آن
الأوان لاستعادة وسائل
المقاومة المعطلة لدى الأمة وإعادة تشغيلها وتفعيلها، وعلى
رأسها حملات المقاطعة لإسرائيل والشركات الداعمة للكيان من بين الشركات متعددة
الجنسيات المتواجدة في كل البلدان العربية، ومقاومة التطبيع بكل أشكاله؛ وفق
القاعدة النبوية الذهبية "لا تحقرن من المعروف شيئا"، "واتقوا
النار" التزاما "ولو بشق تمرة".. كل ذلك ضمن عملية الغرس المستمرة
التي لا يتوانى فيها إنسان موصوف عمله بالكدح الذي تتحرك فيه الأقوال والأفعال؛
التزاما بمنهج الله سبحانه وتعالى "فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها"؛ "يَا
أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحا فَمُلَاقِيهِ" (الانشقاق:
6)، وأعلى درجات المقاومة الحضارية الشاملة في ابتدائها مسألة الإرادة ومعركتها
المستمرة.
إن الأسوأ
في هذا كله، محاولات كل من المحتل والمستبد صناعة القبول والقابلية لكل من
الاحتلال والعدوان، والاستبداد والطغيان، وترويج فكرة القبول بالأمر الواقع
والاستسلام له، وقتل مناعة الشعوب وقابليتها للمقاومة. إن صناعة القابلية وعمليات
تدمير المناعة هي قمة ما يطمح إليه المغتصب للحق، صناعة الشرعنة في الاحتلال والاستبداد
صناعة واحدة، يقوم بها المحتلون والطغاة، هذا يريد إضفاء شرعنة على غصبه واحتلاله،
وهذا يحاول بشرعنته أن يضفي على طغيانه غطاء من الشرعية المزعومة، وشرعنة أعماله
المرجومة.
العمل المقاوم والنضال ليحتل دورا مهما في المجتمع الفلسطيني، وأضحى جزءا لا يتجزّأ من الثقافة الوطنية والهوية الفلسطينية، حيث تأثرت سيكولوجية المجتمع الفلسطيني كثيرا بالمقاومة والنضال، بحيث أصبحت جزءا لا يتجزّأ من هويته وثقافته، كما أدى النضال الفلسطيني والمقاومة إلى تشكيل صورة عن النفس الفلسطينية، وهو مجتمع يحارب من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وتمكنت هذه الصورة من توحيد المجتمع الفلسطيني وتعزيز انتمائه لقيم المثابرة والصمود والتضحية والنضال من أجل الحرية والاستقلال
في
فلسطين وغزة العزة، قال الشعب الحر الأبي للمحتل: لا وألف ألف لا، وقاوم وصنّع
بإرادته الكبيرة وعُدته القليلة مقاومة إنسانية وحضارية مبدعة بكل معاني الكلمات،
باسلة ومستبسلة، وقادرة على إيلام العدو ومحاصرة الحصار، وفرض ميزان قوة جديد،
وتمكين إرادة الشعب ضد الاحتلال، وفرض قضيته على الدنيا من كل جانب. وفي
سوريا
الشام هب الشعب هبته وبثورته في وجه الطاغية المتجبر، فأثبت أن معركة المواجهة ضد
العدوان والطغيان معركة واحدة؛ لا تعرف مقصدا إلا
الحرية والتحرير.
طوفان الأقصى
كان شرارة المقاومة الحضارية؛ وطوفان سوريا لم يكن إلا مؤشرا ومشتلا ومعملا لطوفان
الأمة. إنها حركة المقاومة حينما تتصف بالشمول والوضوح في تعيين قبلة الأمة وبوصلة
الجموع في مسارات الحرية والتحرير.
برز العمل
المقاوم والنضال ليحتل دورا مهما في المجتمع الفلسطيني، وأضحى جزءا لا يتجزّأ من الثقافة الوطنية والهوية الفلسطينية، حيث
تأثرت سيكولوجية المجتمع الفلسطيني كثيرا بالمقاومة والنضال، بحيث أصبحت جزءا لا يتجزّأ
من هويته وثقافته، كما أدى النضال الفلسطيني والمقاومة إلى تشكيل صورة عن النفس الفلسطينية،
وهو مجتمع يحارب من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وتمكنت هذه الصورة من توحيد المجتمع
الفلسطيني وتعزيز انتمائه لقيم المثابرة والصمود والتضحية والنضال من أجل الحرية والاستقلال.
"إن
العمل المقاوم بوصفه رافعة مجتمعية"، كما أشار "إيهاب عوايص"، وهو
مصطلح يُستخدم لوصف التحول الذي حدث في الشباب الفلسطيني من الالتزام الجماعي إلى الالتزام
الفردي تجاه قضاياهم الوطنية والمجتمعية. في مرحلة ما قبل أوسلو، كان الشباب لديه
التزام جماعي تجاه قضيتهم الوطنية وقضاياهم المجتمعية، ومع انتهاء انتفاضة الأقصى قرابة
عام 2005، تحول الشباب إلى الالتزام الفردي، حيث قاموا بعمليات مقاومة فردية.
