لا أنسى أبدا "الواد
28" الذي سمعت عنه في مقر (أو مقبرة) أمن الدولة.. إنه أول مواطن من "شعب
السجن" تسجله ذاكرتي برغم العتمة والغموض.
أعترف وأؤكد أنني كنت من
المحظوظين القلائل الذين تعرضوا لمحنة الاحتجاز في أمن الدولة والحبس في
السجون
المصرية، فقد كان هناك حرص منذ أول لحظة على معاملتي باحترام مشدد والتزام ظاهر
بنصوص القانون، دون تجاوزات من أي نوع.
لكن الشهادة عن السجون ليست
فردية، هناك جوانب مهمة في شهادة السجين، لم تحدث له أو معه، لكنها حدثت لغيره، أو
عُرف بها واستوثق منها بحكم معايشته لتجربة الاحتجاز
الشهادة عن السجون ليست فردية، هناك جوانب مهمة في شهادة السجين، لم تحدث له أو معه، لكنها حدثت لغيره، أو عُرف بها واستوثق منها بحكم معايشته لتجربة الاحتجاز
حرص ضباط الأمن الوطني
(بتعليمات واضحة من الإدارة) على استجوابي مفتوح العينين، أحتسي النيسكافيه مع
الضابط المحقق الذي يظهر الود ويبتسم، ويعبر عن احترامه وتقديره ولا ينطق اسمي إلا
مسبوقا بصفة "أستاذ" وملحوقا بكلمة "حضرتك"، وسمعته يصرخ
بجانبي في غضب مفتعل ويوبخ الحراس، لأنهم وضعوا "عصابة" سوداء على عيني،
دون أوامر منه!
حدث ذلك داخل السيارة في
منتصف الطريق، كان الضابط يجلس بجواري كصديق، يسأل بود واستفسار قبل أي تحقيق
رسمي، فجأة قال الضابط البشوش الذي يرتدي ملابس مدنية: نزلني عند "أون ذا ران"
وبعد ثوان معدودة توقفت السيارة على جانب الطريق أمام محطة وقود، ونزل الضابط إلى
وجهته، وبعد دقائق قليلة من التوقف، قام شخص من قوة الضبط والاقتياد واستأذنني في
خلع بيريه كنت أرتديه، وطلب نظارتي الطبية بأدب، ثم شرع في وضع الكلبشات في يدي والعصابة
على عيني، فقلت بصوت مسموع: الحمد لله.. عشت ونلت ما توقعت.. شكرا يا مصر.
مرت دقائق قليلة في صمت حتى
سمعت صوت إغلاق باب "الباسات" البيضاء "الجرار"، وأحدهم يأمر
السائق: اطلع.
فهمت الموقف بسهولة شديدة:
الضابط لا يريد أن يخالف تقاليد اقتياد المقبوض عليهم إلى مقر الأمن الوطني، ولا
يريد أن يحدث ذلك في حضوره، حتى لا يعكر الود الذي أظهره في التعامل معي، والذي
تبين بعد ذلك أنه "ود منهجي" كي لا أسجل في ذاكرتي أية تجاوزات إنسانية أو
قانونية عن معاملة الأمن للمحتجزين من خلال شهادة شخصية.
لم أرهق ذهني بمحاولة التعرف
على الطريق أو الوجهة، فكل السبل في مثل هذه الحالة تقود المحتجز إلى مكان لسلب
حقوقه وحريته.
وصلنا إلى المكان.. أصوات فتح
بوابة كبيرة والسيارة تتحرك ببطء في فناء مبلط، كما يبدو من صوت العجلات، وأمسك
أحد الحراس برأسي وأخفضها حتى لا تصطدم يسقف السيارة أثناء نزولي، واقتادني معصوب
العينين عبر سلالم وطرقات ضيقة حتى وصلنا إلى المكان الذي سمعت فيه صوت الضابط
مجددا: قف هنا.
ولم تمض دقيقة حتى سمعت توبيخ
الضابط للحراس: إيه ده؟.. شيلوا الحاجات دي.. فين نضارة الأستاذ؟.. افتحوا الحمام
الخاص.. اتفضل يا أستاذ احنا آسفين.
