إن التأمل في مسار قوى
اليسار في
الغرب وبعض التيارات
السلفية وحتى الليبرالية في الشرق يكشف عن تشابه لافت في
كيفية إدارة معاركهما الفكرية والسياسية والاجتماعية. وعلى الرغم من التباين
الجذري في المرجعيات الأيديولوجية والدينية، إلا أن كلا منها أظهر ميلا نحو
التركيز على قضايا يمكن وصفها بالثانوية، متجاهلا القضايا الأكثر أهمية التي تمسّ
جوهر العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والحقوق الأساسية.
اليسار في الغرب: من العدالة
الاجتماعية إلى قضايا الهوية
لطالما كان اليسار الغربي في طليعة
القوى الداعية للعدالة الاجتماعية والمساواة، حيث ركّز جهوده سابقا على تحسين ظروف
العمل، وتوفير الرعاية الصحية الشاملة، وتقليل الفجوة الاقتصادية بين الطبقات. مع
مرور الوقت، تغيّرت الأولويات، وانتقل التركيز تدريجيا إلى قضايا رمزية أقل أهمية
مقارنة بالتحديات الأساسية التي تواجه
المجتمعات.
الانشغال بالقضايا الثانوية أدّى إلى تجاهل القضايا الملحة، مثل التغوّل الصهيوني في الأراضي السورية، واستمرار الإبادة في غزة، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. كما أسهم في إضعاف الخطاب السياسي، حيث يتم التركيز على قضايا جدلية تثير الانقسامات بدلا من توحيد الجهود لمعالجة التحدّيات المشتركة، مما أدى إلى تأخير الاستقرار والتنمية وصرف الانتباه عن القضايا الأساسية التي تحتاج حلولا عاجلة
على سبيل المثال، انشغل اليسار
بقضايا مثل تحقيق المساواة التامة بين الجنسين في الأجور، دون مراعاة الاختلافات
البيولوجية أو طبيعة بعض المهن. كما دفع نحو السماح باختلاط الجنسين في الرياضات
التنافسية تحت شعار المساواة، متجاهلا الفروق البيولوجية التي قد تجعل التنافس غير
عادل في بعض السياقات.
إن تحوّل اهتمام اليسار إلى قضايا
مثل الإجهاض، والبيئة، والهويات الجنسية، والانشغال بها بشكل حصري، صرف انتباهه عن
مواجهة تحديات أكثر جوهرية، مثل تزايد الفقر، وتراجع الحريات السياسية
والاقتصادية، وتعاظم نفوذ رأس المال وأصحاب الثروات الهائلة. في هذه الأثناء، كان
اليمين السياسي يوسع نفوذه بهدوء، متغلغلا في مفاصل الدولة ومسيطرا على الاقتصاد، والسياسة
العامة، وسائل الإعلام، وحتى القضاء، بينما انشغل اليسار بمعارك رمزية لم تغيّر
واقع الطبقات المهمّشة، والأسوأ أنه لم يكن يكاد يفرغ من معركة ثانوية حتى يدخل في
أخرى.
التيارات السلفية: التركيز على
المظاهر وتجاهل القضايا الملحة
بعد الربيع العربي عام 2011، انصرفت
بعض التيارات السلفية إلى قضايا تتعلق ببعض المظاهر الدينية، مثل رفع الأذان داخل
قبة البرلمان، وتقصير الثوب، واستخدام السواك، وعدم مصافحة النساء. أصبحت هذه
المظاهر معيارا لتقييم المسؤولين، بغض النظر عن أدائهم في معالجة القضايا الوطنية
الكبرى كالبطالة، الفساد، وتدهور الخدمات العامة.
القوى الليبرالية في الشرق: جدل
المصافحة والحجاب وعمل المرأة
التركيز على هذه الأولويات سيُسهم في بناء مجتمعات أكثر استقرارا وعدالة، ولاحقا أكثر حرية وتعددية، ويعزّز من قدرة هذه التيارات والقوى على تحقيق طموحات وآمال الناس، ومن ثم كسب ثقتهم
في المقابل، انشغلت بعض القوى
الليبرالية في الشرق بقضايا مثل جدل المصافحة بين الجنسين، والحجاب، وعمل المرأة.
على سبيل المثال، أثار عدم مصافحة أحمد الشرع، قائد المرحلة الانتقالية في سوريا،
لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك جدلا واسعا على منصات التواصل
الاجتماعي، رغم أن هذا الموقف كان متفقا عليه مسبقا، ويمكن ترتيب ما يشبهه مستقبلا
وفق البروتوكولات الدبلوماسية، لكنه في كل الأحوال ليس أكبر القضايا التي تستحق
الاهتمام. هذا التركيز على قضايا رمزية يأتي في وقت تعاني فيه البلاد من عدم
الاستقرار، وتواجه تحديات اقتصادية حادة، حيث يكافح العديد من المواطنين لتأمين
قوت يومهم.
النتائج والتداعيات: تجاهل القضايا
الملحة وإضعاف الخطاب السياسي
هذا الانشغال بالقضايا الثانوية أدّى
إلى تجاهل القضايا الملحة، مثل التغوّل الصهيوني في الأراضي السورية، واستمرار
الإبادة في غزة، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. كما أسهم في إضعاف الخطاب
السياسي، حيث يتم التركيز على قضايا جدلية تثير الانقسامات بدلا من توحيد الجهود
لمعالجة التحدّيات المشتركة، مما أدى إلى تأخير الاستقرار والتنمية وصرف الانتباه
عن القضايا الأساسية التي تحتاج حلولا عاجلة.
دعوة لإعادة ترتيب الأولويات: نحو
استقرار سياسي وتنمية اقتصادية
من الضروري أن تعيد هذه التيارات
والقوى النظر في أولوياتها، وتوجيه جهودها نحو معالجة القضايا الجوهرية التي تمسّ
حياة المواطنين، مثل تحقيق الاستقرار السياسي من خلال بناء مؤسسات قوية وشاملة،
معالجة الأزمات الاقتصادية عبر تبنّي سياسات تنموية تسهم في تحسين مستوى المعيشة،
ومواجهة التحديات الخارجية بالتصدي للاعتداءات والانتهاكات التي تمسّ سيادة الدول
وحقوق الشعوب. إن التركيز على هذه الأولويات سيُسهم في بناء مجتمعات أكثر استقرارا
وعدالة، ولاحقا أكثر حرية وتعددية، ويعزّز من قدرة هذه التيارات والقوى على تحقيق
طموحات وآمال الناس، ومن ثم كسب ثقتهم.
instagram.com/adnan.hmidan