كتب

الأبعاد المنهجية والفكرية والتربوية في مشروع عبد الحميد أبو سليمان.. كتاب جديد

يمثل عبد الحميد أبو سليمان رحمه الله، واحدا من مؤسسي المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذين عاشوا تجربة التأسيس منذ بداياتها الأولى..
يمثل عبد الحميد أبو سليمان رحمه الله، واحدا من مؤسسي المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذين عاشوا تجربة التأسيس منذ بداياتها الأولى..
الكتاب: عبد الحميد أبو سليمان مسيرة المعرفة والمنهج
المؤلف: تأليف جماعي
تحرير رائد جميل عكاشة
الناشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي
الطبعة الأولى: 2024

يمثل عبد الحميد أبو سليمان رحمه الله، واحدا من مؤسسي المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذين عاشوا تجربة التأسيس منذ بداياتها الأولى، فعاصروا مختلف تحولاتها وأسهموا في بلورة  توجهاتها وتدقيق مفردات المشروع، بل كان من أوائل من انخرط في إسلامية المعرفة، فساهم في صياغة جزء من أسلمة العلوم الاجتماعية من خلال تخصصه العلوم السياسية، وتحمل مسؤولية إدارة المعهد، ثم مسؤولية إدارة الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، التي تعدّ هي الأخرى من مشاريع المعهد، فكانت فترة إدارته للجامعة فرصة لتنزيل أفكاره في إصلاح التعليم الجامعي، وصياغة مناهج الجامعة بوحي من مشروع أسلمة العلوم، كما كانت فرصة لإنضاج رؤيته في مجال التربية وإصلاح الوجدان، بعد أن كان يركز  في كتاباته التأسيسية على ثلاثي الرؤية الفكرية، وإصلاح العقل المسلم، وإعادة صياغة الرؤية التربوية لبناء الوجدان الإسلامي.

وكعادة المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الاحتفاء بمؤسسيه، والرموز الفكرية التي صاغت مشروعه، فقد نظم مؤتمرا تمحور حول إسهامات الرجل في الإصلاح الفكري والتربوي، استقبل عددا كبيرا من الأوراق البحثية من نخبة من المثقفين والمفكرين والباحثين، فتحصل منها حوالي سبعة عشر ورقة، في مؤتمر نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي بتاريخ 21 و 22 شباط/ فبراير 2023، في العاصمة الماليزية كوالمبور، وذلك بالتعاون مع الجامعة  الإسلامية العالمية بماليزيا وجامعة فيرفاكس الأمريكية، نشرت أعماله ضمن هذا الكتاب موضوع المراجعة.

 بين يدي الكتاب:

تضمن هذا الكتاب سبعة عشر ورقة علمية، تقدم بها باحثون من مختلف الدول العربية والإسلامية (مصر، المغرب، السودان، الجزائر، الأردن، قطر، تونس، ماليزيا)، تنوعت مقارباتها بين تتبع وتحليل أدبيات الرجل، وبين دراسة تحولات خطابه الإصلاحي، وقراءة  الأبعاد الفكرية في مشروعه، وتقييم منزلته في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر، واستقراء مفاتيح الإصلاح المنهجي لديه، ودرلسة جدل الاجتهاد والتجديد في إسهاماته الفكرية، ودراسة الوعي السنني في مشروعه، وتقييم العلاقة بين منتوجه الفكري ورؤيته الإصلاحية العملية، ورصد وتحليل سؤال المنهج التوحيدي في منجزه الفكري، واستقراء وتحليل موقع العقل ووظائفه في نموذجه المعرفي، ودارسة وتحليل منتوجاته الإبداعية (جزيرة البنائين)، واستقراء رؤيته وشكل تعاطيه مع الفكر الغربي، وجدل الأنا والآخر (التثاقف) في مشروعه الفكري، والرؤية الكونية القرآنية ومساهمته في التأسيس الإيبستمولوجي لعلوم اجتماعية إسلامية، وتقييم مشروعه في الإصلاح التربوي، فضلا عن مواقع التفكير الإبداعي في مشروعه التربوي، ومركزية التربية على السلم ومناهضة العنف في أطروحته الإصلاحية.

