بات كثيرون في الآونة الأخيرة يخشون من استخدام كلمات مثل "ثورة" أو "حركة تغيير" أو "تحول تاريخي" للدلالة على جملة الأحداث والتطورات والمناخات التي يشهدها العالم العربي منذ كانون الأول/ ديسمبر2010.
والمقصود بهؤلاء الذي يخشون أصحاب النوايا الحسنة؛ لأن أصحاب النوايا السيئة، أو أصحاب المصالح المرتبطة بالنظام العربي القديم، لم يترددوا من البداية في استخدام توصيفات مثل "الفوضى الشرق أوسطية"، و"المؤامرة"، و"التهديد الإسلامي السياسي للاستقرار"، للتعبير عن موقفهم من عملية الانتقال التي يعيشها العرب. أما خشية المتعاطفين فربما كان لها ما يبررها. ففي عدد من الدول العربية، مثل تونس ومصر واليمن، لم تستطع حركة الثورة إطاحة النظام القديم وطبقته الحاكمة، السياسية والمالية – الاقتصادية، كلية. في ليبيا، أطيح بدولة القذافي، ولكن ميراث النظام السابق ثقيل الوطأة أدخل البلاد إلى حالة من الفوضى النسبية والقلق. أما في سورية، فقد عملت الحسابات الطائفية والإقليمية وسياسات القمع الدموية المتأصلة في بنية النظام على دفع البلاد إلى حالة من الحرب الأهلية. ما هو أهم من ذلك، أن النظام العربي الرسمي، رغم تنكره لفكرة الوحدة والتضامن، أدرك منذ زمن بعيد عمق الروابط والتأثير المتبادل بين الشعوب، وعمل من البداية على محاصرة حركة التغيير وإجهاضها.
في مواجهة مثل هكذا مصير، يصعب على الكثيرين القبول الآن بأن هناك حركة ثورة وتغيير فعلية يعيشها العرب. هناك هبات شعبية، يقول البعض، رغبة محدودة في التغيير لدى قطاعات من الشعب، ربما، ولكن العرب ما زالوا بعيدين عن لحظة ثورية مثل
الثورة الفرنسية.
عبرت الثورة الفرنسية، كما نعرف، عن تغييرات اجتماعية عميقة في بنية الاقتصاد والمجتمعات الأوروبية، والأوروبية الغربية منها بصورة خاصة، بعد عقود طويلة من النشاط البحري الأوروبي والإمبريالية التجارية، الحراك الاقتصادي الكبير، التطور الصناعي والميكنة، نمو المدن، وانتشار التعليم. وفي المقابل، عجز النظام السياسي القديم عن الاستجابة للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، لا على مستوى المشاركة في الحكم ولا على مستوى المواطنة والنظام الحقوقي – العدلي. انفجرت الثورة لأن النظام لم يكن يمثل توقعات عموم الفرنسيين، الذين شكلوا المادة التي استندت إليها مقومات فرنسا الإنتاجية والعسكرية، ونفوذ فرنسا المتزايد فيما وراء البحار. ولم تكن هذه التوقعات مفاجئة، لأن القرن الثامن عشر شهد واحدة من أكبر الحركات الفكرية في غرب أوروبا، وفرنسا بصورة خاصة، سيعرفها العالم بعد ذلك باسم عصر التنوير، طرحت للنقاش العام، وللمرة الأولى في تاريخ أوروبا، معظم القضايا المتعلقة بالنظام السياسي والتعبير عن إرادة الشعوب، وعلاقة الكنيسة بالدولة، ونظام الحقوق والحريات والدستور. لو كان النظام الفرنسي القديم مرناً بما يكفي، عقلانياً بما يكفي، ومتسامياً على منظومة المصالح والامتيازات، لكان بإمكانه ربما أن يرى أهمية ودلالة ذلك الجدل الفكري، وأطلق حركة إصلاح سياسي تستبق رياح الثورة العاتية. ولكنه بالطبع لم يكن كذلك، وأصبح عليه بالتالي أن يواجه عاصفة الثورة في 1789 – 1792، التي وصلت ذروتها بذهاب الملك إلى المقصلة. مثلت الملكيات الأوروبية القديمة الصلة المقدسة بين الخالق والخلق، وبقطع رأس الملك قررت فرنسا إرسال مقدسها إلى المقبرة.
