رأى ستيفن بروك، الباحث في جامعة تكساس الأمريكية أن استمرار النظام في ملاحقة وقمع
الجمعيات الخيرية المصرية لن يؤدي إلا إلى زعزعة الإستقرار.
وقال بروك الذي يعد أطروحة دكتوراة عن عمل الجمعيات الطبية الإسلامية في مصر "منذ 3 تموز/ يوليو استخدم حكام مصر الجدد الاعتقال ومداهمات الجيش والشرطة للبيوت، والاستفزاز كأساليب لتشكيل البلاد في مرحلة ما بعد نظام محمد مرسي، ولكن وبطريقة أكثر "خفية"، قامت الحكومة بمحاولات لقمع الجانب الخيري والإجتماعي من النشاط الإسلامي. وآخر المحاولات جاءت في 23 كانون الأول/ ديسمبر عندما أصدرت وزارة الشؤون الإجتماعية أمرا للمصارف بتجميد أرصدة أكثر من 1000 جمعية خيرية. ومن بين المنظمات التي تم استهدافها، تلك المرتبطة بالإخوان المسلمين، الجمعية الشرعية وأنصار السنة المحمدية، وهي منظمات ثلاث تمثل عصب العمل الخيري الإجتماعي في مصر".
وقال بروك في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي"، إنه وعلى خلاف اعتقال الناشطين أو تنظيف المواقع التي يتظاهر فيها الإسلاميون بطريقة وحشية، فقد تردد صدى قرار تجميد أرصدة الجمعيات الخيرية بين ملايين المصريين الذين يعتمدون في معاشهم على دعم هذه المنظمات، فإغلاق المستشفيات وتعويق توزيع المواد الغذائية لن يحل مشاكل المصريين الصحية أو الاقتصادية بل سيزيد من مصاعبهم، وعوضا عن تحقيق الإستقرار الذي يبحث عنه النظام، فالنتيجة الطبيعية هي زيادة مشاعر الحنق بين المصريين العاديين، وتوسيع المعارضة إلى خارج قواعد الإسلاميين والناشطين".
المشتبه الرئيس دائما
ولم يكن مفاجئا كما يقول بروك أن يكون
الإخوان على قائمة وزارة العدل، ففي 23 أيلول/ سبتمبر الماضي صدر قرار بحظر الجماعة، وأمرٌ بتجميد كل أصولها المالية، ومنذ ذلك الوقت والقضية مرمية داخل نظام المحاكم المصرية. وقبل إعلان هذا الأسبوع بفترة قصيرة قامت وزارة التربية والتعليم بمصادرة "147 مدرسة للإخوان في 10 محافظات مصرية تحت ذريعة وجود "مخالفات" مالية وإدارية. والآن وقد صنفت الحكومة الإخوان كجماعة إرهابية فمن المتوقع توسع الحملة". لكن المفاجئ هو "شمول القرار لجمعيات ليست مشهورة بصلتها بالإخوان مثل أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية، مما يظهر إصرار الحكومة على تركيع قطاع واسع من الجمعيات الخيرية الإسلامية.
ويرى الكاتب أن جماعة الإخوان حظيت خلال العقود السابقة بالثناء بسبب عملها الخيري الذي يضم المدارس المذكورة أعلاه، و30 مستشفى، وعيادات ومؤسسات طبية، ومؤسسات دينية، مع حملات خيرية بين الفترة والأخرى تخدم ملايين المصريين. ففي الفترة ما بين 2010- 2011 قدمت مؤسسات الإخوان الطبية خدمات لمليون ونصف المليون مصري. و"في حملتها الأخيرة "معا نبني مصر" قالت الجماعة إنها عالجت 1.75 مليون مصري".
أنصار السنّة والجمعية الشرعية
في نفس الوقت تدير أنصار السنّة التي أنشئت عام 1926، وقبلها الجمعية الشرعية التي أنشئت عام 1912 سلسلة من المؤسسات الطبية؛ مستشفيات وعيادات صغيرة، بالإضافة لبرامج للطوارئ. ويعتبر مجال الجمعية الشرعية الخيري أوسع من أنصار السنّة وربما تفوق على الإخوان بحسب الكاتب، حيث تدير عشرات المستشفيات والعيادات، بعضها متخصصة بالأطفال الخدج، وبأمراض الكبد والكلى، وعيادات العيون ومركز للحروق. وتقوم بإرسال قافلتين طبيتين كل أسبوع وتقدم العلاج سنويا لـ 43 ألف حالة.
ويقول الباحث: "عادة ما أوجه سؤالا للذين يقدمون عناية صحية، عن الجهات الأخرى التي تقدم خدمات صحية، فتكون الإجابة عادة "الجمعية الشرعية". ويشيرون إلى مؤسسات متعددة تابعة لها، هنا، هنا، وهناك".
ويضيف بروك "توسع عمل هذه الجماعات بشكل كبير أثناء حكم مبارك وقبله أثناء حكم السادات، فقد أمّنت صفقة بين النظام وهذه الجمعيات استمرار شبكات العمل الخيري، وبشكل محدد فكل هذه الجمعيات مسجلة في وزارة الشؤون الإجتماعية، كما يقتضي قانون عام 1964 واللاحق له. ومع أنه وضعها تحت رقابة حكومية مشددة، إلا أنه أعطاها حرية للتحرك. وفي الخلفية كانت قوات الأمن جاهزة للتحرك في حالة تجاوزت الجمعيات الحدود المسموح بها. وقد وجدت الحكومات المصرية المتعاقبة هذا الترتيب مريحا، لأن الخدمات الإجتماعية التي تقدمها هذه الجمعيات كانت تخفف من وقع الإصلاحات الإقتصادية؛ أولا سياسة الإنفتاح ومن ثم سياسة الخصخصة، والتي بدأت تؤثر على قطاع الخدمات الحكومي المتداعي أصلا".