انشغل المشروع الفكري الإصلاحي لعبد الحميد أبو سليمان على ثلاثة أبعاد مركزية؛ أولها: قضية الإصلاح الفكري والمنهجي (وتمثل مرحلة أسلمة المعرفة وأزمة العقل المسلم عنوانها الرئيس). والثانية: قضية الإرادة والإصلاح والوجدان (القضية التربوية). والثالثة: قضية الرؤية الكونية القرآنية.
وقد أحسن المعهد العالمي للفكر الإسلامي حين اختار أن يجعل فاتحة الكتاب مادة دسمة، قدمت بيبلوغرافيا شاملة ليس فقط لكتابات عبد الحميد أبو سليمان باللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية، وإنما تضمنت أيضا مسحا مستوعبا لأهم ما كتب حوله من دراسات وأوراق بحثية، فوفر بذلك أرضية مرجعية مهمة، يمكن للباحث أن يفيد منها في قراءة منتوج الرجل الفكري، ورؤيته الإصلاحية سواء في المجال الفكري أو المنهجي أو التربوي.

كما نجحت أوراق المؤتمر (مادة الكتاب) في استقراء وبحث وتحليل سياق تشكل أطروحة عبد الحميد أبو سليمان الإصلاحية ومسارات تحوله، وتأثيره في صياغة أطروحة المعهد ومشروعه لأسلمة المعرفة، واستقراء الثابت والمتحول في خطابه الإصلاحي ومحاولة تفسير ذلك، وأهم المفردات في مشروعه  الإصلاحي، فحصل التتبع الدقيق لمخرجاته البحثية والفكرية، وذلك منذ اللحظة الأكاديمية (بحوثه الجامعية في تخصصه)، إلى لحظة نضج الرؤية الإصلاحية بأبعادها المختلفة، وتحليل قضاياها وعناوينها واتجاهاتها، وذلك في سياق كرونولوجي يغطي مراحل حياته الفكرية والعملية، كما نجحت في تحليل جوانب مهمة من مشروعه الفكري؛ سواء كانت في مجال الفكر أو المنهج أو التربية، فتم تسليط الضوء على  موقع العقل والتفكير النقدي في كتاباته، ومنهجه في فهم القرآن والسنة، وشكل تعاطيه مع الفكر الغربي، وانفتاحه  على العلوم الاجتماعية وشكل إفادته من  التراكم المنهجي الحاصل فيها، ولم تغفل هذه الأوراق تسليط الضوء على الأبعاد الإصلاحية في تجربته العملية، وانعطافه إلى المسألة التربوية، وتأكيده موقعها الاستراتيجي في المشروع الإصلاحي، وانخراطه في تطوير هذه الرؤية؛ نقدا وتنظيرا، وتنزيلا وصناعة محتوى.

محطات في مشروعه الفكري والإصلاحي:

قدمت مقدمة كتاب عبد الحميد أبو سليمان: "الرؤية الكونية"، تأريخا مفصلا يكشف السياق الزمني للأدبيات التي أصدرها ما بين 1960 و 2009، فذكر فيها أنه أعد أول كتاب له وهو لا يزال على مقاعد الدراسة، في مرحلة دراسة الماجستير في كلية التجارة بقسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة، فكانت أولى هذه الأدبيات "نظرية الإسلام الاقتصادية: الفلسفة والوسائل المعاصرة"، الذي صدر سنة 1960، وأشار إلى أنه اشتغل في أطروحة رسالة الماجستير على موضوع:" السياسة البريطانية في عدن والمحميات بين عام 1799 وعام 1961" دون إشارة إلى نشرها.

وذكر بأن الكتاب الثاني، كان هو رسالته للدكتوراة، التي نالها من جامعة بنسلفانيا بمدينة فيلادلفيا بأمريكا، ونشرها المعهد باللغة الإنجليزية سنة 1973، وترجمها ناصر البريك للغة الغربية تحت عنوان: "النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية". وأشار إلى سياق تأليف كتابه الثالث: "أزمة العقل المسلم" سنة 1986، أي بعد تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 1981، وتزامنه مع الاشتغال على مراجعة وتدقيق وإعادة تحرير وثيقة المعهد "إسلامية المعرفة: المبادئ العامة خطة العمل، الإنجازات" التي حررها إسماعيل الفاروقي، وسجل فيها منطلقات رسالة المعهد ونتائج المؤتمر الدولي الذي عقده المعهد في إسلام آباد عن إسلامية المعرفة.

