شريط
الفيديو، الذي نُشر مؤخراً على موقع "يوتيوب"، يُظهر مجموعة شبّان
عراقيين من أنصار مقتدى الصدر، يرتدون اللباس العسكري المموّه، ويحملون رشاشات
ومسدسات، ويهزجون بحميّة دينية طافحة، مطالبين بأخذهم إلى الشام، لمحوها من
الوجود.
قبل هذا، انتشرت صورة فوتوغرافية لمقاتل عراقي شيعي، يقتاد
مواطناً سورياً في ستينيات عمره، من أبناء مدينة
النبك، لكي يعدمه رمياً بالرصاص. صورة ثالثة تبيّن مسلحاً عراقياً، باللباس
المموّه، وسط نفر من زملائه، يحمل رزمة من النقود لاح أنه قبضها لتوّه لقاء ‘خدمة’
ما، أو نهبها خلال عملية عسكرية. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، خاصة مع احتدام
المعارك في منطقة القلمون، تكاثرت أشرطة وصور مماثلة، تكشف سلسلة من المظاهر
والأفعال والممارسات الفاشية المقترنة بالميليشات العراقية المساندة لنظام بشار
الأسد.
المرء يخال، للوهلة الأولى، أنّ هؤلاء نفروا إلى سورية
(أو إلى "الشام" تحديداً، كما يقولون)، خفافاً
وثقالاً، دفاعاً عن المقدّسات الشيعية، وفقاً للأكذوبة الكبرى (التي أطلقها حسن
نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، وتتردد اليوم على كلّ شفة ولسان
في أوساط هذه الميليشيات المذهبية)؛ وذلك بعد أن طهروا بلدهم، العراق،
من "التكفيريين" و"الإرهابيين" و"المتشددين" و"الغلاة"…
أجمعين! لكنّ الأخبار تتناهى، كلّ يوم في الواقع، فلا تفيد إلا العكس: أي عودة
عمليات القاعدة على نحو أشدّ، وأوسع نطاقاً، وأكثر
تعقيداً من حيث التكتيك العسكري، خاصة في الجانب الذي يخصّ تنفيذ عدد متزامن من
العمليات المتباعدة جغرافياً. كذلك فإنّ أوضاع التنظيمات السياسية العراقية، ذات
الطابع المذهبي الصريح أو المستتر، ليست البتة في وضع مريح يتيح لها التفرّغ لأداء
"تكليفات شرعية" على أراضي الآخرين.
وبالطبع، ليس جديداً ـ وهو أمر مؤسف، في المحصلة ـ أن يقول
المرء إنّ ما يجري في العراق بعد مرور عقد على "التحرير" هو بعض تجليات
المعادلة الجدلية العسيرة وراء غزو عسكري سهل، مارسته قوّة عظمى، نصّبت أنصارها
وأزلامها في سدّة الحكم، دون التبصّر في معضلات السلام الأهلي الذي يعقب الغزو.
ولقد قلنا من قبل، مثل سوانا في الواقع، إنّه سوف يتعين على الغازي الأمريكي
مواجهة معضلات عاجلة تحتاج إلى حلول عاجلة، وذلك قبل أن يجد نفسه عالقاً أكثر
فأكثر في وحول المستنقع العراقي، وقبل أن يصبح وجهاً لوجه أمام المعضلات الكبرى
للشطر الأصعب في سيرورة الغزو: هضم العراق، البلد والحضارة والتنوّع الفسيفسائي
المعقد، وبلوغ درجة دنيا من السلام الذي لا مناص من بلوغ بعضه قبل إعلان الظفر
الشامل.
وفي مطلع نيسان (أبريل) 2003، حين سقطت العاصمة العراقية
بغداد في قبضة الغزو الأمريكي، كان دويل ماكمانوس، الكاتب في صحيفة "لوس
أنجليس تايمز" الأمريكية، قد نقل عن ضابط في قوّات الـ’مارينز′ قوله، بعد
دقائق من توغّل دبابات وحدته في قلب بغداد: "ها قد وصلنا. نحن الكلب الذي
اصطاد السيّارة.
ماذا سنفعل بها الآن؟" وفي الواقع كان الضابط الأمريكي (الحصيف،
الحكيم، المتطيّر شرّاً، كما يلوح) يعيد باللغة اليانكية صياغة الحكمة الشهيرة
التي أطلقها في مطالع القرن التاسع عشر كارل فون كلاوزفيتز، الضابط البروسي الشهير
وأحد أعظم أدمغة التفكير في شؤون الحرب ومعضلات السلام الذي يلي الانتصار العسكري:
"في الحرب ليس ثمة نتيجة نهائية".