يأتي طوفان
الأقصى لكي ينير مساحات مهمة من المقاومة الباسلة والصمود الفائق والإصرار على بناء
المستقبل الحر الكريم في فلسطين، في مواجهة مساحات من الهدم، والعدوان، واللاأخلاقية
واللاإنسانية، كما يؤكد مدحت ماهر في مقالته الضافية "المقاومة الحضارية والبناء
الإنساني في أمتنا والعالم: رؤية معرفية في ظلال طوفان الأقصى".
وقد أخذ
المشهد بُعْدا عالميّا عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل، وعبر التفاعل المدني والسياسي
على أصعدة وفي بقاع مختلفة من العالم. ومن المهم الوقوف أمام مشاهد هذا الطوفان الجامعة
بين ذلك كله؛ والنظر فيها من منظور "المقاومة والبناء، في مقابل الهدم والعدوان؛
لنرى أي الفريقين أحق بالانتصار الحضاري في العاقبة وفق منطق السنن؛ وكيف يتدافع الفريقان
بين الإساءة والإحسان، وما يتصل بذلك من عناصر وموازين القوة المادية والمعنوية".
في
هذا الإطار يكون النظر الحضاري هو الناظم لجهود المقاومة الاستراتيجية الحضارية وهو
المناسب لوضع الأمة الآن، خاصة وأن تعريف "الحضاري" هنا هو التعريف السائد
في الفكر الإسلامي المعاصر من لدن مالك بن نبي ومن تابعه من: تكوين الأمة، وبناء المجتمع،
وتحريك الطاقات الكلية، والعناية بالعناصر الكبرى في بناء المستقبل: الإنسان والهوية
والقيم والأفكار والوعي.. الخ. فالرؤية الحضارية هي الرؤية الشمولية
الكلية، الواصلة بين السياسي والاجتماعي والديني والثقافي.. الخ، فهي الرؤية التي تأتي
بعناصر الظاهرة من سائر جوانبها.
وهذا هو
المعنى الذي استقر لدى مدرسة المنظور الحضاري في العلوم الاجتماعية عامة والسياسية
بخاصة. وعامة يرِد المفهوم في تناول الحضارة
الإسلامية بالأساس أو نقدا للحضارة الغربية، ونظرتهم الأساسية للحضارة الغربية نظرة
نقدية أو من منظور مقارن، يسعى لبيان ما تحوزه الحضارة الإسلامية من إمكانيات وما يعوزها
من تجديد. ويؤكد على معنى الوصف بالحضارية
هاني محمود في كتابه "المقاومة الحضارية: دراسة في عوامل البعث في قرون
الانحدار".
وعليه فوصف المقاومة بـ"الحضارية" وعدمها يحصل
باعتبار: الشكل الذي تكون عليه المقاومة، والوسيلة التي يتخذها المقاوِم. فإن وضعت
الحركة المقاوِمة لنفسها حدودا وضوابط -فقهية وأخلاقية- تلتزم بها وتعد الإخلال
بها انحرافا عن المسار الصحيح للمقاومة؛ فإنها تكون حينئذ مقاومة حضارية؛ لأنها "مقاومة
منتمية للحضارة"؛ إذ التزمت بمرجعيتها الأخلاقية والتشريعية، وإن لم تهتم الحركة المقاوِمة بمسألة الضوابط سالفة
الذكر وأطلقت لنفسها العنان في تجاوز الضوابط الأخلاقية والأعراف الإنسانية؛ فإنها
حينئذ لا تكون حضارية، وتكون جديرة باسم آخر غير اسم "المقاومة".
"مفهوم المقاومة الحضارية" هو بمثابة الجهاز
المناعي لجسد الأمة، وإذا كان من المقرر أن الأمة تعيش في الوقت الحالي انتهاكات
على مختلف المستويات؛ لا نبالغ إذا قلنا إنها تبدأ بالهوية والوعي ولا تنتهي
بالأرض والسيادة، فإنه لزام علينا أن نبحث عن أسباب نقص المناعة لديها ومسبباتها،
ثم العمل على تقويتها وتحصينها من خلال المقاومة الحضارية الشاملة في جميع
المجالات المعرفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.. الخ. وتُعد
المرجعية مهمة في تحديد ملامح المقاومة الحضارية التي تنبني عليها الإرادة
السياسية، ويُعبر عنها الواقع من خلال الخروج من حيز الممكن الى فضاء الإمكان
والتمكين، ولذا فإن الموضوع له خصوصيته الفريدة، حيث يتميز بمرجعية ثابتة مستمدة
أصولها ومبادئها من الوحي وتراثه؛ الذي يفسر الممارسة السياسية المتجددة والمتطورة
عبر حقب التاريخ المختلفة وفق قواعد المتغيرات والثوابت.