لم تغط هذه السردية  فترة عشر سنوات شغل فيها مهمة إدارة الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا (ما بين 1989 و1999)، واكتفت بالحديث عن استئناف عملية التأليف والاهتمام بقضية التربية، إذ تفرغ لإنجاز كتابه:" أزمة الإرادة والوجدان المسلم" (2004)، الذي استغرقت فيه عملية التفكير والتحرير قرابة خمس سنوات.

ورغم عدم تغطيته لهذه السنوات الخمس، إلا أن استقراء تواريخ إصدار مختلف أعماله، يشير  إلى أن هذه السنوات الخمس لم يكن فيها مشغولا فقط بكتابة كتابه المرجعي عن "أزمة الإرادة والوجدان"، بل انشغل فيها أيضا بقضايا أخرى أثمرت إصدار: "العنف وإدارة الصراع في فكر الإسلامي"، و"الإنسان بين شريعتين"، و"ضرب المرأة وسيلة لحل الخلافات الزوجية"، ومقالتيه المطولتين: "نظام العقوبات الإسلامية الثابت والمتحول" و"إشكالية الاستبداد في الفكر والتاريخ الإسلامي".

تنتهي سردية عبد الحميد أبو سليمان عند سنة 2008، بوصفها سنة إصدار "الرؤية الكونية"، الذي حرص فيه عبد الحميد أبو سليمان أن يكشف عن سياق التحول في مشروعه الفكري الإصلاحي.

ست محطات في مشروع عبد الحميد أبو سليمان للإصلاح الفكري والمنهجي والتربوي

كشفت سردية عبد الحميد أبو سليمان عن ست محطات أساسية في مشروعه الإصلاحي الفكري:

ـ محطة ما قبل إسلامية المعرفة أو إرهاصات إسلامية المعرفة: ويمثل لها بكتابيه: نظرية الإسلام الاقتصادية، والنظرية الإسلامية للعلاقات الدولية.

ـ محطة التأسيس لمشروع إسلامية المعرفة: وضمنه يمكن أن نسوق الحراك الدينامي في كل من أوربا وأمريكا وعدد من الدول العربية والإسلامية لجمع العلماء المسلمين المختصين بالعلوم الاجتماعية؛ بهدف الصياغة الإسلامية للعوم الاجتماعية، وما أفضى إليه ذلك من الاتفاق على تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 1981.

ـ محطة صياغة الأساس الفكري والمنهجي لمشروع أسلمة المعرفة: ويمكن أن نمثل لها بكتاب أزمة العقل المسلم، وكذا بوثيقة إسلامية المعرفة، التي قام عبد الحميد أبو سليمان بتدقيقها وإعادة صياغتها.

ـ المحطة العملية والانقطاع عن التأليف: وهي المرحلة التي أثقل فيها كاهل عبد الحميد أبو سليمان بالمسؤولية في إدارة الجامعة الإسلامية بماليزيا لعقد من الزمن، وذلك من 1989 إلى سنة 1999.

ـ محطة حصل فيها الانعطاف نحو القضية الوجدانية والنفسية والتربوية وتأكيد مركزيتها في الإصلاح: ويمكن أن نمثل لها بكتاب "أزمة الإرادة والوجدان المسلم".

ـ والمحطة الأخيرة المعنية بالرؤية الكونية، التي حاول أن يستدرك فيها فراغا نتج عن الاعتماد على أطروحة أزمة العقل المسلم، وأطروحة أزمة الإرادة والوجدان المسلم، بالانعطاف إلى سؤال الرؤية التي تحدد الغاية والهدف، فتجعل الطريق السليم في التفكير والتربية السليمة، تؤدي للأهداف والغايات التي تحددها هذه الرؤية، ويمكن أن نمثل لها بكتاب الرؤية الكونية.

الأبعاد الثلاثة في مشروع عبد الحميد أبو سليمان الإصلاحي

انشغل المشروع الفكري الإصلاحي لعبد الحميد أبو سليمان على ثلاثة أبعاد مركزية؛ أولها: قضية الإصلاح الفكري والمنهجي (وتمثل مرحلة أسلمة المعرفة وأزمة العقل المسلم عنوانها الرئيس). والثانية: قضية الإرادة والإصلاح والوجدان (القضية التربوية). والثالثة: قضية الرؤية الكونية القرآنية.

