دفع السوريون الثمن الأكبر في موجة
الربيع العربي، ويبدو أن مسلسل معاناتهم وتضحياتهم لم يختتم بعد، فالموت لا زال يحصد منهم كل يوم؛ بالبراميل المتفجرة والصواريخ والقنابل، فيما تمعن آلة التدمير تخريبا فيما تبقى من بلدهم.
بعد 3 سنوات من
الثورة، لا زال النظام جاثما على صدر
سوريا والسوريين، فيما بات أكثر من ثلث الشعب رهن التهجير، وأكثر من 150 ألفا في عداد الموتى، وأضعاف العدد من الجرحى، فضلا عن عشرات الآلاف من المعتقلين في ظروف بالغة البشاعة.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بهذه المناسبة، هو ذلك المتعلق بالسبب الكامن وراء بقاء النظام إلى الآن، وربما تراجع آفاق الحسم القريب، أعني الحسم لصالح الثورة، فيما لا يبدو الموقف أفضل بالنسبة للنظام الذي تغيب سيطرته عن نصف التراب السوري.
لعل أحقر ما يمكن أن تسمعه في سياق تفسير هذا الوضع، أعني بقاء النظام بعد 3 سنوات من الثورة عليه، هو القول إن ذلك يؤكد ما يحظى به من شعبية في أوساط الناس.
والحق إننا إزاء إجابة تافهة لا تمت إلى الحقيقة بأية صلة، ليس لأننا إزاء نظام فاسد ومستبد لا يماري في فساده واستبداده أي عاقل، بل أيضا لأنه يأتي في زمن انفجار الهويات الإثنية والطائفية، واستحالة أن تكون الغالبية في سوريا مع النظام، حتى لو لم يشارك بعضها في الثورة ضده.
ليس ثمة شعب يثور بالكامل ضد نظام، وفي جميع التجارب كانت هناك طلائع تقود الثورة وتشارك فيها، بينما توفر الأخرى حاضنة شعبية، ولم يحدث أن نزل الشعب كله ولا حتى ثلثه إلى الشارع، لأن من لديهم القابلية للتضحية في هكذا مناسبات هم القلة، بينما يشارك الآخرون بالدعم والإسناد.
على أن الميزة التي تحلى بها نظام بشار، إنما تتمثل في وجود أقلية ربطت مصيرها بمصيره، وهي ليس أقلية شعبية عادية، بل أقلية مسلحة، لأنها هي عماد المؤسستين الأمنية والعسكرية، وما تبقى منها غير مسلح، ما لبث أن حمل السلاح، وجرى تدريبه بيد مليشيات الحرس الثوري الإيراني. أما الجانب الآخر، فيتمثل في أقليات أخرى ساندته أيضا، وإن بشكل أقل وضوحا من طائفة (الرئيس) في نظام رئاسي مطلق. والنتيجة هي تأمين حوالي ربع السكان لصالحه، إلى جانب تأمين المؤسسة العسكرية والأمنية، أو جزء كبير وأساسي فيها.
لم يكن ذلك هو وحده ما منح النظام رصيد القوة، بدليل أن وضعه بدأ يترنح نهاية 2012، ومطلع 2013، وما أسنده عمليا على الأرض هو تدخل قوات حزب الله وكتائب عراقية، وكل ذلك بإشراف الحرس الثوري. هذا في الشق العسكري، أما الذي لا يقل أهمية، فيتمثل في الجانب الاقتصادي، ذلك أن إيران هي التي دفعت وتدفع عمليا كلفة الحرب، ولولاها لانهار النظام اقتصاديا قبل أن ينهار عسكريا.
وبوسعنا هنا أن نضيف الدعم العسكري والسياسي القوي من طرف روسيا والصين، والنتيجة أن جبهة النظام كانت قوية ومتماسكة في شقها العسكري والسياسي والاقتصادي.
في المقابل كانت جبهة الثوار تعاني من بؤس لا مثيل له. ونحن هنا نتحدث عن الجانب العسكري. ولو كانت هناك إرادة لإنجاح الثورة لنجحت قبل تحولها إلى مسلحة، لكن الشرذمة التي تعانيها هي التي حالت دون تطوير النضال السلمي إلى عصيان مدني يسقط النظام، وهو ما أفضى إلى تحولها إلى ثورة مسلحة.
بعد السلاح دخلت التناقضات من كل شكل ولون على الثوار، وكان واضحا منذ البداية أن الرؤية الصهيونية للمعركة هي التي حكمت المواقف الغربية، أي إطالة أمد المعركة حتى تدمير البلد، واستنزاف الجميع (إيران، تركيا، حزب الله، وربيع العرب)، وقد قلنا ذلك منذ الشهور الأولى لانطلاق الثورة المسلحة. بل إن بعض الداعمين للثورة في الظاهر قد ارتاحوا للعبة الاستنزاف، أولا ضد إيران، وثانيا لأنهم ضد ربيع العرب والثورات، ولا يريدون لأي منها أن تنجح.
الموقف الصهيوني كان يتمثل في منع السلاح النوعي عن الثوار عبر ضغوط أمريكية مشددة على القوى الداعمة للثورة، ولذلك بقي النظام متفوقا في القتل والتدمير، ومع ذلك تقدم الثوار ببسالة واضحة، وتمكنوا من السيطرة على مناطق واسعة، لكن ذلك لم يمنحهم فرصة الحسم.
تناقضات الثوار أنفسهم، وتناقضات الداعمين، والموقف الأمريكي والغربي الرافض لمنحهم السلاح النوعي، كل ذلك أدى إلى ضعف جبهتهم مقابل تماسك جبهة النظام.
تلك هي الحقيقة التي أفضت إلى استمرار المعركة، ما يعني أن المؤامرة كانت ضد الثورة وليست ضد النظام، ورأينا بأم أعيننا كيف انتهت لعبة الحشد لضرب النظام نهاية العام الماضي إلى الاكتفاء بتسليمه السلاح الكيماوي، ولو كانت هناك نية لإسقاطه لما كلف ذلك الكثير، لأن كلفة الضربات كانت مدفوعة أصلا.
بعد 3 سنوات على هذه الثورة الباسلة، وكل هذه التضحيات، فإن ما ينبغي قوله هو أن الوضع لن يعود إلى ما كان عليه بأي حال، فمن دون تسوية ترضي الشعب السوري، ستتواصل المعركة، وسيستمر النزيف، لكن النهاية في كل الأحوال لن تكون كما يعتقد المجرمون الذين ساندوا هذا النظام الفاشي وشاركوه تبعا لذلك جريمته بحق شعبه.