لم يكن
أبو بكر البغدادي أمير الدولة الإسلامية في العراق والشام يرجم بالغيب عندما أصدر كلمة صوتية مسجلة، عبر مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي التابعة للتنظيم بتاريخ 15 حزيران/ يونيو 2013 بعنوان "باقية في العراق والشام". ولم يكن كذلك ينطق عن الهوى، لكنه بالتأكيد لم يكن يتلقى "وحي يوحى"؛ فالأمر ببساطة يتعلق بتنظيم حديدي يتوافر على خبرة نظرية وعملية طويلة في التعامل مع بؤر التوتر ومناطق النزاعات والصراعات، إذ أن هذا التنظيم جاء نتاجا لسلسلة من التطورات العميقة في سلالات العمل السلفي الجهادي.
فتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام هو النسخة الأكثر تطورا والأشد فتكا في تاريخ السلفية الجهادية، وهو الأنشط بين فروع تنظيم القاعدة على الإطلاق. وقد حافظ على خصوصيته رغم انضمامه لتنظيم القاعدة المركزي ومبايعة بن لادن. فقد عمل المؤسس الأول للتنظيم أبو مصعب الزرقاوي (أحمد فضيل الخلايلة) منذ دخوله الفضاء الإيديولوجي السلفي الجهادي على تأسيس شبكته الممتدة الخاصة المستقلة، بدءا من الأردن وتنظيم "بيعة الإمام" مرورا بأفغانستان وإنشاء "معسكر هيرات" وختاما في العراق، حيث عمل على توسيع دائرة نفوذه وتأثيره عقب الاحتلال الأمريكي عام 2003.
وقد عمل الزرقاوي على تأسيس جماعة "التوحيد والجهاد" عام 2003، التي تحولت إلى "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" عقب الانضمام لتنظيم القاعدة عام 2004. وبعد مقتله في يونيو/ حزيران 2006 تولى زعامة التنظيم أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي)، الذي أعلن عن تأسيس "دولة العراق الإسلامية" عام 2006، ثم تولى الإمارة أبو بكر البغدادي ("أبو دعاء" إبراهيم عواد البدري) عام 2010 بعد مقتل أبو عمر البغدادي. ومع الإعلان عن تأسيس "جبهة
النصرة لأهل الشام" في سوريا بزعامة أبو محمد الفاتح
الجولاني بداية عام 2012، الذي تم بمساعدة دولة البغدادي، اكتملت التسمية في 9 إبريل/ نيسان الماضي عندما أعلن أبو بكر البغدادي عن دمج الجماعتين باسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
الدولة الإسلامية في العراق والشام باقية فعلا بسبب إدراك التنظيم للأسباب والشروط والظروف الموضوعية القائمة في العالم العربي عقب ربيع قصير عموما، وللظروف الراهنة في مكان نفوذه في العراق وسوريا خصوصا. فالعملية السياسية الفاسدة في العراق التي يديرها المالكي والتي وضع أسسها الاحتلال الأمريكي رغم انسحابه عام 2010، لا تزال فاعلة في توليد الأزمات والصراعات الطائفية، إذ أن سياسات الهوية هي الركن الأهم من العملية السياسية، كما إن الانقسام الهوياتي الإثني بين العرب والكرد؛ والطائفي بين السنة والشيعة يتحكم في مسارات الدولة التي بات فيها المكون العربي السني مهمشا ومهملا، إذ لم تجلب محاولات العرب السنة الانخراط في العملية السياسية سوى مزيد من التهميش والشعور بالظلم والتمييز، وقد استخدم المالكي كافة الوسائل الممكنة المغلفة بالقانون لاستبعاد خصومه السياسيين وترسيخ سلطته الفردية من خلال توليه كافة الملفات الحيوية في الدولة، فهو بالإضافة لتوليه منصب رئاسة الوزراء يتولى المسؤولية عن وزارة الدفاع والداخلية والأمن الوطني، ويتحكم بتفسير وتأويل وتطبيق جملة من القوانين المفصلة على قياسه بدءا بقانون الإرهاب وانتهاء بقانون المساءلة والعدالة، التي باتت سيفا يستخدمه للتخلص من معارضيه وتدعيم سلطته كما حدث مع نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي الذي بات ملاحقا بتهمة دعم الإرهاب.
