مقالات مختارة

تداخل السياسة والرياضة في عالم اليوم

سعيد الشهابي
موروكو وورلد نيوز
موروكو وورلد نيوز
لم تعد الرياضة ممارسة فردية يهدف من يقوم بها للحفاظ على صحته وحركيته، بل تطورت عبر العقود لتتخذ أبعادا واسعة جدا. فقد تحوّلت إلى ممارسة اقتصادية ضخمة جدّا ولها أبعاد سياسية واسعة.

وتكفي الإشارة للأندية العملاقة التي يقوم رجال الأعمال الكبار ببيعها وشرائها بمئات الملايين من الدولارات، وكذلك التعامل التجاري مع الرياضيين الذين «يُباعون ويُشترون» كذلك بالملايين.

بل أن ملابس الرياضيين كالأحذية الرياضية والأزياء التي يرتدونها أصبحت تمثل قطاعا تجاريا واسعا نظرا لارتفاع أسعارها. وحتى حين يكون هناك إصرار على تفادي إظهار بدن المرأة لأسباب دينية أصبحت الملابس الفضفاضة الساترة للجسد متوفرة للرياضيات، وبذلك فتحت مجالا إضافيا للتوسع التجاري في عالم الرياضة. وتواصل استغلال الرياضة والأسماء المرتبطة بها، فأصبح بعض الرياضيين «أيقونات» تشغل اهتمام الجماهير.

فمنذ الستينيات لمعت أصوات رياضية مشهورة مثل محمد علي كلاي في الملاكمة وبيليه البرازيلي (ساحر الكرة) كما اشتهر السبّاح المصري أبوهيف الذي كان أول سبّاح عربي قطع بحر المانش سباحة في 1955. ومع مرور العقود ظهرت «نجوم» رياضية جديدة وأصبح عشاق الرياضة يتشدقون بها.

كما أصبحت الرياضة ذات أبعاد ثقافية غير قليلة، واستطاعت اقتحام البيوت المحافظة لتفرض على أولادها وبناتها أنماطا جديدة من الأزياء وأنماط الحياة.

ويرى بعض المتدينين أنها ساهمت في إضعاف التوجه الديني لأنها شغلت الكثيرين وحاصرتهم في الوقت. كما ينظر لها البعض أنها ساهمت في التسطيح الثقافي لأنها وفّرت للشباب أعذارا للابتعاد عن القراءة والاطّلاع. بل أن بعض الشباب اليافع يترك دراسته ليصبح رياضيا خصوصا في مجال كرة القدم.

وفي الأسبوع الماضي سلّطت وسائل الإعلام الأضواء على طفل هندي (أنيش سركار) البالغ من العمر أقل من أربع سنوات الذي أصبح أصغر لاعب شطرنج محترف في العالم ليسجل بذلك رقما قياسيا.

ومع البذخ المالي الذي يحيط بالعالم الرياضي انتشرت حالة من الثراء في أوساط الرياضيين ليملكوا أفخم القصور والسيارات والشركات. يحدث هذا في عالم لم يعد يهتم بذوي العقول والمفكرين والعلماء، بل أصبح أكثر انشدادا لعالم الترفيه والمتعة والانخراط في الملذّات. وتنتشر هذه الظاهرة بشكل خاص في البلدان الأقل تطورا بسبب ظروفها وعدم توفر وسائل ترفيه حديثة لديها.

ومع توسع النشاط الرياضي في العالم أصبحت له أبعاد سياسية، وكان للصراعات السياسية في قارّات العالم، خصوصا في ذروة الحرب الباردة أثرها المباشر على الرياضة والعلاقات الدولية المرتبطة بها.

فتمت مقاطعة السباقات الدولية بسبب تلك الصراعات، كما حدث مع أولمبياد موسكو في العام 1980 من قبل الدول الغربية. وردّ المعسكر الشرقي بمقاطعة دورة لوس أنجلس في العام 1984 من قبل 14 دولة بزعامة الاتحاد السوفياتي.

وكانت الوحدة الأولمبية قد بدأت بالتلاشي عندما حُرم الخاسرون في الحرب العالمية الأولى (ألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا وتركيا) بقرار حكومي من المشاركة في أولمبياد 1920 في أنتويرب ببلجيكا، كما حرمت ألمانيا من المشاركة في أولمبياد 1924 بباريس. وحدث الشيء نفسه بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث حرمت ألمانيا واليابان من المشاركة في أولمبياد لندن 1948.

وبعد الاجتياح السوفياتي للمجر في العام 1956 قاطعت كل من إسبانيا وهولندا وسويسرا أولمبياد ملبورن متذرّعة بما اعتبرته قمعا للثورة الشعبية في ذلك البلد. يومها كان الوعي القومى العربي عميقا، فقررت مصر والعراق ولبنان مقاطعة تلك الدورة الأولمبية نفسها احتجاجا على مشاركة «إسرائيل» في العدوان الثلاثي على مصر.

وكان من أصعب التحديات في تاريخ الدورات الأولمبية ما حدث عام 1972 عندما هاجمت مجموعة فلسطينية تابعة لأبو نضال مقر البعثة الإسرائيلية المشاركة في أولمبياد ميونيخ وقتلت اثنين من أفراد البعثة.

لقد كان لقضية فلسطين حضور في العالم الرياضي، خصوصا بعد حادثة ميونيخ. وكان لذلك تبعات أمنية واسعة. فقد استهدفت فرق الاغتيال الإسرائيلية أفراد المجموعة التي قامت بعميلة ميونيخ، وقتلت عددا منهم على مدى نصف القرن الماضي. وبمرور العقود أصبح هناك التفاف أوسع حول فلسطين، وأصبح علمها رمزا دوليا للصراع.

