تستفزني تلك الهالة الإعلامية المبالغ فيها من أجل تلميع برامج لا تحمل من المعنى إلا اسمها فقط، أما المحتوى فإنه مما يُصيب العاقل بالغُصّة إن لم تقده إلى أراضي الإحباط، فذلك برنامج "
محبوب العرب" والذي لا يعدو أن يكون بحثاً عن راقصٍ أو مغنية، وذلك "لدى العرب مواهب" ..
ومن غرائب المفارقات ألا تخرج عن مواهب هز الأجساد والمياعة وتسويق التفاهة، ويكاد الجنون نفسه أن يُصاب بالجنون وهو يرى ذلك التدافع الهائل من العرب ودنانيرهم من المحيط إلى الخليج لدعم "محبوبيهم" برسائل نصية بلغت قيمتها في البرنامج الأول سبعين مليون رسالة وبصافي ربح فاق العشرة ملايين دولار، وابشري يا قُدس فقد قَرُبَ خلاصك!
لا أريد التضييق على أحد ولا أُطالب بالمثالية التي لم توجد إلا في أحلام مدينة أفلاطون اليوتوبية، وأعلم يقيناً أن مثل هذه البرامج سيبقى طويلاً ليس لقوة فكرتها بل لقوة الباعث عليها والمحفز لها ألا وهي النزوات الغريزية الرخيصة، وأعلم أيضاً أن تلك القنوات التلفزيونية التجارية لا تهتم إلا بتحقيق أرباحٍ تُبقيها على قيد الحياة، وما دام المشاهد يترقب وقت عرضها وكأنه ينتظر خبر نجاح عمليةٍ خطيرة لعزيزٍ عليه ..
ولا يتوانى من ضغط أزرار هاتفه لإرسال مَدَد
الدنانير لانقاذ آمال "محبوبه" أو "موهوبته" مهما كلف ذلك محفظته التي يكاد يعشش فيها العنكبوت فإنها ستبقى مستميتةً في ابقاء تلك البرامج ولن تهتم مطلقاً في افرازات الغد وما تجنيه في حق أجيالنا القادمة
استوقفني في سياق مقابل خبر اكتشاف "موهوب" و"محبوب" حقيقي هو الدكتور المصري ماهر القاضي الباحث بجامعة كاليفورنيا لوس آنجلس وعضو هيئة التدريس بجامعة القاهرة طريقة ثورية لصنع "مكثفات خارقة" Super Capacitors وبطاريات للهواتف والحواسيب اللوحية والمحمولة يمكن شحنها في ثوان وبمتوسط 30 ثانية..
ويدوم ذلك الشحن لعدة أيام، وذلك أثناء عمله على ابتكار طريقة عملية لاستخلاص مادة الجرافين أثناء دراسته بالجامعة الأميركية، والذي لن يجد له موطئ قدم في تلك البرامج الهزلية التي لا تعرف عن الغرب إلا تقليد تفاهاته..
وكم هو محزن ألا نجد برنامجاً واحداً ضمن ذلك الطوفان من برامج الأغاني والرقص يُعنى بالمخترعين والمبدعين "فعلاً" من شبابنا العرب الذين بمقدورهم هم وأمثالهم فقط بعد عون الله أن يُقرّبوا الشُقّة بيننا وبين العالم المتقدم، فعالمٌ يستورد غذاءه وسلاحه وكل تقنياته من الآخرين لن يستطيع مجاراتهم إن بقي يُشغل وقته في البحث عن أفضل حنجرة للغناء أو أبرع "هلفوت" في الرقص، وكم أثلج صدورنا خبر تعاقد حكومتنا مع شركة توازن "الإماراتية" لامداد القوات المسلحة بآليات ومعدات عالية الجودة مصنعة محلياً بقيمة 3 مليارات دولار..
فبهذه الصناعات نستطيع الرهان على المستقبل، وفرس التحدي سيكون في أمثال معاهد التكنولوجيا التطبيقية ومعهد مصدر والتي نأمل أن نرى أشباهها في طول دولتنا وعرض أمتنا العربية، فلا مستقبل دون علم ولا أمل في غدٍ أفضل دون منتج محلي بارع.
أَنظر لمن سبقنا فأجد معادلة التقدّم سهلة لا تحتاج لبلّورة سحرية ولكنها ربما تحتاج إلى "ميسم" خالنا "عقيدة" ربي يحفظه حتى يصحو معاشر العُربان من سرحانهم، ففي حين تذهب أغلب الميزانيات بالجامعات العربية لسداد رواتب الهيئات التدريسية والموظفين ويوجّه فُتات الفُتات لبحوثٍ تقف على استحياء وتفتقد للعمق والثقل لضعف ذلك الدعم المالي، فإنّ الوضع على النقيض في الجامعات الغربية وبما فيها اسرائيل، إذ يُشكّل الانفاق على البحوث الأولوية الكبرى التي يقوم عليها مدار اهتمامهم وليس عدد الخريجين فقط..
وذلك لعلمهم بالعوائد الضخمة التي من المتوقع الحصول عليها لتغطية ما تم انفاقه ولخلق ميزة تنافسية كبيرة للمستقبل، وها هي اسرائيل والصناعات التقنية تُمثّل 40% من صادراتها ولكم أن تتخيلوا ماذا يعني ذلك إنْ تم تطبيع علاقاتها مع الدول العربية من اكتساح لأسواقنا وكشفٍ لأمننا، ويكفي للدلالة على سبقها العلمي أنّها تحتل المركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة بعد Silicon Valley في كاليفورنيا وبوسطن..
والمركز الخامس عشر بين الدول الأولى في العالم المنتجة للأبحاث والاختراعات، وقياساً لنسبة سُكّانها ومساحتها فإنّها الأولى في العالم على صعيد إنتاج البحوث العلمية، وكم كان فارقاً أن تُشير اليونسكو أن إسرائيل أنفقت 9.8 مليارات دولار على البحوث عام 2004 بينما الدول العربية "بأكملها" دفعت 1.7 مليار فقط..
وبالنسبة لبراءات الاختراع وهي المؤشر الذي يولول ويشدّ شعر رأسه للتباين "الفج" بين العرب واسرائيل، فقد سجلت الدولة العبرية ما مقداره 16.805 براءات اختراع، بينما سجل العرب "مجتمعين" حوالي 836 براءة اختراع في "كل تاريخ حياتهم"، وهو يمثل 5% من عدد براءات الاختراع المسجلة في إسرائيل!
لستُ من عُشّاق جلد الذات ولكن تجاهل المشكلة لا يحلّها، والانشغال عن الفاضل بالمفضول لا يردم الهوّة بل يوسّعها، وكم كان حريٌ بنا ونحن روّاد التطوّر والتحضّر في المنطقة ألا يسبقنا أحد في مجال البحث العلمي الذي عليه مناط المستقبل وبه وحده سنعرف أين سيكون موقعنا بين أمم الغد التي لا يلتقط فيها الفائزون أنفاسهم وبالتأكيد لا يضيعون أوقاتهم ولا دنانيرهم على متابعة المولولين والراقصات على مسرح محبوب العرب وأضرابه!
[email protected]
(عن البيان الإماراتية)