تعيش
الجزائر هذه الأيام حراكا سياسيا فريدا من نوعه يتمثل في البحث عن رئيس قوي ينقذها من وباء الفساد وهدر المال العام والبيروقراطية والمشاكل التي تعيشها في معظم مجالات الحياة. الكلام يدور حول عهدة رابعة للرئيس الحالي الذي يعاني من مشاكل صحية قد لا تؤهله لأداء مسؤولياته كما ينبغي، أو رئيس جديد برؤى جديدة وموازن قوى جديدة قد تمكنه من التخلص من عهد مهترئ والشروع في مرحلة جديدة تقوم على الرشاد الاقتصادي والتنمية المستدامة والشفافية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.
في هذه الظروف يأتي السابع والعشرين من شهر ديسمبر هذا العام ليذكر الشعب الجزائري بالرجل الذي وهب حياته لبناء دولة خرجت من حرب ضروس ضد استعمار غاشم نشر الجهل والحرمان والاستبداد والطغيان، رجل كان شغله الشاغل هو استدراك ما فات البلاد من علم وتكنولوجيا وديمقراطية وتشييد وبناء مادي ومعنوي وبشري للحاق بركب الحضارة والتقدم والرفاهية والتطور. فالذاكرة الجماعية الجزائرية ما زالت تتذكر أعمال الرجل والشعب الجزائري اليوم ما زال يحلم ببروز شخصية سياسية من حجم بومدين حيث إنه بأشد الحاجة إلى شخصية سياسية كارزمتية قوية تخرج البلاد من الاختناق السياسي الذي تعيشه ومن ظاهرة البحث عن رئيس يقدر على إدارة البلاد والعباد ومحاربة الفساد.
كان بومدين يؤمن بضرورة التوازن الجهوي وعدم التركيز على منطقة دون أخرى، خاصة عدم التركيز على المراكز الحضرية أو الشمال وتجاهل المناطق الداخلية والجنوبية والنائية والصحراوية خاصة أن الجزائر هي ثاني دولة من حيث المساحة في إفريقيا. تعتبر الخدمة الوطنية أو الخدمة العسكرية من أهم الآليات التي اعتمدها الراحل بومدين لتكوين جيلا جديدا من الشباب لا تفرق بينه لا الجهات ولا الطبقات الاجتماعية، ففي الخدمة الوطنية كان يلتقي ابن الفلاح بابن البورجوازي وابن الشمال بابن الجنوب و "الشاوي" بـ "الوهراني" و "القبائلي بـ "الميزابي"… الخ.
ومفهوم الخدمة العسكرية عند بومدين لم يكن يتحدد في الثكنة العسكرية والجيش السلبي وإنما كان يرى بومدين في الخدمة العسكرية بناء الوطن كالمساهمة في بناء الطريق الصحراوي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ليكون بوابة الجزائر للقارة الإفريقية وكذلك بناء السد الأخضر وهو عبارة عن شريط أخضر يقطع الجزائر من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق وعرضه 20 كيلومترا من الأشجار والأحراش لمكافحة زحف الصحراء نحو الشمال، أي تصحر الجزائر.
كما ركّز الراحل بومدين على تعميم ودمقرطة التعليم وتوفير التعليم للجميع ومن خلال هذه السياسة أتيحت الفرصة للفقير ولابن الفلاح للجلوس على مقاعد المدرسة جنبا إلى جنب مع مختلف الفئات الاجتماعية، وأدت هذه السياسة إلى تكريس العدالة الاجتماعية وإتاحة نفس الفرص لجميع أبناء المجتمع من دون تمييز ولا تفرقة.كان المرحوم بومدين يرى في سياسة التعريب استكمال السيادة الجزائرية واسترجاع هويتها وشخصيتها وعروبتها. فبعد استقلالها وجدت الجزائر مشاكل عويصة ومعقدة تراكمت على مدى أكثر من قرن من الزمن، وهكذا وجدت الجزائر نسبة كبيرة من نخبتها المثقفة والقائدة والفاعلة لا تعرف شيئا عن اللغة العربية وعن أصولها وتاريخها، ووجدت القلة القليلة من النخبة المثقفة باللغة العربية نفسها محاصرة من قبل الفرانكوفونيين والفرانكوفوليين هكذا ظهرت في الجزائر ازدواجية اللغة بمفهوم سلبي، حيث تم تسييّس هذه الظاهرة وأصبحت الأمور تسير وتنفذ انطلاقا من مفهوم المفرنس والمعرب.