وكان الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، الابن، بحاجة إلى هذه
المغامرة العسكرية في العراق، ليس لأنها بدت ‘نبيلة وضرورية وعادلة’، كما سيقول؛
بل لأسباب ذاتية تخصّ إنقاذ رئاسته الأولى ومنحها المضمون الذي شرعت تبحث عنه بعد
مهزلة إعادة عدّ الأصوات في فلوريدا، وبالتالي صناعة ـ وليس فقط تقوية ـ حظوظه
للفوز بولاية ثانية. وكان بحاجة إلى هذه الحرب لأنّ مصالح الولايات المتحدة تقتضي
شنّها، لثلاثة أسباب ستراتيجية على الأقلّ: 1) تحويل العراق إلى قاعدة عسكرية
أمريكية ضخمة وحيوية، تخلّص أمريكا من مخاطر بقاء قوّاتها في دول الخليج، وما
يشكّله هذا الوجود من ذريعة قوية يستخدمها الأصوليون لتحريض الشارع الشعبي ضدّ
الولايات المتحدة، وتشجيع ولادة نماذج جديدة من ‘القاعدة’ وأسامة بن لادن؛ و2)
السيطرة على النفط العراقي، التي تشير كلّ التقديرات إلى أنه الآن يعدّ الإحتياطي
الأوّل في العالم، أي بما يتفوّق على المملكة العربية السعودية
ذاتها؛ و3) توطيد "درس أفغانستان" على صعيد العلاقات الدولية، بحيث تصبح
الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، ومعظم أجزاء العالم في الواقع، مطلقة أحادية
لا تُردّ ولا تُقاوم.
آنذاك قال بوش في "الديمقراطية العراقية القادمة"
ما عجزت عن تدبيجه أقلام أكبر الكذبة المنافقين من رجالات ‘المعارضة’ العراقية،
فلم يترك زيادة لأي مستزيد بينهم: "إنّ عراقاً محرراً يمكن أن يبيّن قوّة
الحرّية في تحويل تلك المنطقة الحيوية عن طريق تقديم الأمل والتقدّم إلى حياة
الملايين. إنّ اهتمام أمريكا بالأمن، وإيمانها بالحرية، يقودان معاً إلى اتجاه
واحد: إلى عراق حرّ ومسالم".
وأغلب الظنّ أنّ هذا لم يكن الرأي الفعلي السائد في أروقة
البيت الأبيض الداخلية، على صعيد الصقور مثل الحمائم، لأنّ الجميع كانوا يعرفون
حقّ المعرفة أنّ أوّل انتخابات حرّة في العراق سوف تجلب أغلبية شيعية مطلقة،
وستُدخل إيران من البوابة الأعرض، إذا لم تكن مرشحة لإعادة إنتاج كوارث شبيهة بما
حدث في الجزائر بعد فوز "جبهة الإنقاذ
الاسلامية". فوق هذا وذاك، هل كان أحدهم يتنبأ آنذاك بما سيجري في، أو ربما
سمع لتوّه باسم، مدينة الفلوجة؟ هل كانوا، بمعزل عن السيستاني والحكيم، قد سمعوا
باسم مقتدى الصدر؟
ولقد كُتب الكثير في وصف انقلاب السحر على الساحر الأمريكي،
ولعلّ من الدالّ أن يقتبس المرء توصيف الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما: هذه
الحرب، الأطول من الحربين العالميتين الأولى والثانية، والأطول من الحرب الأهلية
الأمريكية، جعلت أمريكا أقلّ أماناً، وأضعفت نفوذها في العالم، وزادت من قوّة
إيران، وعزّزت حركة ‘طالبان’ وكوريا الشمالية وتنظيم ‘القاعدة’… ما لم يقله أوباما
هو أنّ هذه هي الحال الكلاسيكية التي أخذت تنتهي إليها جميع حروب الإمبراطورية
الأمريكية المعاصرة، بوصفها أسوأ مَن يستخدم الجبروت العسكري، وبالتالي أردأ مَن
يتعلّم دروس التاريخ.
ويكفي استعراض ‘طرائق’ محاربة القاعدة في العراق، والتي تباحث
فيها أوباما مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مؤخراً، لكي يدرك المرء الحدود
القاصرة التي انتهت إليها عملية اصطياد السيارة، وفق تعبير الضابط الأمريكي
المتشائم.