بهذا المعنى، كانت الثورة الفرنسية حدثاً تحولياً هائلاً، سيعاد على إثرها بناء العلاقة بين الطبقات، وبين الكنيسة والدولة، ويعاد تعريف الرعية في نظام من المواطنة، ويؤسس للنظام حقوقي وعدلي على مفاهيم أكثر عقلانية وتجرداً؛ ومن رحمها ستولد فكرة الأمة بمعناها القومي. ولكن المشكلة أن الكثيرين ينسون أيضاً أن الثورة الفرنسية لم تنجز في سنواتها الثلاث الأولى، وأنها احتاجت لعقود طويلة قبل أن تصنع فرنسا الجديدة واستقرارها، ناهيك عن أثرها على أوروبا والعالم؛ وأن فرنسا ما بعد الثورة عاشت حلقات طويلة ودموية، ومدمرة أحياناً من المد والجزر. التحولات الكبرى في حياة الأمم والشعوب لا تقع بصورة مستقيمة، وليس لها كتاب إرشادات، ولا خارطة طريق مسبقة، وتحتاج لزمن قد يطول قبل أن تستقر نتائجها في أرض الواقع، وترمي بجذورها بعيداً.
خلال العقد التالي على انتصار الثورة وإطاحة الملكية، وقيام الجمهورية الفرنسية الأولى، 1892 – 1804، عاشت فرنسا سنوات من العنف والاضطراب والصراعات الداخلية بين صفوف قادة الثورة والجمهورية، صاحبتها صراعات أخرى في الساحة الأوروبية وما وراء البحار. وقد انتهت الجمهورية الأولى بقيام نظام إمبراطوري يقوده نابليون بونابرت، ضابط جيش الثورة المغامر والطموح والعبقري. ولكن طموحات نابليون الإمبراطورية سرعان ما انكسرت على صخرة تحالف الملكيات الأوروبية، التي رأت، كما العديد من الدول العربية اليوم، أن ثورة فرنسا في طريقها ليس فقط لبناء نظام إمبراطوري أوروبي، يقوده بونابرت، ولكن حتى إلى ما هو أسوأ، بإطلاق رياح الثورة على الأنظمة القديمة في كل أوروبا. في 1815، خاض جيش نابليون في ووترلو معركة فاصلة، أوقع الحلفاء الأوروبيون في نهايتها هزيمة ساحقة بالفرنسيين، مما أدى إلى تنحي نابليون. وبالرغم من إعلان ابنه إمبراطوراً لفرنسا، خليفة لوالده، إلا أن الابن لم تتح له فرصة التتويج، إذ دخلت قوات الحلفاء باريس وأطاحت بالابن وأعادت أسرة بوربون إلى الحكم. بعودة الملكية، بدا للحظة أن الردة الفرنسية – الأوروبية على الثورة قد نجحت، وأن آمال الثورة قد أطيح بها إلى الأبد. في 1830، ثار الشعب على الملكية من جديد، هذه المرة باسم الملكية الدستورية، الملكية بإرادة الشعب، ضد الملكية الوراثية. وصعد للعرش ملك من أسرة أورليان، في نظام استمر حتى أطاحت به ثورة 1848، التي كانت جزءاً من موجة ثورية عاصفة، طالت عشرات الممالك والإمارات الأوروبية. في 1852، ولدت الجمهورية الفرنسية الثانية، التي ستستمر إلى 1870، شاملة ما يعرف كذلك بالإمبراطورية الثانية التي وقف على رأسها نابليون الثالث، وانتهت بالهزيمة الفرنسية على يد التحالف الألماني، وردود الفعل الداخلية التي أدت إلى ولادة كومونة باريس، قصيرة العمر. ولم تستقر فكرة الجمهورية بالفعل في فرنسا إلا خلال الجمهورية الثالثة، التي استمرت منذ 1870 وحتى دخول الجيش الألماني باريس في 1940.
