خاض
الانقلاب العسكري في
مصر معركته ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي ومؤيديه من التيار الإسلامي منذ 3 تموز/ يوليو 2013 تحت شعار "مصر تحارب الإرهاب"، وقد أصبحت العبارة جزءا من شاشة التلفاز الرسمي وجرى تعميمها بصيغ مختلفة على كافة القنوات التلفزيونية المصرية الخاصة المملوكة لبرجوازية مبارك المخلصة، تبني استراتيجية "الحرب على الإرهاب" وفرض "حالة الاستثناء" لم يكن خيارا اعتباطيا فالانقلاب على ثورة 25 يناير 2011 التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم وفق آليات ديمقراطية تمثل "إرادة الشعب" بانتخابات حرة نزيهة من البرلمان إلى الرئاسة مرورا بالدستور كانت تستهدف في وجدان الشعب المصري التخلص من أبنية الدولة الاستبدادية العميقة وآلتها القمعية العسكرية البوليسية الأمنية، واكسسواراتها الإيديولوجية السياسية والقانونية والإعلامية.
تفتق عقل
الثورة المضادة الذي جمع الفرقاء الخاسرين محليا وإقليميا ودوليا عن صناعة "ثورة" ملونة تستند إلى دكتاتورية "شرعية الحشود" في 3 يونيو/ حزيران 2013، والتي كانت مطالبها الاحتجاجية الأولية تقتصر على تنحي الرئيس المنتخب وإجراء انتخابات مبكرة، لكن أجهزة الدولة القمعية والإيديولوجية العميقة التي تعهدت بحماية المتظاهرين وإسنادهم كان لها رأي آخر يؤسس لعودة الدولة العسكرية الأمنية في 3 تموز/ يوليو بحجة إنقاذ الثورة والديمقراطية التي استولت عليها "الفاشية" الإسلامية الإخوانية، التي تسعى لترسيخ دولة شمولية كما فعل الحزب النازي في المانيا عام 1933، لكن مكر التاريخ يكشف بعد حين أين تحل روح "هتلر" في الرئيس مرسي المنتخب أم الفريق السيسي المخلّص.
في هذا السياق يقدم الفيلسوف الإيطاليّ جيورجيو أغامبين أطروحة تفسيرية مركبة في الفلسفة السياسية مطابقة لحدث الانقلاب في مصر تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب" عبر الانتقال من "السياسي" إلى "البيوسياسي" والنظر في "حالة الاستثناء" و"الإنسان العاري" من خلال التفريق بين دلالتي "الشعب" و"شعب" تستند إلى تراث ميشيل فوكو وحنة أرندت وكارل شميت، فعلى الرغم من أن النظرية السياسية الكلاسيكية تعتبر مفاهيم السيادة والعقد والحقوق والواجبات هي ركائز أي فهم ممكن لفكرة الحكم، قام ميشيل فوكو بهزّ هذه الركائز بإدخاله مفهومي "التأديب" و"السيطرة"، وشدّد على التحول من "دولة الأرض" إلى "دولة سكانها"، وبهذا أصبحت حالة الاستثناء هي القاعدة، وعتبة بين الديمقراطية والاستبداد. وهي لا تكتفي بالظهور على نحو متزايد كأسلوب للحكم، وليس كإجراء استثنائي، بل إنها تسمح لطبيعتها، كبراديغم مكوِّن للنظام القضائي، بالظهور إلى النور. يُظهر جورجيو أغامبين ، لدى تطويره لمفهومَيْ "البيو-سلطة" و"الحياة العارية"، كيف تحمل السيادة معها "سلطة على الحياة" عن طريق حكم الاستثناء، كونها سلطة فوق القانون باعتباره القوة المكوِّنة لها، إضافة إلى كونها أيضاً حامية لتطبيقه، والحاكم كما وصفه الفيلسوف كارل شميت هو الذي يستطيع إعلان حالة الاستثناء.
