عبارة «لكي تعرف ماذا في سورية عليك أن تعرف ماذا في أوكرانيا»، أو بالعكس، اقتباساً عن المسلسل الكوميدي، لا تبدو اليوم هزلية، بل واقعية، بل «رؤيوية».
ففي غضون أيام انخطف الاهتمام الدولي كلياً لترقّب مسار
الأزمة الدولية الجديدة. تلقائياً، تأثر الحدث السوري بالحدث الأوكراني، وانطلقت التكهّنات والسيناريوات، فضلاً عن المقارنات وقد بدت مجالاتها كثيرة، سواء في اختلافات ثقافة الحكم ونمط النظام وممارساته، أو في تشابهات التركيبة السكانية والانقسام الجغرافي السياسي وبعض الوقائع التاريخية لتشكّل الدولة هنا وهناك، بالإضافة إلى وجود صراع دولي في طيّات صراع داخلي، ونوازع لتمكين الأقلية من حكم الأكثرية.
ثمة الكثير مما يعصى على أي مقارنة. فالعنف الوحشي الذي اعتنقه النظام السوري، عقليةً وتطبيقاً، لا يمكن قياسه إلا الى النماذج الأكثر بشاعة في التاريخ. ففي كييف لا يزالون الى اليوم يضعون الورود على الأماكن التي سقط فيها بضع عشرات القتلى في ميدان الاستقلال، ولا يتعرّض لهم أحد. وفي العديد من مناطق سورية أطلقت النار على المتظاهرين ثم على المشيّعين، وقُتل الجرحى في المستشفيات ثم الأطباء والمسعفون، ورغم سقوط ما لا يقلّ عن مئة وخمسين ألف انسان يزداد النظام تعطشاً للدماء ورغبة في التدمير. وفي سورية لم يثر الشعب لأنه يريد، كالأوكرانيين، الالتحاق بالغرب بل لإسقاط نظام داس كرامته وتجاوز كل الحدود في إذلاله. لكن السوريين وجدوا، كالأوكرانيين، أن خياراتهم الداخلية لا بدّ أن تمرّ بالبازارات الخارجية، فالنظامان يريدان انقاذ نفسيهما. ورغم كل شيء فإن «اوروبية» أوكرانيا تبقي حتى جدل نقاشات المتدخلين فيها تحت سقف القوانين الداخلية والدولية، أما في سورية فإن الشعب والمتدخلين دخلوا غاباً من المتاهات يحتاج كل أمر فيها الى تأسيس أو اعادة تأسيس.
يتمنّى «أصدقاء» أوكرانيا أن يتمكّنوا من احتواء الأزمة في القريب العاجل. لا يريدون حرباً أهلية ولا حرباً روسية - اطلسية، فالبلد مأزوم أساساً باقتصاده قبل أن يكون مأزوماً بساسته أو بانقسام شعبه بين شرق وغرب (بمفهوميهما الموروثين من الحرب الباردة). وبالمناسبة جاء النفي من موسكو كما من واشنطن بأن ما يجري ليس في اطار «حرب باردة» متجددة، وأنه لا يعيدها ولا يشبهها، وإذا لم يكن الحاصل صراعاً على النفوذ فما عساه يكون اذاً. جون كيري تحدّث عن روسيا التي تطبّق أساليب القرن التاسع عشر، مستعيدة تراثها الحربي الامبراطوري، في مواجهة غرب بات أكثر ميلاً الى معالجة النزاعات (خصوصاً في اوروبا) بالأفكار والأدوات التي يعالج بها أزماته الاقتصادية. يُفهم للتو أن مصطلح «الحرب الباردة» كان يعني صراعات المصالح والنفوذ خارج اوروبا تجنباً لتكرار الحربين العالميتين. ماذا عن سورية في هذه الحال؟ انها الساحة التي وجد فلاديمير بوتين أن نظامها لا يزال «سوفياتياً» قلباً وقالباً، وبالتالي أمكن استرجاع عقلية الحرب الباردة في استغلال أزمتها.
لكن، في الحالين، يزداد الغرب ثرثرةً أما بوتين فلا ينفكّ يقلب الهزائم انتصارات ويسجّل مكاسب، فهو خليفة بطرس الأكبر وستالين وليس خليفة غورباتشيف ويقود عالماً انتمى اليه صدّام حسين ومعمر القذافي وبشار الأسد وآخرون أقل شأناً، ويشهد حالياً تألق نجم النظام الإيراني في سمائه.