آنذاك، أيضاً، لم يتلكأ رجل مثل هنري كيسنجر في إطلاق صفة "الحرب
الأهلية" على أعمال العنف، والإفتاء بأنّ تقسيم العراق على أسس إثنية قد يكون
المخرج؛ هو الذي أنبأنا قبلئذ أنّ احتلال العراق كان محض تفصيل في تخطيط أعلى
يستهدف لجم الإسلام المتشدد! ففي مقالة مسهبة بعنوان "دروس من أجل ستراتيجية
مخرج"، نشرها أواخر آب (أغسطس) 2005، كتب حكيم الدبلوماسية الأمريكية يقارن
بين فييتنام والعراق: "من المؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة".
فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة؛ وأمّا العراق فهو
أحدوثة Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري (…) الحرب في العراق لا تدور حول
الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد
الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها
من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام. فلو قامت، في بغداد أو في أيّ جزء من
العراق، حكومة على شاكلة الطالبان أو دولة أصولية راديكالية، فإنّ موجات الصدمة
سوف تتردّد على امتداد العالم المسلم"
آنذاك، ثالثاً، كان ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي
الأمريكي، قد سطّر مذكّرة سرّية أثار فيها الكثير من الشكوك حول كفاءة المالكي،
رغم أنه غضّ البصر عن ملفات كثيرة تخصّ الفساد وسوء إدارة العوائد النفطية
والارتهان لإيران… والإنصاف يقتضي القول إنه ما من سبب كان يدعو هادلي إلى التحامل
على المالكي، ليس لأنّ رئيس الوزراء العراقي كان رجل الاحتلال المفضّل في المنصب،
فحسب؛ بل لأنّ هادلي ساق جملة من الحقائق البسيطة عن الرجل؛ بينها هذه مثلاً:
‘صحيح أنّ نواياه تبدو طيبة حين يتحدث مع الأمريكيين، إلا أنّ الواقع في شوارع
بغداد يوحي بأنّ المالكي إما جاهل لما يجري، وبالتالي فهو يسيء تقديم نواياه، أو
أنّ قدراته ليست بعد كافية لتحويل نواياه الطيبة إلى فعل’.
إذا كانت تلك حال رئيس الوزراء الممثل لكتلة الأغلبية
البرلمانية المنتخَبة ديمقراطياً، تحت الاحتلال بالطبع؛ فما الذي يمكن أن تسير
إليه قدرات الإرهابيين الذي يقودون مفارز الخطف، والإعدام على الهوية، وإحراق
البشر أحياء؟
وكيف يمكن للساسة، الذين يتغنى المالكي بقدراتهم على الحلّ
والربط متناسياً أنه يقف على رأسهم، جامعاً تمثيل السلطة التشريعية (بوصفه رجل
الأغلبية البرلمانية) والسلطة التنفيذية في آن؛ أن يتمكنوا من تربيع دائرة الدم
الجهنمية هذه، إذا كانت الحال بأسرها تسير حثيثاً إلى الهاوية؟
وكيف لمعجزة كهذه أن تقع إذا كانت الحال الراهنة في العراق،
حيث البون شاسع شاسع بين النوايا في القلوب وعلى الألسن، والجثث في الشوارع
والقبور الجماعية ليست طارئة ونتاج العنف غير المسبوق في الأشهر السابقة، بل هي
سيرورة متصلة مترابطة كما سيفكر أيّ عاقل؟
أليس المرء، لا سيما إذا مارس رياضة الربط بين الظواهر سنة
بعد سنة وشهراً بعد شهر، لكي لا نقول أسبوعاً بعد أسبوع، مخوّلاً ببلوغ خلاصات
جلية حول بدء تلك الحال، ومسيرها، ومآلاتها الراهنة؛ كما تتجلى، على سبيل المثال
الأبرز، في تشجيع ورعاية هؤلاء المرتزقة، الهمج الجدد الذين ينفرون إلى الشام،
بهدف تدميرها ومحوها عن وجه الأرض؟ وهل في الإمكان تصدير الأزمات والمآزق الداخلية
إلى الجوار، واصطناع حمأة صراعات شيعية ـ سنّية في سورية، بينما الأقدام عالقة
لتوّها في مستنقعات سياسية واجتماعية واقتصادية ومذهبية وطائفية… تكبّل العراق
المعاصر؟