تتوجه الأنظار في الأيام المقبلة الى مونترو وجنيف ودافوس ولاهاي التي ستشهد أحداثاً تاريخية تقع ايران وسورية وحلفاؤهما في صلبها – بالذات روسيا و «حزب الله»، لأسباب مختلفة.
معارك تسويق المواقف في حملات العلاقات العامة لافتة ومثيرة للسخرية أحياناً، لا سيما عندما يقنّن محور روسيا/ سورية/ ايران: «حزب الله»/ الصين حملته في الحرب على
الإرهاب لفرضها كأولوية قاطعة في مؤتمر جنيف – 2 حول مستقبل سورية الذي يُفترض أن ينطلق في 22 الشهر الجاري من مونترو.
ففي
لاهاي، عاصمة العدالة الدولية، يقف «حزب الله» وحليفاه السوري – الإيراني في قفص الاتهام عبر قرار ظنّي صدر في حق أربعة أشخاص لهم علاقات وثيقة بـ «حزب الله» وسورية وإيران بتهمة التورط في العملية الإرهابية التي أودت بحياة رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري و22 من رفاقه.
موسكو قررت ان الإرهاب الذي يعنيها هو حصراً الإرهاب السنّي المتمثل في «القاعدة» ومشتقاتها لأنه عدوها المباشر في الشيشان والآن في عُقر الدار الروسي. طهران قررت توزيع الأدوار بين ديبلوماسية الانفتاح على المملكة العربية السعودية التي توحي هي بها وبين مهمة إلصاق تهمة دعم المجموعات الإرهابية بالسعودية التي أوكلتها الى دمشق و «حزب الله» بلا تمييز بين الموقف الحكومي للرياض وبين ما يقوم به أفراد وعائلات سعودية.
الرئيس الإيراني حسن روحاني سيتوجه بديبلوماسية «الابتسامة العريضة» الى دافوس في جبال الألب بغض النظر عما إذا كان وزير خارجيته جواد ظريف سيشارك في المحفل الدولي على شاطئ بحيرة مونترو للبحث في مستقبل سورية الذي قد يهم طهران بمقدار ما تهمها المفاوضات النووية. ففي دافوس، حيث يعقد «المنتدى الاقتصادي العالمي» للسنة الـ44 مفاتيح مهمة لتحقيق أولوية تخفيف العقوبات عن ايران. وأهم سلاح في هذا هو سحر «الابتسامة العريضة» في الديبلوماسية الإيرانية الجديدة. أما في مونترو ثم جنيف - حيث يُفترض بدء المفاوضات بين الحكومة والمعارضة السورية على تنفيذ بيان جنيف – 1 لتشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة –، فإن التحدي الأكبر هو كيفية لجم دمشق وحلفائها عن تمزيق بيان جنيف – 1 وحرقه في طيات الحرب المزعومة على الإرهاب.
الإرهاب، بالتأكيد، موجود في سورية بقرار من أكثر من فاعل ومموّل ومتطوّع. وقد أتى نمو هذا الإرهاب على أيدي أكثر من مساهم محلي وإقليمي ودولي. مكافحته باتت ركيزة شراكة أميركية – روسية – أوروبية – صينية. الحكومة السورية وجدت في الإرهاب على أراضيها وسيلة لتكون جزءاً من تلك الشراكة، لا بل ايقونة لها ولخلاصها من المحاسبة.
الإرهابيون الجدد الآتون الى سورية من أوروبا وروسيا والولايات المتحدة وآسيا وأفريقيا والدول العربية هم أعداء للشعب السوري ولمستقبل سورية مهما بدا للبعض أن في أيدي هؤلاء الإرهابيين وسائل الرد على بطش الحكومة السورية. معركة هؤلاء ليست المعركة من أجل سورية. انها حربهم الأيديولوجية على حساب أطفال سورية وأجيالها. فبالتأكيد، يجب ان تتكاتف الدول ضدهم.
إلا أن ما يحصل في سورية اليوم، تحت شعار الحرب على الإرهاب، يشكل تخاذلاً أميركياً – أوروبياً وارتماءً في أحضان ما رسمته دمشق وحلفاؤها من خطوات تسير فيها واشنطن ولندن وعواصم أوروبية أخرى.
فهرولة الاستخبارات الأميركية والأوروبية الى دمشق – كما جاء في هذه الزاوية قبل أسبوعين – بدأت تطفو الى الملأ بقرار من النظام في دمشق الذي ينوي الاستفادة من الهرولة لصوغ شراكة فعلية تجعله غير قابل للاستغناء عنه في حربه على الإرهاب. فهو نصّب نفسه الواجهة والأداة لهذه الحرب. وهو جاهز لاستخدام الإرهابيين الجدد لترويع من يتلكأ عن تلك الشراكة. فالحرب على الإرهاب باتت جزءاً رئيساً من استراتيجية البقاء في السلطة. الخطوة الأولى في مسيرة الشراكة اتت عبر الموافقة على تدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية. الخطوة الثانية هي الحرب على الإرهاب، وفق الاستراتيجية السورية المدعومة روسياً وإيرانياً.