ما يشهده العالم العربي اليوم شبيه بالوضع الفرنسي في نهاية القرن الثامن عشر، بالرغم من اختلاف السياقات والقوى والظروف. ثمة مجال عربي واسع، يشعر فيه مئات الملايين من العرب، أكثر من أي وقت مضى، بأنهم بالفعل أبناء أمة واحدة، تربطهم تواريخ وثقافة وهموم ومصير والتزامات ومسؤوليات مشتركة. جزء من العالم العربي بالغ الثراء، من جهة الموارد، على الأقل، وجزء أقل ثراءً. ولكن العرب لا يشعرون بالحق المشترك في الثروة وحسب، بل ويعانون من درجات عالية من إحباط التوقعات. بعد مرور زهاء القرن على ولادة النظام المشرقي الحديث، إثر الانهيار العثماني والسيطرة الإمبريالية الغربية، لم تحقق دولة الاستقلال العربية ولو الحد الأدنى من طموحات شعوبها في الرفاه والنهضة والاستقلال وحماية البلاد من المخاطر الأجنبية. والأسوأ من ذلك أن الأنظمة الحاكمة الوليدة، التي قادتها أصلاً أقليات اجتماعية أو فئوية، أصبحت بمرور الزمن أكثر أقلوية وانغلاقاً وسيطرة على مقدرات الحكم والثروة. في المقابل، ساهم انتشار التعليم الجماعي خلال القرن الماضي في تنمية وعي الأفراد وارتفاع مستوى طموحاتهم، بدون أن يكون مستوى هذا التعليم كافياً لإطلاق مناخ من الإبداع والرقي، وبدون أن تكون خارطة وجهود التنمية كافية لاستيعاب هؤلاء المتعلمين وتوفير حياة كريمة لهم. وأفسح التطور المتسارع في وسائل الاتصالات مساحة واسعة لتبادل المعلومات، ونافذة أوسع على العالم، بينما يعيش المواطن العربي فيما يشبه السجن الكبير، حيث تغيب الشفافية وتتجاهل الدولة أدنى مسؤولياتها تجاه شعبها وحقه في محاسبتها. وفي مناخ من القمع وضيق مساحة الحريات، تراجع مستوى التعليم، سيطرت الطبقة الحاكمة على مقاليد الحكم والثروة معاً، تحول الفساد إلى تقليد راسخ لمؤسسة الحكم والطبقة الحاكمة، وتدهورت معدلات التنمية بصورة فادحة، ليس فقط مقارنة بدول بدأت مسيرة التنمية في أوقات متأخرة نسبياً، مثل كوريا وماليزيا والهند والبرازيل، بل ومقارنة بعدد متزايد من دول إفريقيا وأميركا اللاتينية. وفوق ذلك كله، تنحسر حدود الاستقلال الوطني بصورة مطردة، وتنهار مقاومة الدولة العربية، الواحدة منها تلو الأخرى، أمام الدولة العبرية. انطلاق حركة الثورة العربية في 2010 – 2011، كان بهذا المعنى انعكاساً لعجز النظام العربي القديم عن الاستمرار، وتعبيراً عن شعور المواطن العربي المتزايد بأن الأوضاع لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه. وصل النظام العربي القديم، بكلمة أخرى، إلى حالة انسداد تاريخي محكمة، لم يعد من الممكن المناورة معها، كما سبق لهذا النظام المناورة في لحظات تجلي فشله الفادح في نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات، وفي نهاية الستينات، وفي مطلع هذا القرن.
ليس ثمة حزب أو منظمة إيديولوجية بمفردها وقفت خلف اندلاع الثورة، ولكن مجموعة من القيم والمفاهيم، لا تشكل الهدف المشترك الإيديولوجيات جميعاً، وحسب، بل وأصبحت في العقد أو العقدين الماضيين جزءاً لا يتجزأ من الثقافة العامة. وربما يمكن القول إن جوهر عملية التغيير يتعلق بمسألة المسائل جميعاً: وضع نهاية لقرن كامل من حكم الأقليات السياسية أو الاجتماعية أو الطائفية، واستعادة الشعب لقراره. ولكن، وكما في التجربة الفرنسية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، لم يكن لعملية التغيير الكبرى أن تتحقق، وأن تصل منطف اللاعودة، بصورة سهلة وسريعة، وفي طريق واضح المعالم. أولاً، لأن الشعوب العربية منقسمة على ذاتها منذ عقود طويلة؛ وثانياً، لأن دولة النظام القديم ليست وليدة الأمس، وأنها تمتلك من مقدرات القوة والقدرة ما يكفي للرد على حركة الثورة والتغيير؛ وثالثاً، لأن الأنظمة العربية رأت بسرعة وسهولة الخطر والتهديد الذي تمثله عملية التغيير في دول الثورة على دول النظام العربي القديم الأخرى، واشتغلت، كما اشتغل تحالف الرجعيات الأوروبية في ووترلو، بالعمل ضد حركة الثورة والتغيير والقوى التي تستند إليها هذه الحركة.
هذه معركة تغيير قد تطول، ولكن ما يجب ألا يشك فيه أنها معركة تغيير لا تتفق والشروط التاريخية وحسب، بل وتفرضها اللحظة التاريخية.