عندما أسقطت
الخلافة الإسلامية عام 1924 وغاب رمز الدولة الإسلامية الجامعة لأول مرة في تاريخ الإسلام، تباينت ردود الأفعال إزاء هذا الزلزال الذي أصاب شعوب الأمة ومؤسساتها الدينية. لقد بكاها أمير الشعراء أحمد شوقي (1285 – 1351 هـ، 1868 – 1933م) وقدم الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1313-1391هـ، 1895-1971م) رسالة دكتوراة - في باريس - عن "فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم إسلامية" قدم فيها تصورا عبقريا لإحياء الخلافة وتجديدها في عصر القوميات والوطنيات.
وعقدت العديد من المؤتمرات الإسلامية في مصر وخارجها لإحياء الخلافة، لكن الهيمنة الاستعمارية التي عمت بلواها بلاد الإسلام قد فرضت التجزئة على العالم الإسلامي، وسعت لفرض الهيمنة على السياسة والقانون في الشرق الإسلامي، فباءت محاولات إحياء الخلافة بالفشل الذريع.
وعلى الرغم من أن طبيعة السلطة في الخلافة والدولة الإسلامية هي طبيعة مدنية، منافية للثيوقراطية والكهانة والسلطة الدينية، وفق ما حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وإنه سيكون خلفاء" (رواه البخاري وابن ماجه والإمام أحمد)؛ الأمر الذي يقطع بتميز طبيعة السلطة في الدولة الإسلامية عن مثيلتها في النظم التاريخية السابقة، فإن الذين سعوا إلى علمنة السياسة والقانون في الدول الإسلامية قد اتهموا الخلافة الإسلامية - على مر تاريخها - بالثيوقراطية والاستبداد.
ولقد جاء هذا الاتهام الغريب في كتاب الشيخ علي عبد الرازق (1305-1386 هـ، 1883 – 1966 م) "الإسلام وأصول الحكم" الذي صدر عقب إسقاط الخلافة مباشرة، وفيه قال: "إن الخليفة ولايته عامة مطلقة.. فولايته كولاية الله تعالى وولاية رسوله، بل لقد رفعه المسلمون فوق وصف البشر، ووضعوه غير بعيد من مقام العزة الإلهية، ولم ترتكز الخلافة - على مر تاريخها وحتى في عهدها الراشد - إلا على أساس القوة الرهيبة"!
ولقد جاء الرأي شاذا ومناقضا لكل ما كتب عن الخلافة الإسلامية - من الغربيين والشرقيين على حد سواء - فالمستشرق الإيطالي العلامة "دافيد سانتيلانا" (1845 – 1931 م) الفقيه في الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، والذي قام بتدريسهما في الجامعات الشرقية والغربية، ينفي الثيوقراطية عن الخلافة الإسلامية، فيقول: "إن خلفاء الرسول ما هم بوارثي رسالته الروحية، لقد أبى أبو بكر قبول لقب "خليفة الله" واكتفى بلقب "خلفة رسول الله، ثم درج لقب "أمير المؤمنين" منذ زمن عمر بن الخطاب، فحدد بكل وضوح صفة ممثل السلطة العليا، الذي هو في الحقيقة ليس عاهلا ملكا بل هو أمير".
أما وظيفته الدينية فليس منها ما يضفي عليه صفة القداسة، أو يسمه بميسم الكهنوت، إن سلطة الخليفة كرئيس ديني لا يمكن أن تعتبر سلطة حبرية أو بابوية، فهو يتجرد تماما من صفة الكهنوت، لأن حكومة المسلمين ما كانت في أي زمن أو ظرف حكومة دينية، ولم يوجد فيها تعاقب رسولي".
ولقد يدهش العلمانيون – في بلادنا – عندما يعرفون أن هذا هو رأي الدكتور
طه حسين (1306 – 1393 هـ، 1889 – 1973 م) في الخلافة الإسلامية التي كتب عنها في كتابه "الفتنة الكبرى" فقال:
"قد يظن بعض الذين تخدعهم ظواهر الأمور أن الحكم الإسلامي – في العهد النبوي وفي الخلافة – كان نظاما ثيوقراطيا، يستمد سلطانه من الله وحده، ولا شأن للناس في هذا السلطان. ولا شك أن هذا الرأي هو أبعد الآراء عن الصواب. ذلك أن الإسلام لم يسلب الناس حريتهم، ولم يملك عليهم أمرهم كله، وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها لهم. لقد ترك لهم عقولا تستبصر وقولبا تستذكر، وأذن لهم في أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة والمصالح الخاصة ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وما من شك في أن خليفة من خلفاء المسلمين ما كان ليفرض نفسه وسلطانه عليهم فرضا، إلا أن يعطيهم عهده ويأخذ منهم عهدهم، ثم يمضي فيهم الحكم بمقتضى هذا العقد المتبادل بينه وبينهم. فالخلافة الإسلامية عهد بين المسلمين وخلفائهم، ولقد قام أمر الخلافة كله على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقدا بين الحاكمين والمحكومين، يعطي الخلفاء على أنفسهم العهد أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل، وأن يرعوا مصالحهم، وأن يسيروا فيهم سيرة النبي ما وسعهم ذلك، ويعطي المسلمون على أنفسهم العهد أن يسمعوا ويطيعوا وأن ينصحوا ويعينوا. لذلك فإن الرأي القائل بأن نظام الخلافة إنما هو النظام الثيوقراطي الإلهي هو أبعد الآراء عن الصواب.
لم يكن نظام الحكم الإسلامي نظام حكم مطلق ولا نظاما ديمقراطيا على نحو ما عرف اليونان، ولا نظاما ملكيا أو جمهوريا أو قيصريا مقيدا على النحو ما عرف الرومان، وإنما كان نظاما إنسانيا، ولكنه على ذلك تأثر بالدين إلى حد بعيد جدا.
لم يكن الخليفة يصدر عن وحي أو شيء يشبه الوحي في كل ما يأتي وما يدع، ولكنه على ذلك كان مقيدا بما أمر الله به من إقامة الحق وإقرار العدل وإيثار المعروف وإجتناب المنكر والصدور عن البغي".
هكذا تحدث طه حسين عن الخلافة الإسلامية حديثا مناقضا لما يزعمه عنها كل العلمانيين، بمن في ذلك الذين يتعصبون لطه حسين.