لا توجد استراتيجية مضادة لدى من يعارضون بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة – لا الأطراف المحلية ولا الاقليمية. الأطراف الدولية الأميركية والغربية تتظاهر بأنها تمتلك استراتيجية قوامها الانتظار الى حين الإنهاك المتبادل في حرب الاستنزاف بين قوى النظام ومن يدعمه من «حرس ثوري» ايراني أو «حزب الله» وبين قوى المجاهدين الجدد أو التكفيريين كما يسمّون الآن. أما روسيا، فإنها راهنت على الانتصار على التطرف الإسلامي في سورية لإبعاده من مدنها ثم وجدته يلاحقها ويتوعدها بالانتقام من استثماراتها في سورية. وقد لا تكون وحدها في هذا المأزق مستقبلاً.
فالجهاديون الجدد يتوعدون كل من لا يبصم على ايديولوجيتهم التدميرية – بمن في ذلك مَن يدعمهم اليوم. لذلك، فهم ليسوا الجواب مهما وصلت درجة الإحباط في سورية. انهم في الواقع أداة ضد الشعب السوري بأكمله وأداة نجحت في إلحاق الأذى بالثورة السورية وبصفوف المعارضة.
فإذا كانت استراتيجية النظام في دمشق استخدام المجاهدين الجدد لمصلحة بقائه في السلطة، فالحاجة ماسة لاستراتيجية مضادة – خالية من الاعتباطية لأولئك الذين لا يوافقون على بقاء بشار الأسد في السلطة.
محطة مونترو ثم جنيف مفيدة للتفكير مجدداً في أكثر من أنماط الغضب واللوم والتذمر من هذا وذاك. انها نافذة على اعادة النظر في ما أدى الى الفشل أو الهزيمة لإطلاق استراتيجيات بديلة.
أولاً، ان الحؤول دون اسقاط جنيف – 2 في دائرة الحرب على الإرهاب للتملص من تنفيذ أهداف بيان جنيف 1 لشهر حزيران (يونيو) 2012 وقرار مجلس الأمن 2118 يتطلب مد الدعم للممثل الدولي والعربي الأخضر الإبراهيمي الذي يتمسك بمرجعية مؤتمر جنيف – 2 على انها تنفيذ لجنيف – 1.
فمهما كانت لدى أية أطراف خليجية مآخذ على الإبراهيمي، فإن الإبراهيمي ليس حليفاً لدمشق ولا هو جاهز لإعطائها فرصة اختطاف جنيف – 2 لأهداف غير التي حددها – وهي الاتفاق على هيئة حكم انتقالي في سورية بصلاحيات كاملة.
الإبراهيمي يؤمن بالتأكيد بضرورة ايقاف المجاهدين الجدد عن اقتناص سورية وتحويلها ساحة حرب بالنيابة لأهدافهم المريضة. لكن الإبراهيمي أوعى من اختزال الأمر الى حرب على الإرهاب. ثم انه يدرك تماماً مَن هم اللاعبون الآخرون على الساحة السورية ومن بينهم «حزب الله» و «الحرس الثوري» – وهذا جزء أساس من رغبته المعلنة بأن تكون ايران على طاولة المفاوضات.
ثانياً، هناك أصوات خليجية وسعودية بالذات تطالب بمقعد لمجلس التعاون الخليجي على طاولة المفاوضات النووية بين ايران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائداً المانيا. هناك آخرون يتحدثون تكراراً عن مفاوضات سرية بين بعض هذه الدول وإيران حول الدور الإقليمي لإيران. سورية والعراق ولبنان ساحة مفتوحة للطموحات الإيرانية الإقليمية. لذلك، ان أية فرصة لوجود ايران على طاولة البحث سوية مع الدول الخليجية المعنية يجب ان تكون الآن مطلباً خليجياً ليس فقط للتأثير في المواقف الإيرانية بزخم دولي وبضغوط دولية وإنما أيضاً لأن المأساة السورية تتطلب وقف النزيف كما الآن العراق ولبنان في بالغ الخطر من الانهيار.
ثالثاً، من المفيد للدول الخليجية ان تدخل طرفاً مباشراً في الحرب على الإرهاب كي تُحبط الاستراتيجية السورية التي تتعمد تصويرها طرفاً في الإرهاب. فلقد حان وقت قلب الطاولة على تلك المعادلة كما على الأهداف من ورائها.