هل أوكرانيا غير سورية بالنسبة الى الولايات المتحدة ودول الغرب؟ يفترض أنها كذلك، لكن ردود الفعل الأولية على التحرك الروسي، من التأهب العسكري الى الترخيص البرلماني بالتدخل ثم بداية التدخل وتسارع تغيير الوقائع على الأرض، لا يمكن أن تلجم الاندفاعة البوتينية. لا بـ «الثمن» الذي توعّد به باراك اوباما، ولا الانسحاب من تحضيرات قمة سوتشي والتهديد بإسقاط روسيا من مجموعة الدول الـ 8، ولا التلويح بعقوبات، يمكن أن تثني قيصر موسكو عن تثبيت نفوذه في أوكرانيا رغماً عن الأوكرانيين. وطالما أن حلف الأطلسي لم يتحرك بدوره فلا شك في أن لجوء روسيا سريعاً الى إظهار الخيار العسكري يمنحها حالياً على الأقل يداً عليا على أي حل سياسي تتفاقم صعوباته يوماً بعد يوم. لكن أزمة أوكرانيا لا تزال في بدايتها.
بالنسبة الى سورية لم تنكشف حقيقة الموقف الروسي إلا بعد ستة شهور على انفجار الأزمة، أي مع «الفيتو» الأول في مجلس الأمن، ولم يتغيّر بعده قيد أنملة، أو قل أنه أمضى ثلاثة أعوام كاملة وهو يطلق قنابل دخانية للتعمية موهماً الجميع وبالأخص الأميركيين بأنه يبحث عن حلّ سياسي. لم يكن الاستياء من التطورات الأوكرانية ما جعله يُسقط تعهداته بشأن مفاوضات «جنيف 2» بل أن دعمه وجهة نظر النظام كان موقفه الحقيقي. فحين زار وفد «الائتلاف» السوري المعارض موسكو، قبيل الجولة الثانية للتفاوض، استخدم سيرغي لافروف كل صراحته الفظّة لإفهام الوفد بأن «هيئة الحكم الانتقالي» مسألة غير واردة، ولكي يكون بالغ الوضوح قال لأحد الأعضاء: «ولا في الأحلام»!..
لكن المعارضة أصرّت، بتشجيع غربي وعربي، على الهيئة الانتقالية كمدخل للحل السياسي، آملة بأن يكون هناك «اتفاق ضمني» أو «تفاهم» بين الأميركيين والروس. أي الاحتمالات كان أقرب الى الواقع: كان «التفاهم» على اقحام الطرفين في التفاوض فحسب، أم كان على «نقل السلطة» ثم نقضته موسكو بسبب تحريك الملف الأوكراني، أم كانت روسيا تخادع منذ البداية؟
في أي حال غرقت العودة الى جنيف موقتاً في الغموض، بل عادت عملياً الى نقطة الصفر. وما لم تتبلور صيغة دولية جديدة سيصعب استئناف التفاوض، ومع دخول الدولتين الكبريين في مواجهة حول أوكرانيا لم يعد متصوّراً أن تجددا مساعيهما بشأن سورية. طبعاً، يمكن النظام السوري أن يعتبر الوضع لمصلحته، لكنه ليس بالضرورة ضد مصلحة المعارضة التي تحتاج بشدّة الى اعادة تنظيم صفوفها، خصوصاً أن المرحلة تميل راهناً الى اعادة خلط الأوراق سياسياً وعسكرياً. هناك إلحاح من جانب الدول الداعمة على معاودة الاعتماد على «الجيش الحر»، مع ترجيح احتمال مدّه بأسلحة نوعية ولو على نطاق ضيّق ولفصائل متماسكة في مناطق محددة ومعروفة. قد لا يحصل الهدف على إحداث تغيير كبير في الوضع الميداني لكن المعارضة تريد الحفاظ على ما هو تحت سيطرتها الآن بطرد مجموعات «داعش» من مناطقها والحدّ من اندفاع حلفاء النظام إلى ما بعد منطقة القلمون.
ولكي تتمكن المعارضة من القيام بأفضل استغلال لفترة
الوقت الضائع هذه لا بد للدول الداعمة أيضاً من أن تخفف من تنافساتها وأن تنسق أنشطة الدعم على نحو أفضل. ويؤمل بأن يكون هذا ما استهدفه اجتماع واشنطن الأخير لممثلي هذه الدول، اذ لم يعد خافياً أن انقسامات المعارضة وتشرذمها مردّها في معظم الحالات إلى التناحر الخفي بين الداعمين واختلاف المعايير التي تحكم علاقاتهم بهذه الفصائل وتلك.
لن تدفع الأزمة الأوكرانية موسكو إلى تصعيد سياستها السورية لأنها كانت دائماً مطابقة لخط دمشق - طهران. وأظهرت الوقائع أن الروس لم يدعوا حلفاءهم ولا مرة إلى ضبط النفس، ولم يطلبوا منهم في أي وقت التخلي عن خطط الحسم العسكري. لكن التطورات ستدفع النظامين السوري والإيراني إلى التصعيد، تحوّطاً من إدخال سورية في أي مساومة دولية على حل في أوكرانيا.
(الحياة اللندنية)