* أتفضل فين؟
- استخدم
الحمام واغسل وشك من المشوار.. خد وقتك أنا بانتظارك في المكتب
خرجت من الحمام فأرشدني
الحارس إلى مكتب الضابط القريب جدا، فقام مرحبا وسألني تشرب إيه؟ وللا نفطر الأول؟
قلت بشكل عملي: شكرا مفيش
داعي نبدأ التحقيق، وأعرف إيه المطلوب مني؟
قال: ما يصحش.. انت ضيفنا،
ولازم نعمل الواجب وأصول الضيافة.
وأضاف قاصدا تلطيف الجو:
حضرتك بخيل وللا إيه؟.. تطلب وللا تسمح لي أطلب لك أنا؟
قاطعته بجفاف: انت هتحقق معايا كده؟
نظر مستغربا السؤال ورد بسؤال: كده إزاي؟
قلت: وأنا شايفك ومفيش حاجة على عيني ولابس نضارتي وبفطر و..
قال بتودد: حضرتك ضيفنا مش إرهابي
ولا مجرم، و..
بدأنا التحقيق بأسلوب غير
رسمي تماما، لا يوجد سين وجيم ولا كاتب جلسة ولا توثيق.. دردشة ودية، كأنها بين
صديقين، وعندما بدأت الدردشة تتطرق إلى أسماء، قلت بحزم: اسألني عن نفسي وفقط، لا
تسألني عن أي شخص آخر. وفي كل مرة كان الضابط البشوش يخفف التوتر كلما ظهر في
ردودي، ويتجنب أي تحفظات أُبديها، وبعد وقت لا أعرفه رن هاتفه، فنظر فيه وضغط لكتم
الصوت، واستأذن لإجراء اتصال تلفوني خارج المكتب: دقايق.. المكتب مكتبك.. اتصرف
براحتك.
طالت الدقائق قليلا، وفوجئت
بوجوه أخرى تدخل وتطلب النظارة والبيريه وتفتش جيوبي وتخرج كل ما فيها، وتضع
العصابة على عيني، وتقتادني إلى المجهول:
سألت: على فين؟
لم يرد أحد!
صعدنا درجات وهبطنا درجات
وخرجنا من مكان ودخلنا على مكان آخر، في الغالب انتقلنا من مبنى إلى مبنى آخر يفصل
بينهما فناء مكشوف.
صعدنا درجا في حدود طابق
واحد، وبدأ الحارس الذي وضع "الكلبش" في يدي اليمنى ويده اليسرى يتصرف
بحرص شديد في الحركة: خللي بالك سلم.. عتبة عالية.. ارفع رجلك فوق شوية الخطوة
الجاية.. خليك شمال معايا، حتى أنه كان أحيانا يمسك ساقي ويرفعها لأعبر فوق شيء
ما، دون أن أدوسه.
تحرك فضولي بشكل غريزي لمعرفة
الموقف الغريب وبدأت أحاول الرؤية من تحت العصابة، وتبينت أنني أمر بين أجساد
بشرية ممددة على الأرض في طرقة طويلة، وقبل أن نصل إلى نهايتها ألقى الحارس
بتعليماته: في المكان اللي هتدخله مفيش تعامل بالأسماء.. انسى اسمك وافتكر الرقم
ده (133)، انت من دلوقتي اسمك 133 وللا تحب تختار رقم تاني تفتكره أكثر؟
بدأت أحاول الرؤية من تحت العصابة، وتبينت أنني أمر بين أجساد بشرية ممددة على الأرض
لم أرد عليه، حتى وصلنا إلى
نهاية الطرقة، فخلع الكلابش من يده وهو يقول: "خليك مكانك من غير حركة"،
وابتعد خطوات وبدأ في حوار بصوت خفيض مع حراس المكان لتسليمي وإلقاء تعليمات البيه
الضابط وأشياء لم أسمعها، لكنني فهمتها مع توالي الأحداث.
جاء الحارس الآخر وأمسك بيدي
وهو يقول: حمدا لله على السلامة.. إيه اللي جايبك هنا؟
ولم أرد، ولم يكن ينتظر ردا
على أي حال.
قال: اقعد هنا.. ده ركن الخمس
نجوم، باين عليك حاجة تقيلة.