انشغل أبو سليمان مبكرا بصياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، وقدمت أعماله المبكرة سواء من خلال النظرية الاقتصادية في الإسلام، أو أطروحته للدكتوراة البواكير الأولى لهذا الاهتمام، ليأتي كتابه "أزمة العقل المسلم"، ويشكل منعطفا مهمّا في تطور مشروعه الفكري؛ إذ تعمقت نظرته  النقدية للفكر الإسلامي ومنهجيته التقليدية، وتبلورت عناصر المنهجية التي دعا إلى استثمارها في قراءة التراث الإسلامي، فانتقد مناهج فهم مصادر التشريعية بالارتهان إلى مبحث الدلالات اللغوية، ودعا إلى ضرورة استحضار فهم للواقع وسياقه وإمكاناته وحاجياته وتحدياته، لفهم النص الشرعي ومقاصد تنزيله، وانتقد اللجوء المكثف للنسخ في فهم العلاقة بين القرآن والسنة، معتبرا اللجوء لهذه الآلية تغييبا لجملة من الأبعاد المهمة في فهم النص الشرعي، مثل السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة وحركية الفقه والفكر الإسلامي، وبعدي الزمان والمكان وموضع النص الجزئي من أصل مجمل الوحي والفطرة الإنسانية والكونية، وكانت له ملاحظات على الكسب الأصولي في التعاطي مع الأدلة، فانتقد الطابع النظري البحت في دليل الإجماع، وعدّ القياس الجزئي فاقدا لقدرته  وفعاليته الاجتهادية، منذ توسع رقعة أرض الإسلام وتعدد شعوبه وتغير الأحوال والإمكانات والحاجيات والتحديات، إذ لم يلتفت العلماء لمبررات بروز دليل الاستحسان في الفقه  الحنفي بالعراق، كجواب على محدودية القياس، والحاجة لتخطي النظر الجزئي إلى النظر وفقا لمقاصد الشريعة  وروحه.

كما اهتم بقضية تجديد الخطاب الديني، فكتب في ثلاث قضايا تكشف رؤيته بهذا الخصوص، هي: قضية نظام العقوبات في الإسلام (1998)، وقضية العنف (2001)، وقضية ضرب المرأة (2001)؛ فقدم في الأولى مقاربة جديدة  في التعامل مع النصوص الشرعية، تفيد من خبرة العلوم الاجتماعية، فاستثمر نتائج دراسة نفسية اجتماعية حول سكن الطلاب الجامعي، ليجعلها عمدة في فهم مقاصد الشريعة في حصر عدد الشهود في إقامة الحد في بعض جرائم العرض  في أربعة، فانتهى إلى أن العدد المثالي لسكن الطلاب الجامعيين، هو أربعة طلاب في غرفة واحدة،  معتبرا أن العدد يمثل ـ حسب خلاصات الدراسة ـ، الحد الأدنى للتفاعل الاجتماعي المتكامل، الذي ينشأ معه توازن اجتماعي، وإشباع للحاجيات الإنسانية، ليخلص من ذلك إلى إدراك المقصد من حصر عدد الشهود لإقامة الحد في جرائم العرض في أربعة، وأن هذا العدد ليس اعتباطيّا، وإنما يحمل دالة نفسية واجتماعية مهمة، وأن المعيار فيه  هو اعتبار أن الفعل تم أمام أعين المجتمع جهرا وعلانية، ليتم التحقق من أن مقصد فاعليه هو إشاعة  الفاحشة والفساد والعدوان على حرية الآخرين وخيارهم.

في القضية الثانية، وعلى نسق المنهجية الفكرية الشمولية المنضبطة، التي التزمها أبو سليمان في مختلف أدبياته في التعامل مع هذه النصوص الشرعية، حاول أن يقارب موضوع العنف وإدارة الصراع، وأن يتقصى جوانب الموضوع لفهم دلالات التوجيه النبوي لأبي ذر الغفاري لزوم بيته زمن الفتن، فتطلب منه الأمر استعادة الصورة الكبرى التاريخية لأحداث حركة ظهور الإسلام، وأسلوبه في إحداث التغييرات التي هدف إليها، وكيف أدار الرسول صلى الله عيه وسلم الصراع السياسي العقدي الإصلاحي، في المراحل المختلفة التي مر منها بناء الدولة والمجتمع في مكة والمدنية، ومع من جاوره في بلاد غير العرب، من الأصدقاء والأعداء وأتباع الديانات، فخلص إلى أن الرسول الكريم كان موجّها بمبادئ عامة، وخطة سياسية واستراتيجية واضحة محددة، التزم بها النبي عليه السلام في إدارة الصراعات السياسية الهادفة إلى التغيير والإصلاح الإسلامي ومقاومة الفساد، وأن مقتضيات إدارة الصراع في ميدان السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، هي التي أملت تغير المواقف والتكتيكات، وأن النصوص التي قد تبدو متنافرة، ويصعب رصفها في صعيد واحد، لا تبرر التعامل معها بمنطق النسخ؛ لأنها في الواقع كانت تعكس موازين القوى، وحاجة الرسول في مرحلة إلى أسلوب معين في إدارة الصراع، فاقتضى منه ذلك إدارة الصراع في مكة باعتماد الأساليب السلمية السياسية، فتغير الأسلوب في المرحلة المدنية، للاعتبارات نفسها.

