تواجه مساعي وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لإعادة الدفء إلى ملف التسوية، فيما يعرف اليوم بـ"خطة كيري" أو "خطة إطار التسوية"، أصواتا رافضة مرتفعة لدى طرفي الصراع، قبل أن تتضح ملامح هذه الخطة وخطوطها العريضة. إذ يزداد ضجيج القوى الإسرائيلية اليمينية والمتطرفة، والتي صبت، خلال الأسابيع الماضية، جام غضبها على الإدارة الأميركية، وعلى الوزير كيري شخصيا ووصف بأقسى الصور.
في المقابل، تواجه جولات كيري رفضا من أطراف عربية واسعة، وتحديدا داخل
الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي وسط نخب وتيارات سياسية فلسطينية في الداخل والخارج. أما الرفض على
الساحة الأردنية، فيأخذ أشكالا أكثر تعقيدا، وقد انتقل من النخب الأيديولوجية إلى الشارع والبرلمان.
المفارقة أن هذا الرفض المتبادل يتصاعد قبل أن تُكشف الخطة المنتظرة، أو أن يتم تبني مقترحات واضحة، كما جرت العادة في مبادرات وجولات سابقة؛ وكأن حملات الرفض هذه مصنعة، وجزء من أدوات الضغط في التفاوض، أو شكل جديد من أشكال إعاقة فكرة التسوية بحد ذاتها. وهو الأمر الذي ذهب إليه التقدير الاستراتيجي الصادر عن مركز الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب؛ إذ قلل من فرص تحقيق أي اختراق حقيقي في هذا المجال، بل وردد أن شروط التسوية غير ناضجة وتحتاج إلى أجيال. وهو ما يفسره تماما منهج إدارة الأمر الواقع، واستمرار الاستيطان في الأراضي المحتلة؛ إذ تسيطر الأولوية الإيرانية على طروحات الخارجية الإسرائيلية، في حين تحدث رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أكثر من مرة، بلغة تشكك في أي احتمال للتسوية، وكان وزير دفاعه موشي يعلون قاطعا في تقديره أن لا مجال للتسوية قبل أجيال.
هناك منظوران يديران أزمات الشرق الأوسط في هذا الوقت، وعلى ثلاثة محاور أساسية، هي: الأزمة السورية، والصراع التاريخي في الشرق الأوسط، وتصفية آثار "الربيع العربي" وأزماته المتدحرجة. وهذان المنظوران هما: الحرب الإقليمية على نظرية مسرح الفوضى الشاملة. فيما الثاني هو منظور الصفقة الشاملة.
فما يمكن أن يُفعل بالسياسة، سيتم بالتفاهمات والصفقات. أما ما يستعصي على السياسة، فسيحتاج إلى أداة أخرى للتحريك. فقرارات إشعال المنطقة بأكملها جاهزة، وتكاد دلالاتها تبدو ظاهرة. في المقابل، ثمة مؤشرات متصاعدة، تتنامى يوما بعد يوم، تشير إلى صفقة شاملة، تقوم على تفاهمات بين الكبار وينفذها الصغار والكبار معا، عنوانها الأول سورية. فيما تمتد نحو بداية عملية تاريخية ثالثة (بعد كامب ديفيد الأولى، ومسار مدريد وأوسلو ووادي عربة؛ المسار الجديد) في تصفية الصراعات التقليدية، ثم إعادة هندسة الشرق الأوسط في ضوء وقائع "الربيع العربي".
لكن اللعنة الحقيقية التي تعني المزيد من القتل والدمار، والمزيد من الخسارات والكوارث، فهي إذا ما سيطر المنظور الثالث؛ أي إدارة الأزمات من المدخل الإسرائيلي ذاته، بلا حرب حاسمة أو تحريك للبحيرات الراكدة، ولا صفقة سياسية، واستمرار مدخل إدارة الصراع من دون حسم على الجبهة التقليدية مع إسرائيل، وعلى جبهة الصراع الداخلي في سورية. ما يعني لعنة السياسة بالمعنى التاريخي.
(الغد)