وحيث أن «إسرائيل» وحلفاءها سعوا على مدى ثلاثة أرباع القرن لمحو قضية فلسطين من أذهان العالم، فقد أصبح رفع علمها يمثل تحدّيا كبيرا للإسرائيليين. وفي السنوات الأخيرة سعت مجموعات الضغط الصهيونية لإجبار بعض الحكومات الغربية على تجريم رفع ذلك العلم، سواء في التظاهرات أم على حيطان المنازل.

وحتى الآن لم يحدث ذلك ولكن يتوقع استمرار الضغوط الإسرائيلية والأمريكية في اتجاه منع رفع علم فلسطين. وفي الأسبوع الماضي بدأت في الكنيست الإسرائيلي نقاشات حول قانون يمنع رفع العلم الفلسطيني في الجامعات والمؤسسات الرسمية. ووفقا للقانون ستفرض غرامات بالسجن والغرامة بحق من يرفع العلم الفلسطيني، وهددت قوات الاحتلال بالتدخل لتفريق التظاهرات والتجمعات.

وقد أظهرت حادثة النزاع بين الفريقين المغربي والإسرائيلي الأسبوع الماضي في أمستردام عمق المشاعر السياسية التي تتفجر في شكل أعمال عنف في الساحات الرياضية. فقد عمد بعض المشجّعين الإسرائيليين لإزالة الأعلام الفلسطينية التي عُلّقت في بعض جوانب الملعب، الأمر الذي اعتبر استفزازا وعدوانا غير مبرر. وفي إثر ذلك انتفض المشجعون المغاربة وتصدّوا للمشجعين الإسرائيليين، فحدثت مشادات وعنف نجم عنه بعض الإصابات.

وحدثت في إثر ذلك تفاعلات سياسية ودبلوماسية، وصدرت دعوات من بعض العناصر اليمينية المتطرفة مثل خيرت فيلدرز، السياسي اليميني المتطرف زعيم حزب «الحرية» الفائز بالانتخابات التشريعية الأخيرة، لمعاقبة المغاربة بسحب جنسياتهم، برغم أن عملهم كان ردة فعل لاستفزاز الإسرائيليين الذين نزعوا الأعلام الفلسطينية. هنا يتضح مدى خطر التداخل بين السياسة والرياضة.

فقد يكون هذا التداخل إيجابيا، فيقرّب بين الشعوب ويتعالى على الاختلافات السياسية والأيديولوجية، وقد يتحوّل إلى عامل مساعد لتفجّر الخلافات واندلاع النزاعات.

ومن المؤكد أن حادثة أمستردام قد أدخلت الرعب في قلوب السياسيين والرياضيين على حد السواء، فما يزال بعبع ما حدث في ميونيخ قبل أكثر من نصف قرن ماثلا أمام أعين هؤلاء، وسببا لتعمق الشعور بضرورة الفصل بين المسارات السياسية والرياضية. وهذا أمر غير ممكن في عالم يزداد فشلا في حل المشاكل العالقة بين الدول أو الشعوب.

الرياضة كانت وما تزال طريقا إلى الشهرة التي من شأنها أن توفر للأشخاص مجالا للصعود في السلّم السياسي حتى الوصول إلى الرئاسة في بعض الأحيان. ومن هؤلاء جورج ويا لاعب الكرة الليبيري الذي كان يوما أفضل لاعب في أوروبا وأفريقيا قبل أن يفوز بالانتخابات الرئاسية لبلاده في 2017.

وفي العام الماضي أصبح خافيير ميلي رئيسا للأرجنتين بعد تفوقه على منافسه سرجيو ماسا. هذا الرئيس كان لاعب كرة قدم سابقا وبالتحديد حارس مرمى في شبابه مع فريق تشاكاريتا جونيورز. وهناك لاعبو كرة كثيرون تحوّلوا لاحقا إلى سياسيين مرموقين في بلادهم.

وما تزال هذه الرياضة تستهوي الكثيرين، ومن بينهم الزعماء. وكثيرا ما حضر رؤساء دول مباريات منتخباتهم الوطنية في المباريات خصوصا إذا وصلت هذه الفرق إلى مرحلة التصفيات النهائية للفوز بكأس العالم.

ومن جانب آخر بقيت دورات كرة القدم مجالا للغط السياسي الواسع. وفي العقود الأخيرة طرحت شروط إضافية يجب أن تتوفر لدى الدول التي تتقدم بطلب استضافة كأس العالم مثلا. وكجزء من عملية تقديم ملف الترشّح لاستضافة المونديال، تنص قواعد الفيفا على أن الدول يجب أن تحترم «حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا» لكن أحدث تقرير لمنظمة العفو الدولية حول عرضين لاستضافة دورتي 2030 و 2034 خلص إلى أن «أيًا من العرضين لم يثبت بشكل كافٍ كيف استوفى معايير الفيفا لحقوق الإنسان».

وتُبرّر تلك الدعوات بأن الرياضة أصبحت تستخدم كغسيل لتحسين سمعة الدول ذات الملفات الحقوقية السوداء. وفي السنوات الأخيرة شاع استخدام مصطلح «الغسيل الرياضي» أو «غسيل السمعة عبر الرياضة» لتفسير حماس بعض الدول لاستضافة الدورات الدولية وشراء الأندية الرياضية واللاعبين المرموقين.

القدس العربي
التعليقات (0)