وقد وصلت عمليات التهميش والإقصاء الطائفي التي مارسها المالكي ذروتها مع بدء حركة احتجاجية سنية نهاية عام 2012، وهي الحركة التي تعامل معها باعتبارها تمردا يقوده "الصدّاميين والبعثيين والإرهابين"، وقد أدى التعامل الأمني الذي قاده المالكي إلى قتل 50 محتجا سلميا وجرح أكثر من 110 في مدينة الحويجة في محافظة كركوك بتاريخ 23 نيسان/ إبريل الماضي، الأمر الذي بلور قناعة بعدم جدوى النضال السلمي، وهو ما استثمرته القاعدة بتوسيع دائرة التجنيد وتكثيف نطاق عملياتها المسلحة.
على الطرف الآخر من حدود دولة البغدادي في سوريا كان النظام يمارس أبشع طرائق القتل والبطش لإخماد الحركة الاحتجاجية السلمية، ما دفع إلى إجبار الثوار على حمل السلاح لاحقا للدفاع عن ثورتهم وحقهم في التخلص من نظام سلطوي فاشي، إلا أن النظام كشف عن طبائعه الطائفية مستعينا بحلفائه في روسيا وإيران. وقد ساندت الأخيرة بقوة حليفها من خلال تدخل الحرس الثوري وفيلق القدس، والإيعاز لحزب الله في لبنان والمليشيات الشيعية العراقية كلواء الفضل أبو العباس بالتدخل المباشر، حيث بات هلال الطائفة واقعا من عدم الاستقرار.
لقد استعاد الفرع القاعدي في العراق عافيته التي كان عليها قبل عام 2008، وهو يقوم بتغيير أساليبه واستراتيجياته، إذ زادت عملياته عن 30 هجوم يوميا، وهو يقوم بهجمات مركبة ومعقدة واسعة المدى كل 4 إلى 6 أسابيع، كان من أبرزها الهجوم على سجني أبو غريب والتاجي في شهر رمضان الماضي وتحرير أكثر من 500 من قيادات القاعدة، وأصبح التنظيم يسيطر على مساحات واسعة غرب العراق وشمال شرق سوريا، وباتت جهود التنظيم في تجنيد العراقيين سهلة وميسورة، وقد ظهر ذلك جليا من خلال زيادة أعداد منفذي الهجمات الانتحارية، وانضمام بضعة آلاف من الجهاديين العرب والأجانب.
ويبدو أن البغدادي على ثقة تامة من نجاح مشروعه في ظل منطق الحروب الجديدة الذي يقوم على سياسات الهوية ولا يلتفت إلى استراتيجيات حرب الأنصار بل على فرض السيطرة والنفوذ بالقوة المسلحة، كما أنه واثق من صواب منهجه الذي جلب استنكارا من أقرب حلفائه في تنظيم القاعدة بزعامة الظواهري، وجبهة النصرة بزعامة الجولاني، فهو يقول في خطابه: "الدولة الإسلامية في العراق والشام باقية ما دام فينا عرق ينبض أو عين تطرف، ولن نساوم عنها حتى يظهرها الله تعالى أو نهلك دونها (... ) وما تلبث الأيام أن تنجلي عن بصر ثاقب في الرؤية على المدى البعيد عجزت أبصار القاعدين وأصحاب الأهواء والمتخاذلين عن إدراكها"، فهل تصدق توقعات البغدادي؟ يبدو ذلك صحيحا في المدى المنظور.