في منتصف التسعينيات دعيت إلى مؤتمر يعقد في الدار البيضاء المغربية، علم أحد الأصدقاء بعزمي على
السفر فسلمني أمانة صغيرة من والدته حتى أوصلها إلى سيدة تعمل في المجال الدعوي النسائي هناك هناك.
بعد وصولي إلى المغرب اتصلت بالهاتف المكتوب على مظروف مرفق بتلك الأمانة، وكلمتني طفلة صغيرة لم تتعد العاشرة من عمرها، فسألتها عن والدتها وأخبرتني أنها خارج المنزل، فسألتها مرة أخرى إن كانت تحسن الكتابة وإن كان لديها قلم وورقة، أجابت بلهجتها المغربية التي نسمعها نحن المشارقة وكأنها تخرج من عمق البلعوم، نعم لدي كل ذلك، أضحكني أسلوب الطفلة في الحديث وأدبها الجم ، فأعطيتها اسم الفندق و رقم الغرفة و طلبت منها أن تخبر والدتها بأن لدي غرضًا أرغب في إيصاله إليها.
وفي المساء اتصلت بي السيدة وجاءت مع زوجها في اليوم التالي لاستلام الأمانة، كانت السيدة في حوالي الخمسين من عمرها وزوجها في الستينيات من عمره ، تحدثنا عن زيارتها السابقة إلى الدوحة وعن النشاط الذي تزاوله في مجال الدعوة النسائية، ثم ذكرت لها كيف أن ابنتها الصغيرة استطاعت أن تكتب كل المعلومات التي أعطيتها إياها بدقة وأن أسلوبها في الحديث جميل وواضح، ولدهشتي قالت إنها ليست ابنتي .
ثم حكت لي الحكاية التالية :
منذ سنوات طويلة طرق بابنا في الدار البيضاء رجل كنا نعرفه عندما كنا نعيش في قريتنا التي تقع في الجنوب المغربي، كانت حاله بائسة ، يحمل طفلة مازلت في مهدها ، تبكي بكاء يقطع نياط القلب ، فطلب منا أن نعتني بالطفلة التي ولدتها زوجته اليوم وتوفيت بعدها مباشرة ، وسيكون مشغولا خلال الأيام القادمة بنقل جثمانها إلى القرية لدفنه هناك.
تقول السيدة، أخذت الطفلة منه وذهب ، وبعد أن أغلقت الباب حاولت إسكاتها بكل وسيلة و لم افلح، وشعرت أن الطفلة ستموت إن لم أجد لها مرضعة وبسرعة ، وبعدها بعدة ساعات طرقت بابنا فتاة شابة تحمل في أحشائها جنينا على وشك الخروج إلى الدنيا، وطلبت مني أن أؤيها في منزلي، فهي فقيرة قد تركها زوجها وحيدة وليس هناك من يعتني بها.
رفعت يدي إلى السماء شاكرة الله على نعمه وفضله، وقلت للفتاة، إن شرطي الوحيد هو أن ترضعي هذه الصغيرة ، ثم سلمتها الطفلة التي كانت في يدي، أخذت الفتاة الطفلة و بدأت في إرضاعها وعاشت تلك الفتاة معنا حتى وضعت هي بدورها، وبعدها بفترة غادرتنا ولم تعد إلينا أبدا، و كأن الله أرسلها لترضع هذه الطفلة الصغيرة فقط ، أما والد الطفلة فقد توفي في القرية بعد دفن زوجته بعدة أشهر.
انتهت مقابلتي مع السيدة و زوجها وودعتهما.
بعد هذه الحادثة بحوالي الثماني سنوات، دعيت إلى الرباط لحضور مؤتمر آخر، كان مملا كالكثير من المؤتمرات التي يغلب على متحدثيها التكرار وعلى مستمعيها النوم ، خرجت من القاعة ووجدت سيدة أمامي ، كانت هي ذات السيدة التي قابلتها في زيارتي الأولى للدار البيضاء، عرفتها بنفسي، وبقيت للحظات تستدعي ذاكرتها حتى تذكرتني واعتذرت لكبر سنها، سألتها عن زوجها فقالت بصوت حزين إنه توفي منذ عدة سنوات، ثم سألتها عن طفلتها التي حدثتني على الهاتف، فقالت لن أخبرك حتى تأتي لتزورني في مقر عملي في الدار البيضاء.
ذهبت إلى هناك وأوقفني سائق سيارة الأجرة أمام بيت كبير جميل وأخبرني أن هذا هو العنوان، نزلت وطرقت الباب مترددا، فتحت لي فتاة في السابعة عشرة من عمرها محجبة، تلبس جلبابا واسعا، ابتسمت بعد أن رأتني ثم قادتني خلال حديقة جميلة حيث تجلس مضيفتي على طاولة وحولها مجموعة من الكراسي، سلمت عليها مبديا إعجابي بالمنزل وحديقته.
قالت لي إن هذا المنزل قد أوقفته إحدى السيدات ليكون مقرا للدعوة النسائية حيث يمتلئ المكان أثناء المناسبات والدروس بهن ، والمركز يعنى بمتابعة النساء الكبيرات في السن اللواتي يبحثن عن مجموعة تساندهن في وحدتهن و تثقفهن في دينهن.
ثم أشارت السيدة إلى الفتاة، وقالت هذه هي التي تحدثت معها هاتفيا منذ عدة سنوات، وهي ستتزوج قريبا، احمر وجه الفتاة خجلا وغادرت.
قد تفلح الحياة في نخر حياتنا و تدميرها أو هكذا نشعر أحيانا، ولكن تبقى رحمة الله وعافيته تخفف عنا هذا الشعور، فمن أرسل للرضيعة حليبها بعد وفاة أمها قادر على كل شيء.