ينتهي عمليا عند أعتاب الطائفة وحدود الدولة الوطنية، وشكّلت لهم جبهات الإسناد صداعا فكريا ومصدر ارتباك منذ بداية الطوفان. هؤلاء الذين استنفروا أمام انكسار الحدّ الطائفي في المعركة الحالية
وعموما، فأغلب تشوهاتنا المجتمعية لها جذرٌ تأسيسي في عبث الغربيين الممنهج بخرائط القرن الماضي. هذا الكلام لا يكتسب أهميته من قلة قائليه، الواقع أن كثيرين جدا يرددونه، وأن كُتّابا كثرا جعلوا منه ركنا ثابتا في طرحهم لعقودٍ خلت. لكن المدهش هو ما يحصل عندما تنفتح البوابة الأثيرة بين التنظير والتطبيق، المدهش هو الكيفية التي يرتد بها منظّرو الوحدة وخصوم العوائق الحدودية إلى طائفيين صغار وحرس حدود وحُماة متاريس في ساعات كهذه. وطوفان الأقصى بمجمله كان ولا زال فرصة لإدراك المسافة الفلكية التي تفصل قاعة الندوات الأنيقة عن ساحة المواجهة الفعلية.. المسافة التي تفصل تنظير ساعات الهدوء عن لحظة الحقيقة.

* مجمل ما جرى حيال جبهة الإسناد اللبنانية نفض الغبار عن مفهوم الانعزالية وأعاده لساحة التداول، وهو المصطلح الذي راج لبنانيا خلال الحرب الأهلية. وسواء حَضَر المصطلح أم لم يحضر، فإن فكرته ومزاجه ماثلين اليوم خلف كلام كثير يقال ويُكتب. وإنصافا للمارونية السياسية، فالانعزالية لم تكن يوما حكرا على الكتائب وحراس الأرز وبقية مكونات الجبهة اللبنانية. هناك تطور دارويني أصاب هذا المفهوم وأنتج سلالة جديدة من الأتباع والأنصار والمنظّرين، يحملون طفرات جينية لافتة عندما تقارن نسختهم بنسخة الثمانينات القديمة.

* هؤلاء هم الانعزاليون الجدد، الذي يرطن بعضهم بالقومية العربية وينادي بعضهم بالوحدة الإسلامية؛ فيما سقف الفكر والتحرر في قاموسهم ينتهي عمليا عند أعتاب الطائفة وحدود الدولة الوطنية، وشكّلت لهم جبهات الإسناد صداعا فكريا ومصدر ارتباك منذ بداية الطوفان. هؤلاء الذين استنفروا أمام انكسار الحدّ الطائفي في المعركة الحالية، واستشعروا خطرا بانفتاح جغرافيّة المواجهة لتشمل غزة وباب المندب وجبل عامل ومدن العراق، ورأوا في مفهوم وحدة الساحات خطرا وجوديا على مشروعهم السياسي.. هؤلاء هم أمناء الفكرة الانعزالية في ثوبها الجديد.

* ما يُبذل اليوم لفكّ الجبهتين، اللبنانية والفلسطينية، لا يحتاج بيانا. المزاوجة بين الإجرام الناري والابتزاز الإنساني لتحقيق هذه الغاية بات واضحا، والأمر يتعاون فيه صهاينة وعرب على السواء، ومآلات هذا الجهد لإعادة تثبيت خطوط الفصل القُطري والطائفي ستتضح في قادم الأيام، وآثار النتيجة -مهما كانت- ستكون واحدة من أهم فصول هذه الحرب. لكن الأكيد أن 14 شهرا من الاشتباك الناري للمقاومة الإسلامية في لبنان، ببياناتها التي تبسملت دوما بالعبارة الثابتة: "إسنادا للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة" الأكيد أن هذه الشهور الدامية كانت -وستبقى- فصلا فارقا للعمل المقاوم في زمن السطوة الإسرائيلية، وبرهانا أن واقعنا السياسي وخرائط المستعمِرين ليست قدرا محتوما.
التعليقات (0)