كان المكان الذي يتحدث عنه في
نهاية الممر، حيث يوجد مكتب الحراس على يساري والحمام الوحيد للجميع خلفي.
عاد الحارس سريعا، وألقى
أمامي بطانيتين من الصوف كريه الرائحة وهو يقول: واحدة تفرشها وواحدة تتغطى بها،
وحركني من كتفي بمحاذاة الحائط: ارفع إيدك اليمين. وأمسك يدي وشدها برفق نحو
الجدار، ووضع أسورة الكلابش الثانية في حلقة معدنية مثبتة في الحائط على ارتفاع
بين 30 و40 سم.
لم أكن قد نمت منذ يومين
تقريبا، فغفوت لدقائق وأنا أكتم غيظي من تصرف الضابط الذي لم يبلغني بأي شيء، بعد
استئذانه لإجراء مكالمة هاتفية مهمة، فلم أعرف هل أعود إلى بيتي أم أبقى هنا، وبأي
تهمة يتم احتجازي..
فتحت عيني على جلبة وأصوات
متداخلة: إلحق يا (...) الواد 28 عملها تاني على نفسه..
- ميه وللا زفت على دماغه؟
* إسهال وقرف وحاجة زبالة زي
وشه.
- عيال ولاد كلب وسخة.. مش
قادر يستني ميعاد دخول الحمام؟
* بياكلوا أي حاجة.. كل
امبارح جبنة على حلاوة.
- هات ال.. ده، هما 3 دقايق
ما يزيدوش ثانية وتخرج.. خللي الباب مفتوح يا.. (كلها أسماء مستعارة) ويتكرر في
معظم النداءات اسم "غريب"..
بعد طقس دخول الحمام الذي يسبق
توزيع الإفطار في ذلك المكان الجحيمي، اتجه الحارس ناحيتي، وقال: انت شايف حاجة؟
لم أرد.
أمسك يدي وناولني رغيفين،
ونبهني على وجود جبنة فوقها، فقلت له، شكرا رجعهم أو إديهم لحد تاني.
قال وهو ينصرف: ده تعيينك..
مش هتاكله حطه جنبك، ما بنرجّعش حاجة.
وبدأت أسمع الهمس والأنّات
الضعيفة، وأسعى لمعرفة ما يحدث حولي: بتاع داعش.. مات.. 19 ما بيبطلش عياط.. 3 سنين..
ساعده كتفه اتخلع.. المشلول آخر واحد هندخله الحمام.. ما يدفنوهم ويريحونا منهم.
وفهمت أنني في مسلخ بشري من
مسالخ الاحتجاز خارج القانون، والإخفاء القسري، وقررت أن أُضرب عن الطعام، وبدأ
احتجاجا شديدا مهما كلفني التحدي.
جاء مندوب ينادي: 133.. 133..
لم أنتبه حتى جاء الحارس إلى
عندي: انت نايم؟.. بينادوا عليك.. عايزينك تحت.
- مين؟
* ما نعرفش.. الإدارة.
- أقوم ازاي؟.. فك الكلابش.
ساعده آخرون في فك الكلابش
والتأكد من إحكام العصابة على عيني واقتادوني إلى المبنى الآخر، حيث تم رفع
العصابة عن عيني وإعادة النظارة والبيريه، وطلب ضابط شاب وسيم وخجول أن أفطر معه،
فقلت محتدا:
- ما بحبش لعبة الضابط الطيب
والضابط الشرير، واحد يقابني بود ومعاملة 5 نجوم، وبعدين يستأذن ويختفي ويظهر
الأشرار اللي بيهملوا الحاجات الوحشة، وتيجي انت تعيد القصة من جديد؟.. أقول لك
ولهم بوضوح: حساباتكم غلط إذا كنتوا فاكرين لما تتعاملوا كملايكة وبعدين توروني
الشياطين، إن ده كارت إرهاب هيجيب نتيجة معايا.
* أرجوك اهدأ.. احنا بنعمل
شغلنا، وفيه ناس تانيين لهم شغلهم مالناش علاقة به.
- (بضيق): حضرتك طلبتني ليه
يا حضرة الضابط؟
* اهدأ الأول ونفطر سوا وبعدين
نتكلم.