يرتب أبو سليمان على هذا الاستنتاج خلاصة مهمة، أن ما كان سياسيّا داخل أي مجتمع، لا يحل بشكل إيجابي إلا عبر السياسة، وأنه لا يصح إعطاء المشروعية لأي من الحلول القهرية أو العنفية، من أي فئة من فئات المجتمع حاكمة كانت أم محكومة، في كل ما يتعلق بقضايا المجتمع ذات الطابع السياسي العام، وأن الصبر على الأذى شرط ضروري لطلب الحق ودعوة الإصلاح ومقاومة الفساد، كما أنه ضروري لجهاد العدو الأجنبي الظالم.

في القضية الثالثة، المرتبطة بضرب المرأة، اختلف منهجه قليلا عن  سابقه، كون المشكلة مرتبطة بنص قرآني، وليس بنص حديثي أو اجتهاد تراثي، فانعطف أبو سليمان لمبحث الدلالات اللغوية، لاستقراء لفظة الضرب في القرآن الكريم، واختيار أقربها دلالة على المعاني الكلية التي يقررها الإسلام في بناء الأسرة وتنظيم العلاقات بين الزوجين.

يقر أبو سليمان أن هذه القضية المرتبطة بكرامة المرأة، شكلت له حالة قلق فكري، لاسيما مع تنامي الهجمات التي تستهدف الإسلام، وأن الإسلام أعطى الأسرة أولوية كبيرة في بنائه الاجتماعي، وأنه حرص على أن تكون المحبة والمودة والرحمة هي القيم المؤسسة للبناء الأسري، وأنه أطر لحظة الخلاف بجملة إجراءات مرتبة؛ حرصا منه على تحصين التماسك  الأسري، وأن هذه القيم المؤسسة، والإجراءات التي قررها لتدبير الخلاف وإنهائه، لا تتناسب مع تسويغ ممارسة العنف لحل الخلاف الزوجي، خاصة أن الإهانة بالضرب، والحط من الكرامة بالإيذاء، لا يستقيم معه إصلاح للأسرة، ولا يضمن عودتها إلى مسارها الطبيعي.

هذا الإطار العام الذي وضع فيه أبو سليمان المشكلة، دفعه لتجميع الآيات التي تؤطر العلاقات الزوجية، وذلك لفهم مقاصد الإسلام الكلية في بناء الأسرة ورعايتها وإصلاح ذات البين بين أفرادها، ثم اتجه بعد ذلك إلى استقراء الآيات القرآنية التي ورد فيها لفظ الضرب، ليستخلص منها خمسة عشر معنى مختلفا، ليرجح عبر مبحث الدلالات اللغوية، أن المقصود بمعنى الضرب هو العزل والمفارقة والترك والإبعاد عن بيت الزوجية لفترة من الزمن؛ ليكون ذلك دافعا للزوجة الناشز إلى تغيير سلوكها، والعودة إلى جادة الصواب، وترشيد العلاقة الزوجية.

النموذج الذي يقدمه أبو سليمان يعكس روحا عالية من الاستقلالية الفكرية، التي لا تنقاد بسهولة، ولا تساير المألوف من الآراء، بل تبحث دائما عن التفسير الموضوعي للنص الشرعي، في سياق اشتباكه مع الواقع وتحدياته.
في البعد الثاني، أي الانعطاف للقضية التربوية، تتلخص أطروحته الجوهرية في بيان موقع القضية التربوية في المشروع الإصلاحي، وأن إعادة بناء النفسية المسلمة، واستعادة قدراتها وطاقتها الأخلاقية الحضارية بهدف إنجاح المشروع الحضاري الإسلامي، أضحت تشكل أولوية لا ينبغي إهمالها أو خفض درجتها.

