لا
يعلنون ساعة الصفر للإفراج عمّن استحقّ عليهم الإفراج وفق معاييرهم السوداء، تضطّر
للوقوف أمام
سجن عوفر
الإسرائيلي من صبيحة اليوم إلى منتصف الليل.. مساحة فضفاضة
من الزمن الصعب وأنت تنتظر انبجاس بوابة السجن وخروج الحبيب، زمن تمرّ به نفسيّتك
في أصعب ظروفها القاسية والقاهرة والمفجّرة لمرارتك الصفراء، والهواجس أشد وأنكى
من تقلّبات الطقس وغبار الطريق الذي تعبره الشاحنات الثقيلة بكلّ ضجيجها وغبارها..
تصبح خرقة جافّة بالية تذروها الرياح على قارعة الطريق، تحاول أن تزجي الوقت ببعض
تحليلات السياسة وإلى أين وصلت إليه أخيرا حرب الإبادة في غزّة وما ستؤول إليه أيامها..
الوقت كاف لغربلة كلّ شيء بينك وبين الجار بالمأساة وملهاة الاحتلال التي يقال
عنها سجون.
لعبة
الاعتقال القاسية ليست في آخر رمق، يُفرج عن الحبيب المنتظر وينتهي الأمر، ما زال
أخوان له منذ بداية الحرب وأخ منذ بداية انتفاضة الحجارة، يعني منذ ما يزيد عن
ثلاثة عقود.. أمعن النظر فيما تكتب يا رجل! ثلاثة عقود أم ثلاث سنين؟ عقود، وأعني
ما أقول. وهناك زيادة على ذلك صهر وأبناء وأخ.. ووو.. وكثيرون، المهم الآن لنستقبل
فرحة مجزوءة ولو لهنيهة من الوقت، والبقيّة الباقية كلّ شيء عنده سبحانه بمقدار.
السجن
الذي سينطلق منه المفرج عنهم لا يسمح بالاقتراب منه، غارق في ظلام بعيد، تقف أمام
نقطة عسكرية وبوّابة تفضي إلى السجن بعد مسيرة كيلومتر تقريبا، عشرات الرجال
والنساء والأطفال ينتظرون كما الذي ينتظر وليده أمام غرفة الولادة في مشفى،
فالخارج من هنا مولود بعد أن كان مفقودا هناك.. الجنود يتربّصون ويشهرون مدافعهم
باتجاه الناس كأن الناس وحش يوشك افتراسهم.. شاحنات ثقيلة تعبر المكان تشق طريقها
بقسوة وضجّة فظيعة غير عابئة بالمنتظرين أشواقهم القادمة من هناك.
مصعب
معتقل إداري، أبو مصعب يدرك تماما ماذا يعني ذلك، فيمكن تجديده في أية لحظة فيعود
ليقضي فترة إضافية دون أيّ مبرّر منطقي أو مسوّغ قانوني، هو فقط منطق الاحتلال
وشريعة الغاب التي لا تحتاج إلى قانون، ويدرك ماذا تعني السجون في ظلّ هذه الحرب
غير المسبوقة في توحّشها وإمعانها في الدم
الفلسطيني، استفردوا بالأسرى أيضا
وأمعنوا في سومهم أشدّ ألوان العذاب.. هناك خلف هذا الظلام ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت من صنوف التنكيل وصبّ كلّ صنوف القهر والإذلال. مصعب تمّ تجديده ثلاث مرّات
في هذه الحبسة، احتمال إتباعها الرابعة في آخر لحظة وارد، عندئذ يعودون أدراجهم
بألم فظيع، ستطوي حزنك في صدرك وتلوذ به وتعود للانتظار المميت شهورا قادمة.
أبو
مصعب عين على البوّابة وعين على هذا الطفل ابن مصعب الذي سمّاه باسم جدّه، الذي
ملّ الانتظار وراح في نوم عميق في حجر أمّه، هل سيعود للبيت بحضن أمّه أم حضن
أبيه؟ ويبتهل من قحف قلبه لربّه أن يعودوا ومصعب معهم، وينظر للأيام القادمة التي
ستحمل له ولديه من ذاك الظلام والحبيب الغالي الذي طال عليه أمد السجن كثيرا
كثيرا: أخوه نضال.
تعالت
أصوات من بعيد فحدّج أبو مصعب بعينيه التي ضاقت من كثرة ما أمعنت في ذات المكان
الذي يولد منه الموعودون بالإفراج، ارتدّ إليه بصره دون أن يأتي بشيء:
- انظري جيدا أم مصعب، ما زال نظرك في شبابه. ما شاء
الله عليك، زرقاء اليمامة.
- انظر بقلبك أبا مصعب، ولدك تراه بقلبك (إنّي
لأجد ريح يوسف).
- آه والله إني لأجد ريح مصعب. أنا شاعر إنّه
الشباب روّحوا.
- الله يحفظ لي شعورك الجميل.
- أهذا وقت الغزل يا أم مصعب؟
خرجت
مجموعة من المعتقلين وطفق أهلهم في عناقهم الحميم كأنّهم المطر المنهمر، ركض شابّ
من المعتقلين، التحم بأبي مصعب وعانقه عناقا حارّا، يقبّل يديه وجبينه، أبو مصعب
يرجع ذاكرته التي لم تسعفه، "من هذا الشاب الذي يعرفني جيّدا بينما أنا لا أعرفه".
مسكين يخرج من ظلمات القهر ليجد نفسه في فضاء الحريّة، قد خلت عليه ففكّرني أباه، ظمؤه
لهذا اللقاء الحميم أعماه بصره، ولكنّ أبا مصعب لا يعرفه، يحاول استفزاز الذاكرة
وحثّها لإخراج مخبوئها دون فائدة.
انتهى
من العناق المجهول وسارع للبحث عن العناق المعلوم. التفت إلى يمينه ليجد أم مصعب
باسمة الثغر والهة القلب، فسألها:
- أين مصعب؟
- ما لك أبا مصعب، ومن الذي كنت تعانقه؟
أمعن
النظر، عدّل نظّارته، إنه نصف مصعب، ترك نصفه الثاني في السجن ولم تكن القسمة
بطريقة عادلة، أخذوا منه بكلّ الاتجاهات حتى أفقدوه ملامحه لدرجة لم تمكّن أباه من
التعرّف عليه، حوّلوه لهيكل عظمي، لم يعد هناك بطن ولا خصر ولا وجنتان ولا وجه،
معركة ضروس من القهر والتجويع وإضاعة الملامح.