- مش هفطر ولا أشرب.. أنا
مضرب عن الطعام، وأي زيادة هضرب عن الكلام.
بذل الضابط محاولات مطولة
لتهدئتي وإقناعي بالإفطار معه (والله يا أستاذ على حسابي الشخصي، مش حساب الجهاز).
بعد أن نجح في تهدئتي
والاعتذار عما حدث والتأكيد على عدم تكراره، هدأت وطلبت بسكوت ونيسكافيه، وأثناء
الإفطار تبادلنا الحديث بود، وأخبرني أن المطلوب حاجتين:
الأولى روتينية لتفتيش أغراضي
وفرزها لبيان ما إذا كان هناك ممنوعات أو أحراز أم لا، وقد طلبت الإدارة مني أن
يتم ذلك في حضورك وبمنتهى الحرص لعدم إفساد أي شيء.
أما الثانية فهي استيفاء بعض
الأسئلة التي طلبتها قيادات عليا لمعرفة ما تنوي عمله في الفترة القادمة وبعض
الأسئلة.
- اللي عاوز يعرف حاجة يسألني
بنفسه.
* أرجوك تقدر الموقف، وتعرف ان فيه أمور لها حسابات ولازم تتعمل بدون إساءة لك ولا
للأطراف الأخرى.
- أنا مش بشترط ولا بتهرب.. أنا كلامي معقد شوية ويصعب نقله.
* والعمل؟
- أسجل صوت وصورة أجاوب فيها على الأسئلة اللي القيادات محتاجة تعرفها، عشان محدش
يحرف كلامي بالغلط.. أنا معارض وهفضل طول عمري معارض، لكن مش إرهابي ولا خارج عن
القانون، ولو فيه تهمة تبرر احتجازي بلغوني بها.
* قرار التصوير مش بإيدي.. أراجعهم وأرجع لحضرتك.
- لمزيد من الوضوح، عندنا في الإعلام شروط للخطاب تقتضي اعرف الكلام ده لأشخاص
معينة، أم لجمهور عام؟ وإذا كان سيتم استخدام التسجيل في برامج تلفزيونية يبث
كاملا بلا اجتزاء، أن نتفق من البداية على أنه طريقة لتوصيل كلامي للمسؤولين بدون
أي استخدام إعلامي، وطبعا الكلام كتير ومش هيخلص، فبلا بد من تحديد وقت للتسجيل
يلائم اهتمام المسؤولين وقدرتهم على الاستماع.
* كلام حضرتك واضح، هبلغهم
حالا وأرجع لك.
عاد الضابط بالموافقة على
التصوير كوسيلة استثنائية لأداء الغرض، في حدود نصف ساعة لا يتم استخدامها
إعلاميا، لا مجتزأة ولا كاملة.
بدأنا التصوير، ويبدو أن هناك
من كان يتابع الصوت على الهواء، فكانت كل فترة تصل مكالمة على هاتف الضابط الصامت،
فيوقف التصوير، ويطلب استيضاح نقطة في حديثي السابق.
بعد انتهاء التصوير وإرساله
استكملت النهار مع الضابط في مناخ ودي متوتر، انتظارا لتقرير مصيري، وكنت قد أوضحت
أنني تحت أمر التحقيقات في أي وقت، اتركوني أعود إلى بيتي، وعندما تحتاجون إلى
التحقيق معي استدعوني للتحقيق، وإذا كانت لديكم نية لاحتجازي فلتبلغوني بالتهمة
ويتم إخطار المحامين لمتابعة القضية.
كانت الإجابات تتكرر: لا تسبق
الأحداث، ليس لدينا معلومات محددة.
وبعد المغرب بقليل حدثت حركة
زائدة في المكتب ومحيطه، ونقلوني إلى غرفة مجاورة يتم فيها احتجاز أغراضي، وراجعوها
معي لضمان عدم فقدان أي شيء منها، وبنفس الطريقة الغامضة، نقلوا أغراضي (وهي كثيرة
وثقيلة) إلى "الباسات البيضاء" واصطحبوني هذه المرة بدون كلابشات ولا
تغمية عيون إلى جهة لا أعلمها.
وفي المقال المقبل أواصل حكاية
السجن.
[email protected]