يقدم أبو سليمان حجتين اثنتين، أولهما، قراءة جذور أزمة الأمة، وكيف شكل تغير القاعدة السياسية للحكم أساس هذه الأزمة من خلال حلول الأعراب محل الأصحاب، وما يرمز له ذلك من تغير القاعدة القيمية والتربوية التي كان يتأسس عليها الحكم الراشد. وأما الحجة الثانية، فقد استمدها من قصة موسى عليه السلام، والتحدي الذي واجهه، حين عجز بنو إسرائيل عن التزام توجيهاته بالمبادرة والدخول إلى أرض فلسطين ومواجهة من فيها، فألهم من قبل ربه، أن الشعب الذي نشأ على العبودية عقلية ونفسية، لا يمكن أن تكون معه عناصر الفعالية والمبادرة والاقتحام، فكان العقاب الإلهي بأن يخوض بنو إسرائيل أو جيل الآباء منهم المُنَشؤون على ثقافة العبودية، أربعين سنة من التيه في صحراء سيناء، لكي يتفرغ موسى لتربية أبنائهم وتنشئتهم على ثقافة وتربية لا أثر للعبودية فيها، تسمح لهم بتفجير طاقاتهم وتحقيق تطلعات أمتهم وانتظاراتها.

يتوقف طويلا عند هذا الدرس الموسوي، وكيف توجه موسى عليه السلام للعمل الجذري القاعدي؛ لتحقيق الإصلاح وإحداث التغيير على مستوى العقل، وعلى مستوى الوجدان وعدم تعجل الثمر، وذلك بالعمل على إعادة تربية القوم وتوجيه العناية للناشئة وبنائها على الأسس السليمة ثقافة وعقلا ووجدانا، لإحداث قطيعة مع جيل عهد الاستبعاد، ببناء جيل الأحرار.

وفي البعد الثالث، أي الانعطاف نحو الرؤية الكونية، وقد لازمت مشروعه في جميع محطاته، جاء تأليف كتابه "الرؤية الكونية"، في سياق تعميق الفكرة، وتأكيد راهنيتها في تنزيل المشروع؛ إذ حاول من  خلال شرح وتفصيل مفردات الرؤية الكونية، إعادة التذكير بالأفكار الثلاثة التي تنتظم مشروعه: إصلاح العقل المسلم، والرهان على البناء النفسي والتنشئة التربوية ابتداء من مرحلة الطفولة، وتأطير الاهتمامين السابقين بمفردات الرؤية الكونية وفلسفتها.

واضح من هذه المرحلة التي اندرج فيها تأليف الكتاب، أن القصد ليس فقط إعادة تأكيد أهمية الرؤية الكونية في مشروعه، ولكن إثبات نوع العلاقة التي تجمها بالمكونين الأساسيين في مشروعه (إصلاح العقل المسلم، والبناء النفسي والوجداني للأمة)، فالاقتصار على معالجة أزمة المنهج بالدلالة على الطريق التي تهدي إلى الأسلوب الذي يكون به التفكير سليما،  وعلى البناء النفسي والوجداني للأمة في معالجة التشوهات الفكرية والثقافية، ووضع حدّ للممارسات والأساليب الخاطئة في تربية الإنسان المسلم، لا يكفي في حل الأزمة، إن لم تكن المهتمان معا، مؤطرة بهدف وغاية تستمد من الرؤية الكونية التي توفر الدافعية للتحرك ولفعل والإيجابية.

وفي المجمل، يقدم الكتاب خدمة كبيرة للباحث في قضايا الإصلاح ومشاريعه، وبقدر ما ينبهه إلى إسهام أبو سليمان في سد ثغرات مهمة في هذا المشروع، بقدر ما يلفت نظره إلى منهجية جديدة متفردة، اختص بها أبو سليمان سواء في قراءة النص الشرعي أو التعامل مع التراث الإسلامي أو الإفادة من الكسب الإنساني، فالنموذج الذي يقدمه أبو سليمان يعكس روحا عالية من الاستقلالية الفكرية، التي لا تنقاد بسهولة، ولا  تساير المألوف من الآراء، بل تبحث دائما عن التفسير الموضوعي  للنص الشرعي، في سياق اشتباكه مع الواقع وتحدياته.
التعليقات (0)

خبر عاجل