تترأس الجزائر
مجلس الأمن لشهر كانون الثاني/ جانفي 2025، والعالم يعيش حالة ترقب لما بعد تغير الإدارة في البيت الأبيض، وما سيؤول إليه الوضع في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، لاسيما العدوان الإجرامي الدامي، والإبادة والتطهير العرقي والتشريد ومحاولة طرد السكان وإعادة احتلال
غزة وضم الضفة، وما إلى ذلك من مشاريع، بعضها بدأ عمليا والبعض جزئيا.
عالم بقي واقفا يتفرج، ولم تتمكن أيُّ مؤسسة دولية، لا مجلس الأمن ولا الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا محكمة العدل ولا محكمة الجنايات، من توقيف التوحُّش الإجرامي الذي لم يسبق له مثيل.
وعلى مرأى العالم كله: مؤسسات دولية مشلولة، القواعد التي وضعتها الولايات المتحدة والغرب عموما، هي التي عوَّضت القانون الدولي وألغت أجزاء كثيرة منه: قيم تغنَّى بها العالم والأدب والفلسفة والسياسة والدبلوماسية وتاريخ المجد الحضاري الغربي للديمقراطيات الغربية، من أخلاق وحقوق وما إلى ذلك من قاموس “قرن الأنوار”، تُهتك وتظهر فجأة على حقيقتها المرعبة.
مع ذلك، لا تزال هذه القوى، تحاول ترميم هذه القيم، وهي رميم، وتعيد تأهيلها وتبريرها وجوديا، بل تعمل على إيجاد مسوّغات لا تقنع حتى أصحابها، فضلا عن الآخرين.
إعلان عن قرب نهاية هذا الشكل التنظيمي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا الجنون المشفوع بالقواعد وقلب المفاهيم والكيل بأكثر من مكيالين، في كل ما حدث ويحدث، ليس في غزة اليوم فقط، بل في العراق سابقا، وفي ليبيا وفي سوريا، قبل اليوم وقبل أيام فقط، وفي لبنان، ومع إيران، واليمن، دون العودة إلى تاريخ المستعمرات في العالم وأفريقيا على وجه الخصوص، هو إعلان عن قرب نهاية هذا الشكل التنظيمي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
عالم بقايا الاستعمار وانتشار بؤر سرطان اللوبيات المفترسة للرأسمالية المتوحِّشة، هذه المكابرة هي من إنتاج “الغطرسة” والصَّلف الرأسمالي الاستعماري المتأصل في الجينات البيضاء، التي ترى نفسها جديرة بالتفرُّد بالسلطة والسَّطو والتحكّم والحكم، وتحاول إقناع نفسها أنها أكثر أهلية لتصبح “سيد الخواتم” على العالم، وتحديد طبيعة مصالح الجميع، بناء على قاعدة “مصالحي أولى”.
ضمن هذا المنطق، سيكون على العالم الأكبر أن يغيّر القواعد ويعيد للقانون الدولي قوّته وللأمم المتحدة وحدتها، ولمجلس الأمن توازنه وللتنوع والتعدد وعدم التفرد مكانتهم فيه: العالم بات على طريق التغير وسيتغير، والجزائر، كغيرها من دول عدة، تطالب منذ 1974، تاريخ مطالبة الرئيس الراحل هواري بومدين على منبر
الأمم المتحدة، بـ”نظام اقتصادي دولي جديد”.
هذا العالم، الذي لم يتغير إلا نحو الانحدار منذ ذلك الوقت، عوض أن يسير باتجاه الكمال والاتحاد والديمقراطية.
هذا شيء طبيعي في عالم بات منذ 1990، كوحيد القرن: قوة عظمى وحيدة تهيمن على البشرية جمعاء. لم يعد لها من يناطحها إلا جماء، وكثير من الآذان الصماء والأعين العمياء.
أوهنت الحرب الباردة قرون “الدب” السوفيتي “كما أوهن قرنه الوعل”، ولم يعد يوجد منافس آخر من أقرن ليقارن به نفسه، بما في ذلك أوروبا، التي خرجت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مسلوخة الجسد وبائنة العظم، لولا مصل “مشروع مارشال” الذي تستثمر فيه إلى اليوم الولايات المتحدة، بأن جعلت أوروبا سوقها المنعش للاقتصاد وللدولار الأمريكي.
الجزائر، وهي تترأس مجلس الأمن لشهر، لن يكون بإمكانها بطبيعة الحال أن تغيّر مجرى النهر، لكنها بالتأكيد، خلال زمن بقائها عضوا منتخبا غير دائم، ستعمل مع كبريات الدول الرافضة لأحادية “القرن”، أن تعيد التوازن والعدل لعالم كان إلى 30 سنة خلت “ذي قرنين”، قد يصير بعد سنوات قليلة.. متعدد القرون.
الشروق الجزائرية