الله يسامح جاك قالانت وشينجي نيشيموتو، الباحثين في مجال أمراض الجهاز العصبي والدماغ في جامعة كلفورنيا (بيركلي)، فقد توصلا الى نظام يسمح بتصوير الأفكار بالفيديو من خلال جهاز الرنين المغنطيسي الوظيفي functional magnetic resonance imaging (fMRI). فالنظام يترجم ما يدور في ذهنك الى صور فيديو، بل ويصور الأشياء التي تشاهدها عبر مسح دماغي، وبالتالي فلو تذكرت شيئا ما، فإن الجهاز يترجمه الى صورة مرئية، وبهذا سيتسنى لمن يعجزون عن الحركة أو الكلام لعلة طارئة أو إعاقة دائمة التواصل مع الآخرين بأن يفكروا في أمر ما، أو يطلبوا شيئا ما، فيظهر ذلك الأمر أو الشيء على شاشة، وبهذا أيضا يصبح الطبيب النفساني قادرا على فهم فيم وكيف يفكر مرضاه! وسيكون بمقدور الشرطة تسجيل وقراءة ما يدور في أذهان مرتكبي الجرائم فيتوصلوا إلى ما يؤكد إدانتهم حتى لو أنكروا التهم، وحتى في غياب أي نوع من الأدلة القاطعة أو الظرفية، وسيصبح ممكنا تسجيل الأحلام. يعني إذا كنت من النوع الذي يحلم بلقاء هيفاء وهبي في الصحو والمنام، فمن الوارد أن تنجح في تسجيل "حلقة" للقائك المتوهم بها، ويا ويلك إذا كنت متزوجا وشاهدت زوجتك ذلك اللقاء بالفيديو، لأنك قد تنال لقب "خليع" بعد أن تخلعك، أو قد تتعرض لخلع الكتف أو بضعة أضراس، وعليك أن تضع في الحسبان أن الأحلام لا تخلو من مقالب، فقد تنام وأنت ترجو أن تحلم برحلة بحرية مع هيفاء، وتصحو لتجد التسجيل كله لقطات لك مع شعبان عبد الرحيم (شعبولا) في محل لبيع الدجاج الحي، وقد تجتهد إحدى البلهاوات في تذكر مهند التركي وتشغل نفسها لعدة أيام بالتفكير فيه، على أمل أن تراه في المنام، وتنام، وتسمع في الحلم موسيقى غريبة، ويظهر من بعيد فارس، فيخفق قلبها، وما أن يقترب الفارس حتى تصرخ وتستيقظ وهي تتصبب عرقا، فتقرأ "قل أعوذ برب الفلق"، فقد كان الفارس هو أبو الجعافر سليل العناتر، وكان على ظهر حمار.
عندما زرت أمريكا لأول مرة – وربما لآخر مرة - في آب/ أغسطس من عام 2009، تصببت عرقا في مطار واشنطن دالاس، لعدة أسباب من بينها أنني من المشمولين في قوانين الأمن الأمريكية بـ"عناية" خاصة بوصفي سودانيا (ويحظى بتلك العناية أيضا السوريون والإيرانيون، ولا أفهم لماذا فاز السودانيون بتلك النظرة الأمنية الخاصة وهم لا يملكون مفاعل حتى لنوى التمر). وما جعلني في ذلك المطار مهددا بفقدان سوائل الجسم، أنني سمعت أيضا عن جهاز لتفتيش المسافرين يقوم بنفسه بتجريدهم من ملابسهم، أي أنه يخترق الملابس ويصور جسم المسافر بالتفصيل الممل، وأنا من عائلة محافظة، ولا أتعرى حتى أمام الطبيب، وأغلق باب الغرفة على نفسي حتى عندما أريد أن "أُغيِّر" رأيي في أمر ما، فكيف أرضى لنفسي أن يراني شخص ما عاريا (رغم أنفي)؟ وبحمد الله فإن مطار واشنطن لم تكن به سوى أجهزة التفتيش العادية، وخرجت منه وشرفي محفوظ. (الأمانة تقتضي أن أعترف بأن مثانتي كادت أن تصاب بالتسيب في ذلك المطار، عندما أتوا بكلب من فصيلة العجول ليطوف حولنا ويشم أجسادنا وأمتعتنا). والآن خرج علينا الدكتوران قالانت ونيشيموتو بهذا الجهاز العجيب الذي يحول الأفكار والأحلام الى صور، وبالتالي فإنني أسحب الجملة التي بدأت بها المقال، وأقول "الله لا يسامحهما".
بعض الحكومات العربية ستتسابق لشراء ذلك الجهاز/ النظام، (وربما تعطيني عمولة)، ولكن ليس لاستخدامه لأغراض العلاج ومكافحة الجريمة، بل لمكافحة العناصر التخريبية التي تهدد وحدة البلاد واستقرارها وتعرقل "الطفرة التنموية الميمونة"، ولأن تلك الحكومات تؤمن بالشفافية، فإنها ستستخدم ذلك الجهاز لجعل رؤوسنا شفافة، يعني حتى لو مسكت لسانك وكنت معارضا صامتا للحكومة، فإنك ستتعرض للسجن والتعذيب لأن الرنين المغنطيسي يكشف أوراقك وأفكارك السوداء. وقد تجلس أمام المحقق الأمني الذي يوجه لك الاتهام بعدم الولاء للوطن (لأنه يختزل الوطن في الحكومة) فتقول له إنك لا تعبأ بالسياسة، ولا تؤمن بالتداول السلمي للسلطة و"الله يخلي لنا الحكومة" و.. فجأة تنهال على وجهك صفعة: يا كذاب يا مجرم.. انظر إلى الشاشة يا مخرب يا مخرف يا مهرطق، ثم ترى نفسك على الشاشة ممسكا برشاش مصوب نحو المحقق ومعه عدد من كبار المسؤولين يجلسون معه معصوبي الأعين، فتقول هامسا: الدوام لله لأنك تدرك عندها أن أوان ذكر محاسنك قد حان.
اليابانيون اخترعوا أيضا جهازا يعين محترفي ما نسميه "المعاكسة"؛ على قراءة أفكار المتغزِّل به/ بها، ليقرر من يمارس الغزل ما إذا كانت هناك جدوى من الاستمرار في المغازلة، لأن الجهاز يقرأ ردود أفعال الطرف المستهدف دون ان ينبس ذلك الطرف بحرف، ولكنهم امتنعوا عن تسويق الجهاز لأنهم أدركوا أن الأنظمة
الديكتاتورية ستستخدمه لـ"تدبيس" معارضيها وتستحدث قوانين لمكافحة التفكير الصامت والأحلام الهدامة: تقف أمام محكمة عسكرية إيجازية ويعرض ممثل الاتهام فيلما عن أفكارك "الخبيثة"، ولأن التهمة "لابسة" فستذهب إلى السجن (إذا كنت محظوظا).