وهي قضية محورية، تبدأ بتأصيل نظري لمفهوم المقاومة
الحضارية، وإدراك أبعاده المادية والمعنوية، ومستويات فواعله ومجالات تفاعله، وكيف
يمكن توظيف مدخل المقاصد الكلية العامة في بناء الفرد المقاوم والأمة المقاومة،
وكيفية تكامل قواعده وموازينه وأولوياته، في إطار حفظ الدين والنفس، والعقل، والنسل؛
والمال؛ والسعي الى دفع عملية النهوض الحضاري والإصلاح الشامل والمتكامل، من خلال إصلاح
الفكر والسلوك والواقع، ومن خلال منظومة فقه المقاومة التي تسعى بالفكر، والنظر،
والتقعيد، والممارسة، إلى بناء تكامل حضاري مع الآخر على قاعدة المشترك الانساني،
مع القدرة على الدفاع عن الوجود الحضاري أمام قوى البغي والاستكبار؛ والمقاومة
الحضارية عملية مستمرة ومتجددة ومنضبطة بالوحي، في إطار سنة التدافع الإنساني
والتغيير الإيجابي، للدفاع عن الإنسان وبناء العمران على هدى وكتاب منير.
بهذا المقال نكون قد وصلنا إلى خاتمة مقالاتنا في
"قاموس المقاومة"، وليس معنى الخاتمة أننا قد انتهينا منه؛ فباب
الاجتهاد فيه مفتوح لا يُغلق؛ أو أننا قلنا الكلمة الفصل التامة، ولذلك في معظم
كتاباتنا لم نكتب كلمة خاتمة إلا بإلحاقها بفاتحة؛ خاتمة لموضوع وفاتحة لقضية
مستمرة؛ تقتضي الاجتهاد المستمر والتجديد الإحيائي الحضاري الفعّال. وقد أردنا
منها -أي الخاتمة الفاتحة- أن نوجه النظر إلى مسألتين مهمتين:
المقاومة هي تعبير وفق سنة التدافع الماضية وسنة التغيير القائمة، عن خيار تأسيسي واستراتيجي يجب ألا نغادره في التفكير والتدبير والتغيير والتأثير، وهي أحد أهم أشكال الجهاد والاجتهاد في ميدان الواقع الذي تفرض علينا فيه المعارك فرضا، وأن التقاعس في هذه الحال إنما يشكل حالة من حالات الخذلان والمهانة والهوان
الأولى: أن المقاومة هي تعبير وفق سنة التدافع الماضية
وسنة التغيير القائمة، عن خيار تأسيسي واستراتيجي يجب ألا نغادره في التفكير
والتدبير والتغيير والتأثير، وهي أحد أهم أشكال الجهاد والاجتهاد في ميدان الواقع
الذي تفرض علينا فيه المعارك فرضا، وأن التقاعس في هذه الحال إنما يشكل حالة من
حالات الخذلان والمهانة والهوان، وأن خيار المقاومة هو ما يمكن تسكينه في خانة
الجهاد بكافة أشكاله.
الثانية: أن المقاومة باعتبارها جهازا طبيعيا في الأمة
إنما تشكل حركة دائبة ومستمرة يجب على الأمة أن تعد قدراتها التأسيسية المتمثلة في
الإرادة وقدراتها التسييرية المتمثلة في الإدارة، والجاهزية لها المتمثلة في العدة:
"وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ
انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ" (التوبة:
46)، وأن المقاومة من حيث هي ركن ركين في الحالة الجهادية وثقافة ونفسية الجهاد
إنما تشكل ساحة ومساحة للفعل الفردي والجمعي، غايته استفراغ غاية الوسع فيما لا
مزيد عليه وبما يحقق الغاية والمقصود.
ومن ثم وجب علينا أن نحرك كافة الطاقات تجاهه بوصلة
وقبلة، وتجتمع الهمم عليه للتحقق الواقعي له في المدافعة وتغيير الوضع القائم وعدم
الرضوخ لإكراهاته أو تحكماته، ومن المهم كذلك أن نتعرف على سعة الدلالة، بل سعة
المساحات التي تؤكدها الحركة والفاعلية للمقاومة الحضارية الشاملة التي تكتمل في
مدارك الوعي ثم تدعم بمسارات السعي. وعلى ذلك فإنها تملك مسارات متنوعة، وعلى كل
إنسان ينتمي لهذه الأمة أن ينهض بدوره الفعال بأقصى وسع وبأكبر دور وبأعظم اجتهاد
وجهاد وجهد في أفعال مثل المقاطعة، ومقاومة التطبيع، وهي في طوق كل أحد وليس لأحد
أن يتأخر عن المبادرة في الفعل والمواجهة والمدافعة، كل منا الكبير والصغير،
العالم والعموم، وكل أحد مخاطب بهذا الفعل المقاوم؛ المتنوعة أوعيته، والمتعددة
أشكاله، ولعل المعارك التي عددناها من قبل ليتسع بها الأفق في القول والحركة، في
العلم والعمل، في الوعي والسعي.
x.com/Saif_abdelfatah