وظهر مصطلح
الفرانكوفيل تعبيرا عن أذناب فرنسا وبقاياها المدافعين عن مصالحها رغم رحيلها من أرض المليون والنصف مليون شهيد. بومدين لم يكن معاديا للفرنسية حيث كان يتقنها جيدا ويستعملها في أحاديثه الصحفية مع الصحفيين الأجانب لكنه كان يعتبرها وسيلة وقناة للتواصل كغيرها من اللغات الأخرى، لكن العربية كانت بالنسبة لبومدين هي روح الجزائري وجسده، كانت اللغة العربية بالنسبة للرئيس الراحل هي الجزائري نفسه وبدونها فإنه فقد هويته وبذلك فقد نفسه. وينطلق بومدين في هذه الإشكالية من مبدأ أن الذي يكتب أو يتكلم بالفرنسية فإنه يفكر بالفرنسية وبذلك يلبس بالطريقة الفرنسية ويأكل الأكل الفرنسي ويشرب الشراب الفرنسي، وأخيرا يتقمص أو يذوب في شيء اسمه فرنسا أو الفرنسي.
هكذا إذن كانت للرجل رؤية واستراتيجية وكان يحلم دائما بمناصرة الفقراء والمساكين والمستضعفين سواء على مستوى بلده الجزائر أو على المستوى القاري أو العربي أو العالمي. ذلك الرجل الذي وقف على منبر الأمم المتحدة سنة 1974 وطالب بنظام اقتصادي عالمي جديد يضع حدا للاستغلال والبطش والابتزاز الذي تمارسه الدول العظمى على حساب الدول المستضعفة والفقيرة والمغلوب على أمرها بسبب نهب وسرقة تلك الدول التي تسمى بالمتقدمة.
لا ننسى كذلك أن الجزائر في عهد المرحوم بومدين لعبت دورا بارزا في حل العديد من الأزمات الشائكة والعويصة وكانت الوسيط في حل العديد من المنازعات والصراعات الإقليمية والجهوية.كيف ينسى التاريخ
هواري بومدين وهو الذي تحدى فرنسا وأمّم المحروقات في 24 فبراير 1971 وهو الذي وضع مشروع بناء الألف قرية فلاحية للمزارعين الجزائريين الذين عانوا من ويل الاستعمار الفرنسي الغاشم وجردوا من أراضيهم، كيف ننسى بومدين وهو الذي قال "أؤمن بالمساواة في تعليم أبنائنا، إنه لا يعقل أن ابن الفقير يرعى قطيع الغنم بينما ابن الغني يذهب إلى المدرسة" فمن ديمقراطية التعليم إلى الطب المجاني إلى التوازن الجهوي. رحم الله الفقيد هواري بومدين وأسكنه فسيح جناته. وخير دليل على شهامة الرجل ومروءته وقدرته في تسيير شؤون الشعب والبلاد هو حلم الجزائر اليوم بعودة "البومدينية" وإيجاد رئيس تتوفر فيه مواصفات وكاريزما الرئيس هواري بومدين، فهل ستنجب الجزائر بومدين آخر؟
الجزائر اليوم وأكثر من أي وقت مضى وعلى أشهر بل أيام معدودات من الاستحقاقات الرئاسية القادمة بحاجة إلى شخص قوي، شخص محنك ينقذ البلاد من ثقافة الرداءة والبيروقراطية وإهدار المال العام والفساد. فالجزائر البلد الذي يتوفر على مستلزمات وشروط التطور والازدهار والتقدم سواء تعلق الأمر بالإمكانات المادية أو البشرية ما زالت وبعد مرور ما يزيد على نصف قرن من استقلالها تعاني من نقائص واختلالات جوهرية على مختلف الصعد.
(بوابة الشرق)