الأمن يدير
وفي الوقت الذي تمت فيه الإطاحة بمبارك في شباط/ فبراير 2011 كانت هذه الترتيبات تتعرض لضغوط، فقد توسعت شبكة الخدمات الإجتماعية، وبدأ الإخوان تحديدا بتحدي النظام بطريقة أكثر قوة في الانتخابات والتعاون مع الجماعات المعارضة الأخرى. وكرد على هذا الوضع بدأت الجهات الأمنية بتجاوز الأجهزة البيروقراطية الأخرى مثل وزارة الشؤون الإجتماعية وتولي إدارة القطاعات العامة بمن فيها قطاع الخدمة المدني. ورغم الخلافات الأيديولوجية بين النظام والإسلاميين إلا أن تلك الأجهزة بدأت تعتمد عليهم في إدارة تلك القطاعات.
يضيف الكاتب "قال لي مدير أحد المستشفيات: خلال فترة عصيبة من التفتيش في التسعينات من القرن الماضي، جاء مسؤولون أمنيون إلى مكتبه وقالوا له "إن لم تساعدنا على تحمل العبء فسنرميكم كلكم في السجن".
عوقبت من ناصر
ويقول الكاتب إن أنصار السنّة التي لم تتعرض لنفس الضغوط التي تعرض لها الإخوان كانت تعاني من مشكلة مع النظام منذ ستينات القرن الماضي، حيث قام جمال عبدالناصر بدمج الجمعية مع الجمعية الشرعية بالقوة. واستمر الوضع عدة سنوات. وفعل ناصر ذلك ردا على انتقاد أنصار السنّة له، ولعلاقتها مع السعودية. ومنذ حصولها على استقلاليتها في عهد السادات، اقتربت أكثر من المثال السعودي، وابتعدت بشكل أكثر وضوحا عن الجماعات الأخرى، لكن ذلك لم يحم أعضاءها من الاعتقالات بذريعة اتهامهم بالتخطيط لهجمات. واستمرت متاعب أنصار السنّة في ظل المجلس العسكري عام 2011 عندما تم تسريب تقرير قضائي يتهم الجماعة بتلقي 28 مليون دولار من قطر. ودافعت عن نفسها من خلال حملة إعلامية وعبر صحف مصرية كبرى، ونشرت وثائق على الإنترنت. ومع ذلك تم اتهامها بتلقي أموال أجنبية (للمفارقة مع جمعيات أمريكية أخرى). ولا تزال القضية في يد القضاء وربما كانت وراء قرار تجميد أموالها (مع أن مسؤولا في أنصار السنّة عبر عن دهشته لشمول الجمعية بالقرار).
المفضلة لدى النظام
ويبقى شمول الجمعية الشرعية أكثر إثارة للإستغراب، "فعلى خلاف الإخوان وأنصار السنّة، كانت الحكومة المصرية تفضل الجمعية الشرعية، حيث نظرت إليها كجمعية مسالمة ونظرا للخدمات الخيرية الواسعة التي تقدمها، تم وضع أنصار السنّة تحت مظلتها في عهد عبد الناصر، وكان وراء استثناء مساجد الجمعية الشرعية من التأميم الذي كانت تقوم به الحكومة بين فترة إلى أخرى. ورغم بدء تراجع علاقة الجمعية الشرعية مع النظام في بداية التسعينات نظرا لتأثير رموز الإخوان عليها، إلا أن ذلك لم يحرمها من القدرة على التحرك بحرية".
وبالإضافة لقرارات المحكمة، قامت البيروقراطية المصرية، خاصة وزارة الأوقاف التي تحاول تأكيد سيطرتها على هذه الجمعيات بإصدار تعليمات يجب الإلتزام بها. وقيل إن الجمعية الشرعية قد وقعت مع وزارة الأوقاف اتفاقا يقضي بحصول الخطيب على شهادة من الأزهر مما يعطيها دورا في الإشراف على الجمعيات. كما أصدرت الوزارة قرارات أخرى لتنظيم خطب الجمعة ومحتوياتها، حتى لا تستخدم المساجد كمنبر للسياسة.
لكن بروك يرى في قرار تجميد الأرصدة استعدادا من الحكومة لاتخاذ قرارات قوية للسيطرة على قطاع العمل الخيري. ويقول إن هناك إشارات لاستثناء الجمعية الشرعية من القرار، خاصة أن المرضى تأثروا من إغلاق المؤسسات التابعة لها. وإذا حدث ذلك ستسجل سابقة يمكن أن تطبق على الجمعيات الأخرى. ويعتمد هذا على الطريقة التي ستتعامل بها المحاكم مع القضايا. وفي النهاية أدى تدهور الوضع بالبعض إلى الحنين لمرحلة مبارك، خاصة أن محاولة حكام مصر الجدد تركيع أو الحد من نشاط القطاع الخيري الإسلامي المصري النشط تعد خطوة بعيدة لم يكن ليتجرأ النظام السابق على القيام بها.
الجرأة على الفقراء
يقول بروك "صحيح أن حكام مصر يشعرون في الوقت الحالي بالجرأة على عمل ذلك بسبب المشاعر القوية المعادية للإسلاميين، والرد الخافت من الغرب على الإطاحة بمرسي، لكن هذه الجمعيات تعتبر الطريق الوحيد التي يستطيع من خلالها المصريون؛ إسلاميون وغير إسلاميين التغلب على مصاعب الحياة اليومية، واستمرار قمعها سيؤدي إلى عكس ما يرغب النظام بتحقيقه وهو الاستقرار".