رابعاً، بدلاً من التشكيك الدائم في صدق ديبلوماسية الاعتدال الآتية من طهران عبر الرئيس حسن روحاني، ان الاستثمار في ذلك الاعتدال زاوية مهمة في استراتيجية جديدة للدول الخليجية. فإذا صَدَق الاعتدال، كانت له شريكاً. وإذا انتصر الاعتدال في وجه أركان التشدد والتطرف في طهران، تكون الدول الخليجية في خانة التفاهم مع القيادة الجديدة. أما إذا غُلِبَ الاعتدال على أمره، فإن الدول الخليجية تكون قد أثبتت حسن النية والعزم على فتح صفحة جديدة مع ايران المعتدلة وتكون أيضاً في صفوف الدول الغربية الداعمة للاعتدال.
خامساً، تتطلب القراءة المعمّقة للمواقف الأميركية الاستنتاج ان الرئيس باراك أوباما لن يتخلى عن إقباله على ايران مهما كان. هذه سياسة أميركية ثابتة الآن وهي تتطلب استراتيجية خليجية جدية وعملية لا تتوعّد بلا استخدام جدي لأدوات المواجهة – إذا اختارت المواجهة مع الولايات المتحدة. وبالتالي، وكما يقول المثل: ان لم تستطِع الانتصار عليهم، فالتحق بهم.
سادساً، لا داعي للغياب الخليجي المذهل عن معركة العلاقات العامة التي تسجل فيها دمشق وطهران وموسكو ربحاً هائلاً. حان الوقت لاستراتيجية علاقات عامة جديدة ترافق الاستراتيجية الجديدة الضرورية للدول الخليجية. فلا يكفي التذمر من انجازات دمشق ولا من إقبال الغرب بشغف على سحر ديبلوماسية الابتسامة العريضة لطهران مهما بقيت طهران تلتزم الغموض المتعمد وسياسة المواربة.
فعندما يصل الرئيس حسن روحاني الى دافوس سيسترق الأضواء وستكون أمامه فرصة ثمينة وساحة مفتوحة ليفتن مَن لم يفتنه عندما قام بزيارته الى الأمم المتحدة في نيويورك. ليست هناك استراتيجية خليجية مماثلة.
المنتدى الاقتصادي العالمي لا يقفل أبوابه أمام القيادات الخليجية لو شاءت المشاركة فيه على مستوى الملوك والأمراء. انه تجمع لأكثر من 40 رئيس حكومة ودولة. وبين المنتدى الاقتصادي العالمي ودول في مجلس التعاون الخليجي علاقات منتظمة ومؤتمرات تُعقَد في هذه الدول. لكن قياداتها تتغيب تكراراً عن المحفل المهم في دافوس. وحانت اعادة النظر في هذا أيضاً.
في دافوس ستحضر التجربة التونسية كنموذج لما يمكن تحقيقه عندما يُعقد العزم على إنجاح مسيرة التغيير في المنطقة العربية. سيتم التركيز على المسؤولية الدولية إزاء مأساة اللاجئين السوريين كما على ما سينتج من مؤتمر جنيف – 2 في مونترو في اليوم ذاته من عقد مؤتمر دافوس لأربعة أيام تالية. وهذا يتطلب وجوداً عربياً وخليجياً خصوصاً بشكل مختلف عن العادة، لا سيما ان ايران جاهزة لتوظيف المناسبة حصراً لمصلحتها.
الدول الخليجية يجب أن تعي ان تغيبها يُلاحَظ وأن العالم ينظر الى مساهماتها في سورية والعراق ولبنان طبقاً لما يسمعه من غيرها. الكويت، مشكورة، استضافت مؤتمر المانحين الذي تعهد بمبلغ 2,4 بليون دولار للسوريين المتضررين من هذه الكارثة التي حلّت بهم. هذا لا يكفي لرفع العتب عن الدول الخليجية.
مؤتمر جنيف – 2 قد يصبح مجرد عملية على نسق عملية السلام للشرق الأوسط. وهذه ستكون نتيجة مؤلمة إذ انها ستعني استمرار القتال والمفاوضات معاً. الاسرة الدولية قد ترفع العتب عن نفسها من خلال مواقف إنسانية لا تصل الى مرتبة فتح ممرات انسانية لتقديم المساعدة.
أولى محطات الاستراتيجية الجديدة المطلوبة هي في المشاركة الجدية لإنجاح مؤتمر جنيف – 2 لينفّذ أهدافه المعلنة وليس للقفز عليها عبر الحرب على الإرهاب أو من خلال اجراءات رفع العتب الإنسانية.
انها فرصة يجب ألا تفوّتها الدول الخليجية. انها مناسبة لمفاجأة استراتيجية متكاملة وعملية.
(الحياة اللندنية)