بدلا من المنظور الحقوقيّ، يقترح أغامبين أن نتساءل عن الإجراءات القضائيّة وما لازمها من التّدابير السّياسيّة الّتي أمكن بواسطتها تجريد كائنات بشريّة كلّيّا من حقوقها القانونيّة ووضعها السّياسيّ وتحويلها إلى مجرّد "حياة عارية"، هذه التّدابير هي الّتي ابتدعت في الواقع "المعتقل" بوصفه المنطقة الّتي يختلط فيها الدّاخل بالخارج، والمحظور بالمباح، والقاعدة بالاستثناء، وتفقد متصوّرات كالحقّ الذّاتي والحماية القانونيّة كلّ معنى. فالمعتقل ليس فضاء سياسيّا بالمعنى التّقليديّ الّذي يضمن حقوق المواطن السّياسيّة والقانونيّة، ويجعل من حياته "حياةً مخصوصة"، وإنّما هو فضاء بيوسياسيّ مطلق لم يتحقّق من قبل، ولم يعرف له مثيل في أزمنة ما قبل الحداثة. من ذلك أنّ السّلطان السّياسيّ قد أضحى اليوم في مواجهة مباشرة مع الحياة خالصةً عاريةً دون وساطة من الوساطات الرّمزيّة المعهودة. وبهذه الصّورة يُضحي "المعتقل" ذاته براديغم الفضاء السّياسيّ الجديد الّذي تنقلب فيه السّياسة إلى بيوسياسة، ويلتبس "الإنسان المقدّس" بالمواطن. وهذا الالتباس هو لا محالة نتيجة "الوضع الاستثنائيّ" الّذي ينقلب فيه بعض النّاس إلى "إنسان مقدّس"، فتضحي حياتهم، أي حياة المواطن، "حياة عارية" مجرّدة من جميع حقوق المواطنة السّياسيّة والحقوق الإنسانيّة. ويقلب هذا التّجرّد الجسم السّياسيّ إلى جسم بيوسياسيّ، ويمهّد لظهور مقولات بيوسياسيّة أساسيّة جديدة. فمتصوّرات من قبيل "واجب التّدخّل" و"الأمن والنّظام العامّ " وغيرها، لا تحيل على معيار أو قاعدة، وإنّما على وضع من الأوضاع، ولكنّها باختراقها للمعيار والقاعدة جعلت إمكانات تطبيق القانون وإجرائه محدودة، والمتصوّرات القضائيّة ملتبسة.
الانقلاب العسكري في مصر تحت غطاء "الحرب على الإرهاب" وهي الوضعية المعاصرة المثالية لفرض حالة الاستثناء منذ أحداث 11/ سبتمبر 2001 للدخول في أفق البيوسياسي، فالإرهاب بحسب المفكر الفلسطيني جوزيف مسعد: اسمٌ غير مفترض، وإنما مفروض دائما؛ فالمفهوم التصنيفي الذي يحوله من ممارسة إلى هوية مفهومُ خاص لا يتسم بالتعميم، ففي الوقت الذي تصف سلطة الدولة بعض الممارسات بالإرهاب، وتنعت مرتكبيه " بالإرهابيين"؛ فإن جميع من يوصفون بالإرهابيين يرفضون هذا الوصف المفروض عليهم من طرف الدولة، وإذا كان شرط الهوية ينطوي على شقين: موضوعي، وذاتويّ (أي المناداة والاستدخال) فإن الهويات الإرهابية لا تزل مفاهيم تخضع للنقاش والسؤال؛ فهي لا تزال تحت سيطرة عدوٍّ يحكم قبضته على رأس السلطة، ويتحكم بمجمل وسائل تصوير وتمثيل الهويات.
فالإرهابيّ ليس مجرما عاديّا وليس سجين حرب حتّى يطبّق عليه القانون، ولكن باسمه أعلنت "الحرب ضدّ الإرهاب"، فهو وجه بيوسياسيّ جديد، تماما كالمساجين الأفغان في غواتنامو والإخوان في مصر، فهم ليسوا مساجين حرب تقليديّين، وليسوا بمجرمين عاديّين، وإنّما هم "محاربون لا شرعيّون" مجرّدون من جميع الحقوق بما فيها حقّ الدّفاع عن النّفس.